الآن أطلق عبدك – تقدمة المسيح إلى الهيكل

تحتفل الكنيسة المقدّسة في الثاني من شهر شباط بتذكار تقدمة السيّد المسيح طفلاً إلى الهيكل (وهو العيد المعروف باسم دخول السيّد إلى الهيكل). يروي القدّيس لوقا هذا الحدث في إنجيله (2 :22-40). ما سنركّز عليه، هنا، هو موقفا سمعان الشيخ وحنّة ابنة فانوئيل وما يمثّلانه في الحقبة الفاصلة بين العهدين العتيق والجديد.

عندما أتى يوسف ومريم إلى الهيكل في اليوم الأربعين لولادة يسوع، التقيا سمعان الرجل البارّ التقي الذي “كان ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس نازل عليه” (2:; (2: 25)، فحمله على ذراعيه وأنشد: “الآن تطلق عبدك ايها السيد على حسب قولك بسلام، فإن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددتَه أمام وجوه جميع الشعوب نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل” (2: 23-29). والمقصود بإسرائيل، هنا، هو الشعب الذي كان، في العهد القديم، يتوق إلى مجيء المسيح ورؤيته. ومن المعلوم أنّ هذا النشيد تتلوه الكنيسة في كلّ صلاة غروب تقيمها.

ممّا يلفت النظر في الرواية الإنجيليّة أنّ سمعان الشيخ كان ينتظر “تعزية” شعبه. وعبارة “التعزية”، التي كانت منتشرة في فلسطين منذ كاتب سفر إشعيا (1: 40) إلى مجيء السيّد المسيح، تشير إلى مجيء الله في الزمن الأخير، وهي من علامات الزمن المسيحانيّ. والإنجيليّ يوحنّا يطلق لقب “المعزي” على الروح القدس (15، 26)، ولكن أيضاً على السيّد المسيح (1 يوحنّا 2:1). يركّز الإنجيليّ لوقا على حضور الروح القدس وفعله في حدث تقدمة المسيح إلى الهيكل، فيذكره ثلاث مرّات، منها أنّ الروح القدس قد أوحى لسمعان أنّه “لا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الربّ” (2 :26)، وفي هذا إشارة إلى استمرار النبوءة في ذلك العصر.

إنّ نشيد سمعان هو عمل عباديّ طقسيّ وتسبحة شكر لله. فحمل الطفل على ذراعيه ومباركة الله هي أعمال طقسيّة خاصّة بالمناسبة. ثمّ إنّ مفردات النشيد محمّلة رموزاً من العهد القديم، وبخاصّة النصوص المستمدّة من الأنبياء الذين وصفوا الخلاص في الزمن الأخير، كعبارات “رأى الخلاص” و”كلّ جسد يعاين الخلاص” (إشعيا 40: 5) و”عزّوا، عزّوا شعبي” (إشعيا 40 :1)، وعبارة “نور الأمم” (إشعيا 49 :6). أمّا موضوع “مجد إسرائيل” الذي يتجلّى “للأمم” أو “للوثنيّين”، فيعود أيضاً إلى إشعيا النبيّ الذي قال: “فترى الأمم برّك وجميع الملوك مجدك” (62 :2). ما يمكن أن نستشفّه من نشيد سمعان الشيخ هو أنّ موضوع الخلاص الذي يتجاوز شعب إسرائيل القديم إلى كلّ الأمم، يجد جذوره عند الأنبياء في العهد القديم. وفي الزمن الذي أتى فيه السيّد المسيح، يمثّل سمعان الشيخ الخطّ النبويّ ذاته الذي كان ينتظر أن يعمّ الخلاص كلّ العالم.

يتنبّأ سمعان الشيخ، إذاً، بما سيقوم به المسيح لاحقاً وهو فتح باب الخلاص للناس كافّة. لقد رأى النبيّ بعينيه ما وعد الربّ به شعبه، ولذلك رأى ما كان ينتظره، فصار بإمكانه أن يرنّم: “الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام،”. هنا، الموت يتّسم بالسلام، لأنّ الخلاص قد أتى ولن يملك الموت إلى الأبد. ويندرج حضور حنّة ابنة فانوئيل في الإطار ذاته، فهي “نبيّة” (لوقا 2: 36)، ووجود النبيّات في التاريخ القديم أمر مألوف، وهي أيضاً سبّحت الله وحمدته لأنّها رأت مسيح الربّ، وحدّثت “بأمر الطفل كلّ مَن كان ينتظر افتداء أورشليم” (2 :38). سمعان وحنّة الشيخان يرمزان إلى ذلك الشعب الذي عاش أحداث العهد القديم وملاحمه، فقط من أجل أن يروا مجد الله محقّقاً بمجيء المسيح.

يسرد لنا الإنجيليّ لوقا حدث التقدمة ويربطه بالهيكل واكتمال النبوءات المتعلّقة بمجيء المسيح. فلوقا انطلق من واقع الحدث ليمدّه إلى الزمن الأخير، مروراً بالهيكل والطقوس الدينيّة. لذا، يكون المسيح الهيكل الحقيقيّ والكاهن الوحيد والذبيحة. رسالة التقدمة تتلخّص في أنّ المسيح بتقدمته إلى الهيكل أنهى وظيفة الهيكل القديم ليصير هو الهيكل الوحيد. لم يعد الانضمام إلى الهيكل نتيجة وراثة جسديّة يأخذها الابن عن أبيه وأمّه، بل أضحى الانتماء إلى الهيكل انتماءً إلى المسيح نفسه، إلى جسده، إلى الكنيسة التي تضمّ كلّ الأعراق والأمم.

يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، في عظة له لمناسبة تقدمة المسيح إلى الهيكل، إنّ من واجب كلّ مسيحيّ أن يصير سمعان آخر يحمل يسوع على ذراعيه ويقدّمه للعالم، وبهذا فقط ينبغي أن يفرح الإنسان: “إذا أراد الإنسان الانعتاق من كلّ عبوديّة، فعليه أن يحمل المسيح بين ذراعيه (كسمعان الشيخ) ويضمّه إلى صدره، وقبل كلّ شيء أن يحمل المسيح في قلبه، وحينئذ فقط يفرح ويذهب إلى حيث يرغب قلبه”. ويتابع الذهبيّ الفم حاثّاً الإنسان على الاجتهاد بأن “يكون الروح مرشدك وقائداً لك للدخول إلى هيكل الربّ، الهيكل المصنوع بحجارة حيّة، أي الكنيسة”.

عن نشرة رعيتي 1996

arArabic
انتقل إلى أعلى