Мелхиседек

يذكر كاتب الرسالة إلى العبرانيّين، كما في نصّ رسالة اليوم، أنّ الربّ يسوع المسيح رئيس كهنة إلى الأبد “على رتبة ملكيصادق”. مَن هو ملكيصادق وما هو كهنوته الذي صار إليه المسيح أيضاً؟ يُجمع علماء التفسير على القول إنّ شخصيّة ملكيصادق مبهمة يكتنفها الكثير من الغموض، ذلك أنّ الكتاب المقدّس يذكره باقتضاب كلّيّ ولا يعطي أيّ تفصيل عن مكان ولادته ونشأته ولا عن بني قومه وإيمانهم. بيد أنّ ثمّة إجماعاً على القول إنّه صورة مسبّقة عن المسيح.

يصف كاتب الرسالة إلى العبرانيّين ملكيصادق بأنّه “ملك شليم كاهن الإله العليّ” (7: 1)، ويتابع قائلاً إنّه “ملك البِرّ ثمّ ملك شليم أي ملك السلام الذي ليس له أب ولا أمّ ولا نسب ولا له بداءة أيّام ولا نهاية حياة، وبذلك يشبَّه بابن الله يدوم كاهناً إلى الأبد” (7 :2-3). ينطلق كاتب الرسالة من اللقاء الذي تمّ بين إبرهيم وملكيصادق بعد عودة إبرهيم من كسر الملوك الذين اجتمعوا عليه، فباركه ملكيصادق بعد أن أخرج خبزاً وخمراً لأنّه كان كاهناً لله العليّ وقال له “مبارك أبرام (هكذا كان اسم إبرهيم قبل أن يبدّل الله اسمه) من الله العليّ مالك السموات والأرض، وتبارك الله العليّ الذي دفع أعداءك إلى يديك، وأعطاه العشْر من كلّ شيء” (تكوين 14: 18-24). ويرد ذكر ملكيصادق ثانية في العهد القديم في سفر المزامير حيث ينشد المرنّم: “أَقسَمَ الربُّ ولن يندم أنْ أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق” (110: 4).

يبدو واضحاً أنّ ملكيصادق يتميّز بصفات تجعله أعظم من إبراهيم ومن كلّ كهنة العهد القديم الذين ينتمون إلى إبرهيم. لذلك يكون الهدف من ذكر ملكيصادق الإشارة إلى نهاية الكهنوت اليهوديّ، ذلك أنّ الكاتب ينفي اعتقاد اليهود التقليديّ القائل بأنّ للكهنوت اللاويّ قيمة مطلقة، مبيّناً أنّ الكتاب المقدّس، قبل أن يتكلّم على ولادة لاوي، رسم ملامح وجه كاهن مختلف ومتفوّق. لذلك يسعنا القول أنّ الحديث عن كهنوت ملكيصادق يرمي إلى التأكيد على أنّ الربّ يسوع المسيح ألغى الكهنوت اليهوديّ وأبطله حين بذل نفسه ضحيّة من أجل حياة العالم وخلاصهم.

يربط كاتب الرسالة إلى العبرانيّين بين مكانة المسيح وما ورد في العهد القديم عن ملكيصادق، فيكشف الكاتب أنّ سفر التكوين يصف ملكيصادق وصفاً يجعله يشبه المسيح الممجّد. فنصّ التكوين لا يذكر نَسَباً لملكيصادق، وهذا الأمر غريب لأنّ النسب كان هامّاً جدّاً في العهد القديم ولا سيّما في مجال الكهنوت. ولا يذكر سفر التكوين مولد ملكيصادق ولا وفاته ولا يضع حدّاً لحياته. وهو يوحي بكاهن يشارك في أزليّة الله ويكون كاهناً للأبد، أي بكاهن يكون ابن الله في الوقت عينه، كما ورد أعلاه في النصّ المستلّ من الرسالة إلى العبرانيّين. من هنا أيضاً يمكننا القول إنّ الكهنوت اليهوديّ غير خالد على العكس من الكهنوت الأبديّ على رتبة ملكيصادق.

انتهاء الكهنوت اليهوديّ يؤول حتميّاً إلى الحديث عن انتهاء المؤسّسات الحاضنة هذا الكهنوت. فكاتب الرسالة إلى العبرانيّين يرى أنّ الكهنوت القديم مؤقّت وغير كامل، وبما أنّ الكهنوت الذي هو قمّة مؤسّسات العهد القديم زائل، تصبح هذه المؤسّسات أيضاً مؤقّتة لا بدّ لها من أن تزول: “لأنّه عند تحوّل الكهنوت لا بدّ من تحوّل الناموس” (7: 12). هكذا نُسخت الوصيّة السابقة لضعفها وقلّة فائدتها، فيسوع الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق هو الذي يضمن “العهد الأفضل” (7 :22). ويؤكّد الكاتب هذه الفكرة انطلاقاً من قدرة المسيح وحده على “أن يخلّص الذين يتقرّبون به إلى الله إذ هو حيّ كلّ حين ليشفع فيهم” (7 :25)، لذلك بات لا ينفع أن يقدّم الأحبار ذبائح عن أنفسهم وعن خطايا الشعب، إذ قدّم المسيح نفسه مرّة وإلى الأبد.

يمارس يسوع رئيس الكهنة، إذاً، الكهنوت الكامل الذي لا يتّصل بالكهنوت اليهوديّ الشعائريّ. فيسوع لا ينحدر بصفته إنساناً من إبرهيم فقط بل من آدم أبي البشريّة كما أورد القدّيس لوقا في إنجيله 3: 23-28، لذلك كهنوت يسوع أكبر من أن ينحصر في كهنوت واحد كان له دور عبر تاريخ انقضى. الكهنة اليهود كانوا خدّام عهد بائد، فيما المسيح خادم العهد الجديد الأبديّ المعبّر عنه بـ”الخبز والخمر” كما كان قديماً عهد ملكيصادق (تكوين 14: 18).

اللافت أيضاً في موضوع ملكيصادق أنّه، على الرغم من عدم انتمائه إلى الشعب العبريّ وتحدّره من الأمم، احتلّ مكانة عالية في تاريخ الخلاص. وذلك بفضل تديّنه العميق ومعرفته الذاتيّة لله (على حدّ قول فيلون الإسكندريّ الفيلسوف اليهوديّ)، وصداقته مع إبرهيم، وارتباطه بداود وتمثيله السابق للمسيح. لذلك، يكون ملكيصادق الشاهد على أن تدبير الله الخلاصيّ يطال الجنس البشريّ كافّة لا شعباً مختاراً من دون غيره من سائر الشعوب. ملكيصادق هو الدليل على أنّ الله لم يستخدم شعب إسرائيل فقط بل الأمم كلّها أيضاً ليقودنا إلى يسوع المسيح المخلّص الوحيد.

عن نشرة رعيتي 2005

Превъртете до върха