أعمال الرسل

منذ القرن الرابع الميلادي أخذ المسيحيون يقرأون كتاب أعمال الرسل، في القداس الإلهي، في زمن الفصح. كتاب “البنديكستاريون”، وهو الكتاب الذي يُستعمل في الصلوات الكنسية ابتداء من احد الفصح ولغاية احد جميع القديسين، يذكر اننا في هذه الفترة ذاتها نقرأ تفسير كتاب أعمال الرسل لأبينا الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم. وهذا يعني أن الكنيسة أرادت للكتاب اكثر من قراءة، لأن غاية كل تفسير كتابي (وعظ) هو توزيع كلمة الله للسامعين على أساس انها موجَّهة لهم الآن وهنا. وتاليا فإن هذه القراءة المُفسَّرة، التي أنارت إيمان الكنيسة الاولى، هي دعوة وتذكير للذين اختاروا أن يكونوا تلاميذ للرب الى حمل الرسالة بإخلاص، وذلك أن المعمودية -التي كانت تُقتبل قديما في الفصح- تتطلب منهم أن يبقوا شاهدين، حتى الشهادة، للرب في العالم.

عرف الكتاب، بحسب شهادة النسخ القديمة، أسماء عدّة منها: “اعمال الرسل” وهو الاسم الذي ثبت خلال القرن الثالث، ونادرا: “الأعمال” وايضا: “أعمال” وهو العنوان الذي يتفق اكثر من سواه مع محتويات السفر، لأن الكتاب هو بمثابة عرض مختارات او مقتطفات لأعمال الرسل، وواقعيا، لأعمال بعض منهم. اعتمد الكاتب، الذي امتاز عمله بالدقة، على وثائق مكتوبة وشفهيّة (تقليد أعمال الرسولين بطرس وبولس، تقليد السامريّين، محفوظات جماعتَيْ اورشليم وأنطاكية، ويوميات رحلات بولس…) فأعطانا -بعد أن صاغ هذه التقاليد- صورة وافية عن الكنيسة الاولى مع بُناها وحياتها الداخلية، ودلّ على الامتداد التدريجي للشهادة المؤدّاة للمسيح في العالم.عالم.

التقليد الكنسي شهد بقانونية الكتاب وصحّة نسبته الى لوقا الإنجيلي. الآباء الرسوليّون، وفي طليعتهم كليمنضس الروماني، ألمحوا الى السفر، وذكره القديس يوستينوس الشهيد في دفاعه عن المسيحيّين، اما الأثر الأهم والأوضح فنجده عند القديس إيريناوس في كتابه “ضد الهرطقات”، الذي برهن، انطلاقا من المقاطع التي وردت، في الكتاب، في صيغة الجمع للمتكلّم (16 :10، 20 :5، 21: 18، 27 :1، 28: 16)، أن لوقا كاتب السفر كان رفيق بولس الدائم. أوسابيوس أسقف قيصرية، في كتابه “تاريخ الكنيسة”، أشار الى أن لوقا هو كاتب أعمال الرسل، وفي حديثه عن الأسفار القانونية قال: “اول كل شيء يجب أن توضع الأناجيل الاربعة يليها سفر الاعمال”.

موضوعُ الكتاب رسم معالمَهُ يسوع القائم من بين الأموات عندما قال لتلاميذه: “وتكونون لي شهودا في اورشليم وكل اليهودية والسامرة، وحتى أقاصي الأرض” (اعمال 1: 8). هذا الانفتاح على العالم الوثني بلغ مرماه الاخير عندما وصلت البشارة الجديدة على يد بولس الى قلب الامبراطورية الوثنية (رومية) وظهر خلاصُ الله لكل ذي جسد (اشعياء 40: 3-5، لوقا 3: 4-6). ما لا ريب فيه أن لوقا عَكس في كتابه الثاني نظرة العهد القديم للانفتاح على العالم الخارجي التي كانت تفترض أن يصعد الوثنيّون أنفسُهم الى أورشليم ليلتحقوا بالشعب اليهودي، الشهادة الجديدة التي يدفع الروحُ القدسُ الى تحقيقها تتطلب تبشير جميع الشعوب بالانجيل انطلاقا من اورشليم وحتى أقاصي الارض. في نهاية أعمال الرسل (28: 31) يعلّم الرسول بولس بكل ما يختص بالرب يسوع المسيح ويبشّر بملكوت الله، فيختم كلّ ما كتبه لوقا ويعيدنا الى كلام يسوع قُبَيْل ارتفاعه الى السماء (1 :1-3)، فنفهم اننا لسنا امام اعمال الرسل بقدر ما نحن امام كتاب يحدثنا عن إعلان ملكوت الله.

وُلدت الكنيسة في اورشليم وانطلقت منها الى “اقاصي الأرض”، وعلى الرّغم من الصعوبات الكثيرة التي واجهتها استطاعت أن تكتشف ما يفرضه عليها إنجيلُ القائم من الموت، ذلك أن انتقالها من اورشليم الى رومية لم يكن انتقالا جغرافيا بقدر ما كان اكتشافا أعمق لرسالةٍ جعلت الذين آمنوا من اليهود والوثنيّين بيسوع ربّاً ومخلّصا جماعتَهُ الواحدة.

كيف تمّ هذا الانتقال؟ على أثر الاضطهادات التي حدثت بسبب خطبة اسطفانس واستشهاده (اعمال 6: 8 حتى 9: 1) تشتّتت الجماعة الاولى كلُّها، فحُمِلت البشارة الى اليهودية والسامرة ومن ثم الى خارج فلسطين. وذلك أن الروح القدس دفع فيليبس، وهو أحد الشمامسة السبعة، ليذهب الى السامرة ويكرز بإنجيل الملكوت (8: 12)، والروح نفسه طلب أن يُفرز بولس وبرنابا ليذهبا بعد أنطاكية (11: 19-26) الى آسيا الصغرى (إصحاح 31و41)، لأن الله “فتح باب الإيمان للوثنيّين” (15 :1-35)، حيث استطاعت الكنيسة أن تبرز كجماعة تتشاور، القرار المحرِّر الذي أخذته، وهي مملوكةُ الروح القدس، أظهر أن الرسالة الجديدة لا يقيّدُها شيء.

كتاب أعمال الرسل، كتاب الكنيسة الممتلئة روحا قدّوسا، هو بآن كتاب ناجزٌ ومفتوح، وذلك لأنه، من جهة، يعطينا صورة واضحة عن الرسالة التي استطاعت بقوة الروح الإلهي أن تنجح، ويدلّنا كلامُ الرسول، من جهة ثانية، في آخر السفر: “فاعلموا اذاً أن خلاص الله هذا أُرسل الى الوثنيّين وهم سيستمعون اليه” (28: 28)، أن صيغة المستقبل التي ينتهي فيها الكتاب “سيستمعون اليه” تجعله مفتوحا الى ما لا نهاية، وهي تشير الى أن رسالة الخلاص تفترض وجود من يتقبلها ويعمل لأجلها في كل زمان ومكان.

نشرة رعيتي
الأحد في 18 أيار 1997
العدد 20

arArabic
انتقل إلى أعلى