03: 13-17 خلاص العالم الحاصل بيسوع المسيح

13 وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ. 14 «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، 15 لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. 16 لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. 17 لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.

 

الشرح عن نشرة رعيتي:

هذا الفصل الإنجيلي جزء من حوار السيد مع نيقودِمُس، وفيه التأكيد على ضرورة الولادة الجديدة وهي بالروح القدس. إنها الولادة من فوق، من هبوب الروح الإلهي فينا الذي ينقلنا من مرتبة الجسديات إلى سكنانا في العهد الجديد بحيث نصعد إلى السماء وفق ما يتحدث عنه فصل الإنجيل اليوم.

“لم يصعد احد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن البشر الذي هو في السماء”. يقصد بالسماء مقر الله حيث لا يوجد سواه، وكل شيء آخر بما في ذلك الملائكة والأرواح هو من الخليقة. إذاً ما من صلة وصل بين المخلوق وغير المخلوق سوى ابن البشر، وهذا يعني أن ابن البشر هو الوحيد الذي يحمل الكلام الحق عن الآب ولا احد سواه، “فالله لم يره احد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر” (يوحنا 1: 18). وهذا يعني أيضاً أن ما من معرفة فعلية للآب إلا بالرب يسوع، إذ “ليس احد يعرف الابن إلا الآب ولا احد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (متى 11: 27). كثيرة هي المعتقدات التي قالت بوجود وسائط بين الخالق والخليقة، أما هذا الكلام فيوضح دون أدنى شك أن الوسيط واحد ولا احد سواه، فإنه “يوجد اله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (1تيم2: 5-6).

“كما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن البشر”. تذمر الشعب اليهودي على الله بعد خروجهم من مصر في العهد القديم، فأصابتهم ضربة من الحيات السامة. تراكض الشعب إلى موسى مقراً بخطيئته، وإذ صلى موسى إلى الله أمره الله بان يضع حية من نحاس ويرفعها على راية، فكان كل من ينظر إلى الحية النحاسية يشفى من لدغة الحية (انظر عدد 21: 4-9). حُسم الأمر برفع الحية، وها الموت يُحسم الآن برفع ابن البشر على الصليب. إذاً بالصليب يكمن سر الخلاص وعليه تعتلن حقيقته، لذلك قال الرب يسوع في الهيكل “متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعرفون أني أنا هو” (يوحنا 8: 28). هذا الارتفاع على الصليب هو بالتحديد الطابع المميز للرب يسوع المسيح المخلّص.

“لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية “، أي كل من يؤمن به مرفوعاً. الإيمان الحاسم هو الإيمان بان يسوع المصلوب هو المخلص. ردد الرب يسوع هذه الآية مرتين متتاليتين في هذا النص مما يشير إلى أنها تلخّص الهدف الذي وضعه الله وان الفداء مسخر لتحقيق هذا الهدف.

“لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك …”، أي أن الله أحب العالم بهذا المقدار الفائق حتى تحتم أن يُرفع ابن البشر. الرفع على الصليب هو نتيجة محبة الله لهذا العالم الذي لا ينفك يتذمر بخطيئته على الله كما سبق أن تذمر الشعب اليهودي في البرية. ما من سبب للفداء سوى أن الله أحبّ، الله اندفع من ذاته، ولذلك أتى الفداء مبادرةً إلهية محضة. المحبة لغة الله تجاه العالم توضّحت معالمها على الصليب إذ به ظهر أن الخالق هو ضحية خليقته.

أحب الله لدرجة بذل ابنه الوحيد، أي بذل من لا يُستعاض عنه. هذا البذل هو أسمى مستويات الحب إذ “ليس لأحد حب أعظم من هذا ان يضع احد نفسه لأجل أحبائه” (يوحنا 15: 13). إذاً الله يُعرف فعلا بمحبته، وهذا دفع الرسول يوحنا إلى القول “الله محبة” (1 يوحنا 4: 8 و11).

“لم يرسل الله ابنه ليدين بل ليخلص”. الهدف هو الحياة الأبدية، ونيلها مرتبط بالإيمان بالمصلوب لأن عدم الإيمان يجلب الدينونة. عدم الإيمان هو موقف سلبي تجاه الله ورفض لمحبته. إذاً الخلاص يأتي من إرادة الله، أما الدينونة فتأتي من إرادة الناس. موقفك من مبادرة الله تجاهك يحدد مصيرك، لذلك قال الرب يسوع “الذي يؤمن به (الابن) لا يُدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد” (يوحنا 3:81)، أي كل من يرفض أن يفديه الله يخسر فعالية هذا الفداء ويبقى على مواتية طبيعته بدل أن يُكتنف بالحياة الأبدية.

“لأنه هكذا أَحبَّ الله العالم….” هنا, للمرة الأولى في إنجيله, يذكر يوحنا مبادرة الآب الشخصية في خلاص العالم. وهنا أيضا يختصر يوحنا لاهوت إنجيله في تصريح عميق ٍ في معناه وهو أن محبة الله، التي عَبَّر عنها بتسليمه ابنه الوحيد للموت من أجل حياة العالم هي السبب وراء كل ما يتضمنه سؤال نيقوديموس ووراء كل ما هو جديد في العهد الجديد. باختصار يمكننا أن نقول إن ” عمل ” الآب هو أن يُظهر حبَّه للعالم “ببذل” ابنه, و”عمل” الابن أن يُظهر حبَّه للآب وللعالم بتسليم ذاته للموت (أنظر يوحنا 4: 34؛ 13: 1-2؛ 17: 1-4), و”عمل” العالم أن يؤمن بالابن الوحيد الذي أرسله الآب ليشهد له ويكشف حبَّه للعالم (أنظر يوحنا 3: 16؛ 6: 29؛ 17: 20-25).

قد يكون لوصف يسوع بأنه ” ابنٌ وحيد”لله علاقة مع رواية إبراهيم وابنه اسحق في كتاب التكوين (الإصحاح 22) يُعزز هذا استعمال فعل “بذل” بدلا من “أَرْسل” في قوله: “هكذا أَحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد…”, إشارة إلى نية إبراهيم في “بذل” ابنه الوحيد اسحق ذبيحة لله (تكوين 22: 2-6). وقد يكون هذا الوصف أيضا رداً على ما سبق نيقوديموس وقاله عن يسوع بأنه ” معلّم أتى من الله ” (يوحنا 3: 2). ما يريد يوحنا أن يوضحه هنا هو أن يسوع ليس مجرّد معلّم بين كثيرين بل هو ابن الله الوحيد!

وبعد ذلك يعود يوحنا الإنجيلي إلى موضوع الحياة الأبدية ليؤكد أن عمل الآب والابن هو خلاص العالم، وعمل العالم أن يؤمن بابن الله الوحيد لتكون له الحياة الأبدية: ” لأنه لم يرسل اللهُ ابنَه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم، الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن به قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد ” (يوحنا 3: 17-18).

 

الشرح عن نشرة مطرانية اللاذقية:

تساؤلات حول المقطع الإنجيلي:

1- كيف أن ابن الإنسان يصعد إلى السماء وينزل منها وهو ما زال فيها؟

ابن الإنسان في الكتاب المقدس يقصد به يسوع المسيح، والقول نزل من السماء يعني أنه تجسد، والقول صعد إلى السماء يعني صعوده إلى السموات بعد قيامته من بين الأموات. وإن نزل المسيح إلى الأرض لكنه لم ينفصل البتة من حضن الآب، بل كان على الدوام متحداً معه في السماء وفي كل مكان فهو حاضر في كل مكان ومالئ الكل. فبالصعود والنزول والبقاء بالوقت نفسه في السماء أوضح أنه هو إله والقول ابن الإنسان أوضح أنه إنسان أيضاً.

2- ما قصة رفع موسى للحية في البرية؟

عندما ارتحل اليهود من مصر جاؤوا إلى البرية فكانت الحيّات تلدغهم فيموتون. عندها سأل موسى الّله أن يعتق الشعب من هذا القصاص فاستجاب لطلبه وقال له: اصنع حيّة نحاسية وضعها على عمودٍ وكل من تلدغه الحية فلينظر إلى الحية النحاسية فيبرأ فصنع موسى كذلك (عدد 21: 6-9).

3- إلى ماذا ترمز هذه القصة؟

إن الحية التي تلدغ الشعب تدل على الحية العقلية أي الشيطان الذي جرح آدم وحواء في الفردوس ومازال يجرح نسلهم إلى يومنا هذا. أما النحاس الذي صار بشكل حية فهو دلالة على ابن الّله وكلمته الذي اتخذ صورة عبدِ ووجد بشكل إنسان. فالحية النحاسية رفعت على رايةٍ والمسيح الإله رٌفع على الصليب. وكما أنه كلُّ من كان ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة على رايةٍ كان يبرأ من جراح الحية كذلك كل من يؤمن بالإله والإنسان الذي عُلِّق على خشبة يتنقى من جراح العقلية. كلُّ من كان ينظر إلى الحية النحاسية لم يمت، بل كان يحيا الحياة الوقتية. وأما من يؤمن بيسوع الإله والإنسان فلا يهلك، أعني لا يعّذب بل تكون له حياة أبدية. بأمر الّله رُفعت الحية على رايةٍ وبمسرة الّله الآب رُفع يسوع على الصليب ولذلك قال يسوع “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان”.

في معاني الإنجيل:

“هكذا ينبغي أن يُرَفع ابنُ البشر لكي لا يهلِكَ كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”، أجل لقد اختار الله أن يُصَلب ابنهُ الوحيد لا حُباً بالعذاب ولا إرضاء لكرامته الإلهية اﻟﻤﺠروحة بعصيان آدم وسقوطه – كما يقول البعض – بل لأنه لا توجد طريقة أخرى تُداوي سقوط الإنسان وما ترتَّب عليه من نتائج، إلا طريق الصليب والفداء. وكما أنَّ لكل مرضٍ جسدي دواءٌ خاصٌ يناسبه ويُبطل مفعوله المميت للإنسان، هكذا فإنَّ الموت الذي سمَّمَ الحياة البشرية لا يُمكن أن يُغلب إلا إذ تجرّع الإنسان الدم الإلهي الحاوي الحياة والمسكوب على الصليب، وإذا عاش هو نفسه صليباً داخلياً يَصُلبُ عليه أهواءه وأنانيته وسلبياته. وبغير هذه الطريق لا نجاَة لنا من الهلاك وعذاب النفس واضطراﺑﻬا وتمزّقها.

والسؤال المهم والغريب هو، من منَّا يهتمّ أو يتكلم في هذه الأيام عن الصليب والحياة الأبدية؟! الكلُّ يتكلم عن هموم الحياة (المال، الأعمال، الاستثمارات، التكنولوجيا، المشاكل، الأرباح…) أما الحياة الحقيقة هنا على هذه الأرض والتي تستمر مع الإنسان – إن هوَ وجدها – إلى ما بعد الموت، فمن يسأل عنها أو يهتمُّ ﺑﻬا ؟! ولكن “هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد”، يا لسعةِ هذه المحبة ولا محدوديتها! لم يُظهر أيُّ أبٍ مثل هذه المبادرة التي أظهرها الله الآب تجاهنا، لم يبذل الله دراهم كما يبذل الناس، لم يبذل الله مجاملات كما يفعل الناس. محبة الناس للناس تكّلفهم كلاماً، أما محبة الله للإنسان فكلَّفته دمه، فلا نُهمل يا أحبة محبًة كهذه بل فلنُبادل الله حباً بحُب، لنشكره من أجل كلِّ ضعفٍ ومرضٍ ومعاناة وألم، ولنصلب كلَّ ما هو رخيصٌ وتافهٌ فينا. هكذا يكون الصليب الذي نعيِّد له في هذا الأسبوع مرفوعاً ليس على تلة أورشليم بل في قلوبنا، آمين.

arArabic
انتقل إلى أعلى