04: 1-42 – حوار السيد المسيح مع المرأة السامرية “القديسة فوتين”

1 فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا، 2 مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ، 3 تَرَكَ إليهودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ. 4 وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. 5 فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. 6 وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. 7 فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ:«أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» 8 لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً.

9 فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ:«كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ اليهودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. 10 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ:«لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً». 11 قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ 12 أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» 13 أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ:«كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. 14 وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». 15 قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هذَا الْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». 16 قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا» 17 أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالتْ:«لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«حَسَناً قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ، 18 لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ». 19 قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! 20 آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». 21 قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. 22 أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ . لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ اليهودِ. 23 وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. 24 اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا». 25 قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». 26 قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».

27 وَعِنْدَ ذلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: «مَاذَا تَطْلُبُ؟» أَوْ «لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا؟» 28 فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: 29 «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟». 30 فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إليه.

31 وَفِي أَثْنَاءِ ذلِكَ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَامُعَلِّمُ، كُلْ» 32 فَقَالَ لَهُمْ:«أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ». 33 فَقَالَ التَّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟» 34 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ. 35 أَمَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. 36 وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. 37 لأَنَّهُ فِي هذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. 38 أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».

39 فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ:«قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ». 40 فَلَمَّا جَاءَ إليه السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. 41 فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كَلاَمِهِ. 42 وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ:«إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ».

 

الشرح عن نشرة رعيتي:

يسوع في منطقة السامرة، وما ذِكْرُ السامرة هنا إلا لارتباطها مع تصميم الله بإدخال كل الذين يؤمنون بيسوع إلى الحياة الأبدية. وتقوى أهمية هذه المسألة حين نعلم أن اليهود، بعد عودتهم من سبي بابل سنة 537ق.م. وبنائهم هيكل أورشليم، رفضوا التعامل مع السامريين بحجة أن هؤلاء جنس ملطّخ بدم أجنبي وديانة وثنية.

هكذا بدأت العداوة بين اليهود والسامريين. إلا أنها اشتدت لاحقاً، عندما بنى السامريون هيكلهم الخاص على جبل جريزيم سنة 315 ق.م.. ولم ينجح حتى تدمير هذا الهيكل (سنة 128 ق.م.) على يد الملك المكابي يوحنا هيركانوس في إثناء السامريين عن موقفهم من اليهود أو العكس.

هذه العداوة هي وراء قول المرأة في فصلنا الإنجيلي: “كيف تطلب أن تشرب مني وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية، واليهود لا يخالطون السامريين؟”. أما تصرف يسوع هذا فدليل على انه لا يأبه لقواعد الطهارة الشرعية (انظر مرقس 7: 1-15)، كما انه لا يهتم لكونه يتحدث مع امرأة، الأمر الذي استفزّ تلاميذه (انظر الآيتين 27-28). فلكونه مخلّص العالم، لا يقيم أي تمييز اجتماعي، بل يهتم لكل الرجال والنساء، أي لكل الناس.

ثم يعطي يوحنا لحديث يسوع مع الإمرأة السامرية طابعاً لاهوتياً، حين ينتقل من شرب الماء إلى الحديث عن “عطية الله”: “لو عرفتِ عطيةَ الله ومَن الذي قال لكِ أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حياً”. لا تفهم المرأة كلام يسوع عن الماء الحيّ، تظن انه يقصد الماء الجاري. أما هو فيقصد ماء الحياة الأبدية.

أتت السامرية إلى بئر يعقوب لتروي ظمأها من مياه إسرائيل فعادت إدراجها تفيض بمياه الحياة الأبدية. وافاها عند البئر ينبوع الحياة فحملته بروحها وعادت به إلى المدينة وسكبت فيضه على الناس فأخذوا ينشدون الماء الحي من مصدره.

الساعة السادسة بحسب التوقيت اليهودي أي الساعة الثانية عشرة ظهراً. هذا الوقت غير ملائم لاستقاء الماء، الوقت الطبيعي هو عند الصباح أو المساء. يريد الرب يسوع ان يذهب إلى الجليل ويختار طريق السامرة وهي خطرة ومعرضة لهجمات اللصوص وللتعديات من قبل السامريين على اليهود. يذهب جميع التلاميذ إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً في حين ان عدداً منهم كان كافيا لجلب الطعام. كل هذه النقاط تشير أن هذا اللقاء بين الرب يسوع والسامرية كان حتمياً. كأني بالرب يسوع كان قد سجل ضمن مواعيده منذ الأزل هذا اللقاء الحاسم في حياة هذه المرأة.

يكسر الرب يسوع حاجز البغض الذي تعالى بين اليهود والسامريين لأن حواجز البشر لا تمنع الله من سكب نعمه على مَن يشاء. لذلك قال للمرأة “لو عرفت عطية الله ومن الذي قال لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً”. أراد الرب يسوع من المرأة أن تركز نظرها عليه شخصياً علّها تكتشف فيه الجانب الإلهي وتنسى موضوع الاختلاف المذهبي. تتهكم المرأة عليه قائلة “ألعلك أنت أعظم من أبينا يعقوب؟”. ما زالت تشدد على موضوع الخلاف المذهبي وتريد أن تؤكد أنها من صلب إسرائيل إذ هي من أبناء يعقوب أبي الآباء. يعاود الرب يسوع جذب انتباهها إلى شخصه قائلا إن مياه يعقوب لا تروي العطش نهائياً، في حين أن الماء الذي يعطيه من ذاته يتحول إلى “ينبوع ماءٍ ينبع إلى حياة أبدية”. الماء الحي مرتبط بالروح القدس. يخبرنا الإنجيلي يوحنا أن الرب يسوع قال لليهود “مَن آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه انهار ماء حي” وقد عنى بذلك “الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (انظر يوحنا 7 : 38-39). ارتبط حلول الروح القدس بالمعمودية لذلك قال الرسول بطرس لسامعيه في عيد العنصرة “توبوا وليعتمد كل واحد منكم… فتقبلوا عطية الروح القدس” (أعمال الرسل 2: 38).

يشير الرب يسوع إلى المعمودية وهي تفترض التوبة أي التغيير الجذري والنهائي من حياة الخطيئة إلى الرب يسوع. لذلك قال للمرأة ادعي رجلك عندما طلبت منه الماء. تعلم المرأة انه كان لها خمسة رجال وأن الذي معها الآن ليس رجلها. أغلب الظنّ أن الرجال الخمسة هنا، في سياق الحديث على عبادة السامريين على جبل جريزيم، إلماح مبطّن إلى الشعوب الوثنية المذكورة في 2ملوك 17: 24، الذين كانوا أتوا إلى السامرة مع آلهتهم المزيفة. “الذي معكِ الآن ليس رجلكِ”، إلماح مبطّن آخَر إلى ديانة السامريين غير الصحيحة أو عبادتهم غير الصحيحة للإله الحقيقي.

إذاً يسوع يريد منها إعادة النظر في حياتها إذ هي على أهبة الحياة الجديدة. اتضح لها أن تفاصيل حياتها جلية أمامه فأخذت تخاطبه كنبي ولكنها ما زالت متمسكة بانتمائها العرقي إذ أجابت “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وانتم تقولون أن المكان الذي ينبغي أن يُسجد فيه هو في أورشليم”. يؤكد الرب يسوع أن لا رابط بين الجغرافيا والعبادة. العبادة لا ترتبط بمكان، هي مرتبطة بشخص، وهذا الشخص حاضر في كل مكان ويرافق الساجدين له بالروح والحق.

تقرّ المرأة أن يسوع نبيّ. وما إقرارها هذا إلا تمهيدا للحوار الذي سيجري بينها وبين يسوع عن العبادة الحقيقية، ذلك أن وجود النبي ضروريّ، في الفكر الشعبي، لكل قرار يُتخذ في شأن الأمور العبادية.

لا يريد الرب يسوع أن يؤكد أن اليهود على حق، “الخلاص من اليهود” يعني أن الرب قد ائتمنهم على تدبيره الخلاصي وقد سعى على تنفيذه من خلالهم ليقود الناس أجمعين إلى العبادة بالروح والحق. “لأن الله روح” أي أن الله ليس كالمخلوقات. الهدف هنا ليس تحديد طبيعة الله بل التأكيد أن الله لا مثيل له وأنه لا يُفهم بالقوالب المنطقية البشرية وان عبادته تتخطى هذه القوالب، فالقصد من العبادة هو معرفة الله والاستنارة بالمنطق الإلهي غير المخلوق.

انتظار المسيا لم يكن من صميم حياتها. كان مجرد اعتقاد، لذلك قالت للرب يسوع “متى جاء ذاك فهو يخبرنا”. عندما أقرت أن كل ما استندت عليه في حديثها غير أكيد ما لم يأتِ المسيا، عندها أعلن الرب يسوع لها عن نفسه وتوقف الحديث في قمته. إذاً بعد الإعلان الإلهي ما من شيء يُقال. تركت جرتها أي تركت قديمها وذهبت تبشّر وأخذت تدفع الناس إلى لقاء الرب يسوع “فخرجوا من المدينة واقبلوا نحوه”.

تعجب التلاميذ انه يخاطب هذه المرأة ثم عرضوا عليه الطعام، فأجابهم موضحاً هدف كلامه مع المرأة وقال لهم “طعامي أن اعمل مشيئة الذي أرسلني” ومشيئته الآن هي صيد أهل السامرة عن طريق هذه المرأة. يسوع هو أول من زرع الكلمة في السامرة وفيما بعد سيحصد التلاميذ، إذ ستُنقل البشارة إلى هناك عن طريق الشماس فيليبس (انظر أعمال الرسل 8).

“مكث هناك يومين، فآمن جمع أكثر من أولئك جداً من اجل كلامه”.المرأة كانت العتبة للدخول إلى قلوب السامريين. هذا التبديل الذي أصابها والذي اتضح لسامعيها هو الذي دفع السامريين إلى لقاء يسوع، عندها حلَّ بهم ما حلَّ بها إذ أخذوا يعترفون أن الرب يسوع “هو المسيح مخلص العالم”. الرب يسوع قد اعتلن لهم بحقيقته وهذا دفعهم إلى اليقين. ما زال الإعلان الإلهي ساطعاً في هذا العالم بتعاليم الرب يسوع ومحبته التي أنبعت الماء الحي على الصليب، لكننا نحجب إعلانه هذا بسبب خطيئتنا وماديتنا والتصاقنا بمفاهيم العالم الضيقة، هذا يحرمنا من عطية الله، ينبوع ماء الحياة.

 

الشرح عن نشرة مطرانية اللاذقية:

إن المقطع الإنجيلي الذي يُقرأ في عيد نصف الخمسين، الذي يقع يوم الأربعاء السابق لأحد السامرية، مأخوذ من إنجيل يوحنا، الإصحاح السابع، الذي يتحدث عن صعود يسوع إلى الهيكل في انتصاف عيد المظال الذي كان يستمر سبعة أيام. وفي آخر أيام العيد وقف يسوع في الجمع وقال لهم: “إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به يقبلوه” ( 37- 39 ). على هذا الأساس رتبت الكنيسة أن يقام في هذا الأحد، “آخر أيام العيد”، تذكار المرأة السامرية التي التقاها يسوع قرب بئر يعقوب (يو 4:1-42) والتي قال لها: “من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” ( 4: 14 ). وكأن عيد اليوم هذا هو آخر أيام العيد، وحلول الروح القدس على التلاميذ والكنيسة. منذ اليوم نحن في أجواء التهيئة لعيد العنصرة.

في هذا اليوم يلتقي يسوع بالمرأة السامرية قرب : بئر يعقوب “وكان نحو الساعة السادسة” (يو 4: 6)، وهي الساعة التي عُلق فيها يسوع، لاحقاً، على الصليب ونبعت من جنبه أنهار ماء الحياة للجميع. يخرج يسوع أحياناً لملاقاة النفوس التي إن ُتركت على هواها قد لا تعرف الطريق إليه ولا رؤيته، هو الراعي الصالح الذي يخرج: للتفتيش عن الخروف الضال (لو4-5).

وأحياناً أخرى يجلس وينتظر قدوم سائح تائه إليه، حتى عندما نكون معه، فهو ينتظر خطوة أخرى نحو الأمام. الحياة المسيحية هي حضور دائم للمسيح وسلسلة لقاءات معه. بئر يعقوب يتحرك معي مانحاً إياي الفرص لملاقاة الألوهة.

قد يكون اختيار بئر يعقوب، أبي الآباء، مكاناً لملاقاة السامرية، عودة إلى الجذور وبراءة العلاقة مع الله. هكذا التلميذ المسيحي، عليه العودة إلى الجذور، إلى المسيح، لفتح حوار مع الله، حيث توجد قاعدة واحدة للكلام. قد تكون الحاجة المادية ضرورية لبدء الحوار، هذا ما حصل مع السامرية التي كانت بحاجة إلى ماء للشرب. المادة تقود إلى الروحي. قد ينتظر يسوع فرصة احتياجي ليتدخل في حياتي ويقودها نحو الأسمى.

يسأل يسوع المرأة السامرية أن تسقيه وهو الذي يستطيع أن يعطيها الماء الحي، لكنه، وهو المعطي، يضع نفسه في موضع السائل (الطالب). أن تتواضع، أن تجعل نفسك مديناً للآخر، محتاجاً إليه، قد يكون أسلوباً ليفتح الآخر قلبه لك. هذا يظهر تلازم التواضع والعطاء. يسوع في إنجيل اليوم يطلب ماء ليشرب وهو من يعطي ماء الحياة، حياة النفس والروح بكل أبعادها. كلنا نشتهي ملء الحياة، ويسوع يسألنا أن نعطيه شيئاً من حياتنا يكون الطريق إلى ملء الحياة. وإذا كان معنى الحياة المحبة المطلقة، فيسوع عطشان لمحبتنا البشرية. إنه قريب منا ومتواضع إلى حد أنه يطلب أن نحبه “أعطني لأشرب”. سوف يستجيب لمحبتنا الفقيرة بمحبة لا متناهية: “لو كنت تعلمين عطية الّله ومَن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً” (يو 4: 10 ). نحن نسعى إلى إطفاء ظمأ نفوسنا وإلى الوصول إلى الاكتفاء في الحياة عبر مضاعفة ما نمتلكه وما نشتهيه. نلهث وراء الأحاسيس والعواطف وأفكار لكننا نبقى على عطشنا. “من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً” (4:13). لكن من يعطيه يسوع حياته سوف لن يعذبه عطش – “لن يعطش أبداً” – بل – وهنا المفارقة – يصبح مصدر الحياة: “الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” ( 14: 4)، يستقي من يسوع مصدر الحياة ليصبح هو مصدراً.

الشرط الأساسي لكي يعطينا يسوع ماء الحياة هو تخطي خطيئتنا – ليس بالمعنى العام – بل الخطيئة التي نرزح بثقلها فع ً لا والتي تربطنا.

السامرية سألت يسوع هذا الماء فطلب منها أن تأتي بزوجها لأنه عالم أنها تعيش مع شخص لم تتزوجه وهو غير أزواجها الخمسة السابقين. لكي يعطينا الرب نعمته علينا تخطي العوائق الأخلاقية التي تقف بيننا وبينه. الحياة الروحية لا تنفصل عن الحياة الأخلاقية. لذلك علينا تحرير أنفسنا من أصنامها وزناها وتوجيهها نحو العريس الأبدي.

غالباً ما نوهم أنفسنا أننا لا نملك الشجاعة على جحد “أزواجنا” أي خطايانا، فنستبدلها بالكلام الجميل عن الّله والأحاديث اللاهوتية ومشاريع الأعمال الخيرية والمسائل المسكونية. يسوع يقطع الطريق ويسأل السؤال مباشرة: أين رَجُلك؟ أنا لم أعهد إليك بالكون بأسره، ماذا عن نفسك؟ المرأة السامرية اعترفت بحالها بتواضع وانسحاق وصراحة. واحدة تنقصها بعد ولا تلتهي بالقشور: هل تسجد في أورشليم أم في الجبل أم في مكان آخر؟ الّله موجود في كل مكان والمهم أن تبعده بالروح والحق: “الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق” ( 4: 23 ). الرب يسوع المسيح هو جوهر عبادتنا وملء إيماننا وخلاصنا.

العبادة بالروح والحق ليست عقائدية أو عاطفية أو طقوسية وشكلية. إنها الجهد الدائم بأن نفكر ونقول ما هو حق، أن تتحد إرادتنا بإرادة الله، أن ندع الروح القدس يقود نفوسنا بالمطلق. كلمات يسوع هذه يكرهها كل من يريد سلطة بشرية لأنه يحاول أن يحل مكان السلطة الإلهية. وهذه الكلمات سوف تبقى إلى الأبد محبوبة من الذين يرغبون بتحرير أنفسهم من كل ذنب ونير يقف حاجزاً بين المخّلص ونفوسهم.

يسوع يقول لنا كما قال للسامرية” “أنا الذي أكلمك هو” ( 4:26 )، فهل سنستجيب له كما المرأة السامرية ونعلن للجميع أنه المسيا المنتظر؟ المهم أن يأتي جوابنا قبل “آخر الأيام” أن نصل إلى بئر يعقوب إلى الجذور ونلاقي المسيح وننهل منه ماء الحياة الأبدي الذي لا يفرغ أبداً.

في معاني الإنجيل:

لقاء السامريّة بالمسيح هو مثال لتدرّج معرفة الإنسان بيسوع . ويبدو أنَّ معرفة الله تترافق مع معرفة الذات، والعكس بالعكس، فإنَّ معرفة الذات تتحّقق على ضوء معرفتنا بالله.

بينما كانت السامريّة عند البئر تطلب ماءً لتستقي التقت بيسوع، هناك عند همومها الماديّة، لم يكنْ بإمكانها أن تتوقعه إلاَّ مجرّد إنسان يهوديّ. فنادته: “كيف تطلب مني لتشرب”؟

فكلَّمها يسوع عن “ماء حي “، من يشربه لا يعطش إلى الأبد . وقادها هذا الكلام إلى الأبديّات إلى تأمّل دينيّ فنادته “هل أنت أعظم من يعقوب”؟

من هذا الحوار الدينيّ قادها الربّ إلى ذاتها فسألها عن حياتها الشخصية. هناك عندما مسَّ الكلامُ الحياَة والقلبَ صار يسوعُ لها بمثابة “نبيّ”

من هذه العََتبَة الحياتيّة كّلمها الربّ عن دين عبادة بالروح وليس بالحرف، عن الدين كحريّة، عن ملء للقلب البشريّ لا يرتاح الإنسان إلاَّ إليه . عندها ذكَّرها هذا الحوار “بمسيّا” المنتظر، فأخبرها يسوع : “أنا الذي أكّلمك هو”. هنا صار الرب بالنسبة لها الإله المخلِّص.

هكذا تدرجت السامريّة في معرفة الربّ بمقدار تدرّجها بمعرفة ذاتها . فحين كانت تنظر من حاجاتها الماديّة رأته يهوديّاً، ولمَّا راحت تجول في عالم الدين ظّنته أعظم من يعقوب، ولمّا تعالت إلى الخبرات الروحيّة ومعرفة الذات والاعتراف بحقيقتها رأته نبيّاً. وبعدها لمّا وصلت إلى العبادة بالروح والحق وإلى حريّة الإيمان أدركته الإله المخلِّص.

يسوع ليس يهوديّاً أو سواه، وليس بالأحرى معلّماً أو مصلحاً دينيّاً. إّنه الإله الذي يمسّ حياتنا فيبدّلها ويخّلصها .

يسوع ليس مسألة في الحياة، هو مسألة حياتنا، وغايتنا، به نوجد ونحيا ونتحّرك.

arArabic
انتقل إلى أعلى