النزاع الخريستولوجي

 451 – 518

الأباطرة: وتوفيت بولخارية في السنة 453 ومن ثم مركيانوس في سنة 457. ولم يكن لهما وارث. فاتجهت الأنظار إلى قائد الجيش أسبار. فوجد آلانياً آريوسياً فوقع الاختيار على وكيل خرجه لاوون فتربع على عرش القسطنطينية في حتى سنة 474. واصطنع لاوون منافساً ينافس أسبار فأنشأ حرساً إمبراطورياً من الأسوريين وأتى بزعيمهم زينون وأزوجه من بنته ازياذنة 467. وبطش زينون بأسبار وحرسه 471. ونشب خلاف بين لاوون وفيروزشاه الفرس حول مصير إمارة لازقة على شاطئ البحر الأسود. وتدفق القوط الشرقيون على شاطئ الادرياتيك الشرقي فعاد لاوون إلى دفع الإعانة المالية السنوية إليهم.

وتوفي لاوون الأول في السنة 474 فتولى العرش بعده حفيده لاوون الثاني ابن بنته أرياذنة. وكان لا يزال في السادسة من عمره فأشرك الولد والده زينون في الحكم (474-491) ثم توفي بعد بضعة أشهر. فعظم أمر الآريوسيين في الدولة.

وفي إيطالية أصبحت السلطة محصورة بيد العسكريين البرابرة. فكانوا ينصبون الأباطرة ويعزلونهم حسب أهوائهم. وخلعوا في السنة 476 آخر الأباطرة ونصبوا مكانه أحدهم، أودواكر. واستقل هذا بالحكم ولم يكترث لصاحب السلطة الشرعي زينون امبراطور الشرق. فالتفت زينون شطر القوط الشرقيين في البلقان الغربي ووجهم شطر إيطالية. فزحف ملكهم ثيودوريكس على إيطالية واستولى على رابينة ثم على رومة وخلع أودواكر وجلس مكانه 493 ملكاً على مملكة قوطية شرقية ذات حول وطول.

مركيانوس ينفذ: وفي السابع من شباط سنة 452 شرع مركيانوس بالتنفيذ. فأمر بتطبيق جميع مقررات المجمع الخلقيدوني ونهى عن التردد في قبولها وتطبيقها. ثم عاد فكرر هذه الأوامر في الثالث عشر من آذار من السنة نفسها. وفي الثامن والعشرين من تموز أعلن عدم الرضى الأمبراطوري على أوطيخة وأتباعه.

بلبلة في فلسطين: وكانت افذوكية أرملة ثيودوسيوس الثاني قد استقرت في فلسطين منذ سنة 442. بعد أن دب الخلاف بينها وبين بولخارية شقية زوجها زوجها أيضاً. وأنفقت بسخاء في سبيل الدين في فلسطين فاكتسبت عطف الرهبان وجمهور المؤمنين. وقالت افذوكية بالطبيعة الواحدة لأنها توهمت أن الإيمان الصحيح يقضي بذلك. ولأن بطانتها أكدت لها أن القول بالطبيعة الواحدة هو قول كيرلس الإسكندري. وارتاحت نفس الأمبراطورة الأرملة إلى القول بالطبيعة الواحدة لأن بولخارية وزوجها مركيانوس قالا بالطبيعتين.

وكان قد أَمَّ فلسطين عدد كبير من النساك والرهبان الذين قالوا بالطبيعة الواحدة لأنهم توهموا أن في ذلك مجاراة لاعتقاد الآباء الأطهار وأن في القول بالطبيعتين خروجاً عن التقليد. وكثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا في السنة 451 أكثرية ساحقة بين الرهبان وغدا معظم رؤساء الرهبان أمثال البذيوس وجيرونتيوس ورومانوس ومركيانوس من أقحاح الأوطيخيين. وجارى الرهبان في قولهم هذا نصف الأحبار الأساقفة. واضطر يوبيناليوس أسقف أورشليم أن يصرح قبل قيامه إلى خلقيدونية في سنة 451: “إن من يؤيد طومس لاون أسقف رومة فليتبوأ مقعده بالقرب من سمعان الساحر ويهوذا الخائن وليختتن اختتان اليهود أنفسهم”!

ثيودوسيوس الراهب: وقدر لثيودوسيوس أحد هؤلاء الرهبان الفلسطينيين والموجودين في فلسطين أن يتزعم القول بالطبيعة الواحدة ويدافع عنه. ويستدل من بعض المراجع الأولية أن ثيودوسيوس هذا كان مشاغباً من الطراز الأول وأنه كان يجمع في شخصه صفتين قلما اجتمعا في شخص واحد: الممالقة والوقاحة. وإن صلابة وجهه كانت قد دفعته للتواقح على ديوسقوروس في الإسكندرية فأمر به فجلد وأركب الأجرب الأعر!.

فلما دعي الأساقفة إلى خلقيدونية في سنة 451 أسرع ثيودوسيوس السير وأقام في خلقيدونية يترقب أخبار الآباء الأعضاء ويتجسسها أحياناً. وعند ارفضاض المجمع سبق يوبيناليوس إلى فلسطين فحدَّث بما جرى ولامَ الآباء الأساقفة وشدد عليهم النكير مدعياً أنهم خانوا كيرلس وأيدوا نسطوريوس. فاغتاظ الرهبان وقبَّحوا وأنكروا ثم تمادوا في اللوم بعد أن تزعمت هذه الحركة المعارِضة افذوكية الأمبراطورة المقيمة في فلسطين.

وعاد يوبيناليوس إلى أورشليم فخيَّره الرهبان المعارضون بين الموافقة على موقفهم من المجمع الخلقيدوني وبين الاستقالة والعزل. فرفض يوبيناليوس فأحاط الرهبان به من كل جانب وهددوه بالقتل واغتالوا سويريانوس أسقف بيسان. وفرّ يوبيناليوس إلى القسطنطينية فسام بعض الأساقفة المعارضين ثيودوسيوس أسقفاً على أورشليم. ورأى ثيودوسيوس وأعوانه أن لا بد من الاستغناء عن خدمات الأساقفة الأرثوذكسيين واستبدالهم بغيرهم ممن يقول بالطبيعة الواحدة. فأقاموا بطرس الكرجي أسقفاً على مايومة وثيودوتوس أسقفاً على يافة.

واهتم الأمبراطور مركيانوس للأمر فأنفذ القائد دوروثيوس إلى فلسطين على رأس قوة عسكرية للقضاء على المعارضة وإيصال يوبيناليوس إلى كرسيه في أورشليم. فقاوم ثيودوسيوس والرهبان ولجأوا إلى العنف فكانت معركة بالقرب من نابلس سقط فيها عدد كبير من الرهبان. وفرَّ ثيودوسيوس إلى سيناء، وكذلك بطرس الكرجي. ووقع ثيودوسيوس في أيد الشرطة ونقل إلى القسطنطينية وأكره على الإقامة في أحد أديارها. وما فتئ حتى توفي فيها في الثلاثين من كانون الأول سنة 457. ونقل رفاته إلى جزيرة قبرص.

وظلت أفذوكية في أورشليم وتابعت نشاطها في المعارضة. وظل جمهور الرهبان ناقماً ساخطاً. فلجأ الأمبراطور إلى الطرق السلمية وحرر هو والأمبراطورة إلى رهبان سيناء ورهبان أورشليم وإلى الراهبات في أورشليم والمجمع المقدس ناشدين السلم للكنيسة. وحذا حذوهما أسقف رومة لاون الكبير فكتب إلى افذوكية يحضها على إنقاذ الرهبان من الضلال.

اضطراب في مصر: وأوعز مركيانوس بانتخاب خلف لديوسقوروس واوصى ببروتيريوس وكيل ديوسقوروس في الإسكندرية فتم انتخابه وسلم العكاز واعتبر خليفة أرثوذكسياً لمرقص الإنجيلي. فثارت فتنة فتدخل الجند فأكرهوا على اللجوء إلى السيرابيوم فأحرقوا أحياء. فمنعت الحكومة توزيع الحنطة وأقفلت الحمامات والملاهي.

وتوفي ديوسقوروس في الرابع من أيلول سنة 454 ولم تقع حوادث هامة. ولكن لما توفي مركيانوس في السادس والعشرين من كانون الثاني سنة 457 اعتبر تيموثاوس الهر نفسه مرسلاً من السماء ودعا إلى خلع بروتيريوس. وسيم أسقفاً وهجم مع عصاباته على بروتيريوس وقتله وعرض جثته ومثّل بها في الشوارع وأمر بجرها إلى محل سباق الخيل حيث أحرقت. وبعد ثبوته في الكرسي جمع مجمعاً وحرم المجمع المسكوني الرابع وقطع أساقفة رومة والقسطنطينية وأنطاكية.

في أنطاكية: وفي أنطاكية خلع مكسيموس في سنة 455 وخلفه باسيليوس الأول ثم أكاكيوس فمرتيريوس (458-471). وانتشر القول بالطبيعة الواحدة في وادي الفرات وسار على أفواه النساك والرهبان وملأ الأسماع وتولى زينون الأسوري قيادة الجيش في الشرق. فجاء أنطاكية يجر وراءه أخلاطاً من الناس بينهم راهب خلقيدوني قال بالطبيعة الواحدة وأبطل النذر يدعى بطرس القصار. وما كاد هذا القصار يستقر في أنطاكية حتى ألف عصبة من بقايا الأبوليناريين وهاجم مرتيريوس. فانطلق هذا إلى القسطنطينية يشكو زينون وصديقه القصار. فضغط زينون على بعض الأساقفة فساموا بطرس أسقفاً على أنطاكية وسلّموه عكاز الرعاية في سلفكية الساحلية. ولدى عودة مرتيريوس فائزاً بعطف الأمبراطور توارى القصار وبات ينتظر فرصة ثانية. ثم عاد إلى المشاغبة فيئس مرتيريوس واستقال فجلس القصار مرة ثانية على سدة الرسولين في أنطاكية. فغضب الأمبراطور لكرامته وكرامة القانون. فأصدر أمراً بإبعاد بطرس فابتعد فتبوأ يوليانوس الكرسي الرسولي.

وفي مطلع السنة 475 تغلب باسيليسكوس القائد على زينون واستوى على عرش القسطنطينية. وأصغى لأقوال الرهبان في مصر وآسية فأعاد تيموثاوس إلى سدة الإسكندرية وبطرس القصار إلى رئاسة أنطاكية. ثم أصدر برأيهما منشوره الشهير وأكره حمس مئة أسقف على تأييده. فأصبح القول بالطبيعة الواحدة قول الدولة والقول بالمجمع الخلقيدوني وطومس لاون قولاً منبوذاً. ولم يدم حكم باسيليسكوس أكثر من عشرين شهراً. وعاد زينون إلى سابق عزه 477 بمعونة الخلقيدونيين فاضطر أن يرضيهم فألغى شرائع باسيليسكوس وخلع بطرس القصار من كرسي أنطاكية وأجلس صديقه يوحنا الثاني. وكان هذا لا يزال قائماً في أنطاكية منذ سيامته لأن أبرشيته أبت أن تعترف برئاسته. وهو الذي قطع في سنة 478 بقرار مجمع روماني عقد برئاسة سيمبليكوس أسقف رومة. وفي هذه السنة نفسها عادت السلطة الزمنية فأقصت يوحنا وأجلست اسطفانوس الثاني في كرسي الرئاسة (477-481). ولم يرضَ أتباع أوطيخة عن أرثوذكسية اسطفانوس فأوقعوا به وهو في طريقه إلى كنيسة الأربعين وذلك بشكه بالقصب الحاد الذرِب. فتدخلت العاصمة وانتقت كذلانذيون وسامته أسقفاً على أنطاكية وأرسلته إليها (481-485).

كتاب الإتحاد: ولم يثمر حرم مركيانوس ولاون ودام الشقاق في مصر وفلسطين وفي كنيسة أنطاكية أيضاً. وأصبح القوم لا تجمعهم جامعة. فاضطرب زينون لهذا التشعب في الآراء والتباين في المذهب فاستشار أكاكيوس أسقف العاصمة في ذلك فاقترح هذا أن يُصار إلى التراخي بانتهاج سبيل وسط. فأصدر زينون في السنة 482 الاينوتيكون “كتاب الإتحاد”. وهو إرادة سنية أمبراطورية موجهة إلى الأساقفة والاكليروس والرهبان والمؤمنين في الإسكندرية ومصر وليبية والمدن الخمس. وفيها يشجب زينون تعاليم نسطوريوس وأوطيخة معاً ويقرّ رأي كيرلس ويجتنب الكلام في الطبيعة الواحدة والطبيعتين ليرفض بلباقة ما كان قد أقرّه المجمع الخلقيدوني الأخير.

ولكن الاينوتيكون بدلاً من أن يجمع القلوب ويوحد الصفوف سعَّر نار الشقاق والتفرقة لأنه لم يرضَ الأرثوذكسيين ولا أصحاب الطبيعة الواحدة. وانشق في مصر عن بطرس أسقف الإسكندرية قسم من جماعته. فألفوا طائفة سموها الآكيفلي أي العادمة الرأس. وكتب الأرثوذكسيون إلى أكاكيوس يلمونه على مماشاة بطرس الإسكندري. فلم يكترث بل أصر على القول بكتاب الإتحاد. فكتبوا إلى أسقف رومة فيلكس الثالث. ولكن هذا بدلاً من أن يراسل زميله القسطنطيني مستوضحاً حسب العادة القديمة والمحبة الأخوية فإنه عقد مجمعاً محلياً وحرم بطرس وأكاكيوس. فلم علم أكاكيوس بذلك محا اسم أسقف رومة من الذبتيخة. فنشب انشقاق دام أكثر من خمس وثلاثين سنة.

ولم يرضَ كلانذيون أسقف أنطاكية عن كتاب الإتحاد ولم يوقعه. وعلى الرغم من أرثوذكسيته ونجاحه في إنهاء الانشقاق الافستاثيوسي بنقل رفاة افستاثيوس إلى أنطاكية فإنه اتهم بالمؤامرة على سلامة الأمبراطور وتأييد القائد لاونديوس مرشح البطريق ايلوس للعرش. فأنزل عن الكرسي الرسولي ونفي إلى الواحة الكبرى في أواخر سنة 484 وأوائل سنة 485.

بطرس القصار: (485-490) وعاد بطرس القصار إلى الكرسي للمرة الرابعة والأخيرة. وكان قد تولى الرئاسة في أثناء غياب مرتيريوس ثم بعد استقالته ثن في أثناء حكم باسيليكوس. ووقع بطرس كتاب الإتحاد ودعا المجمع الأنطاكي فأرسل رسائل سلامية ولا سيما إلى بطرس أسقف الإسكندرية. وحاول أن يرجع كنيسة قبرص إلى طاعة أنطاكية ولكنه لم يفلح.

وهو أول من أوجب تلاوة قانون الإيمان أثناء القداس الإلهي وأنشأ رتبة تكريس الماء ليلة عيد الظهور فضلاً عن تبريكه يوم العيد نفسه وأضاف إلى التريصاجيون العبارة: “يا من صلبت لأجلنا” كأن يقال: قدوس الله قدوس القوي قدوس الذي لا يموت الذي صلب من أجلنا ارحمنا.

ودخلت الكنيسة في دور من الفوضى كثرت فيه سيامة الأساقفة زوجاً زوجاً أرثوذكسيين ومونوفيسيين في وقت واحد. ومدت الأيدي إلى الكراسي لخلع هذا وتنصيب ذاك. وكان من أهم أسباب هذه الفوضى سعي الأباطرة لاسترضاء من قال بالطبيعة الواحدة في مصر وسورية لكثرة عددهم ولضعف هيبة السلطة إذ أحرجتها مشاغل أخرى. وظلت الحال على هذا المنوال حتى ظهرت كنائس مونوفيسية مستقلة في مصر وسورية وأرمينية.

الأمبراطور أنسطاسيوس الأول: (491-518) وكان زينون قد سعى لإجلاس أخيه لونجيوس على العرش بعده ولكن زوجته الأمبراطورة ارياذنة لم ترَ في لونجينوس الكفاءة اللازمة فانتقت انسطاسيوس الموظف في التشريفات ورفعته إلى منصة الحكم. وكان أنسطاسيوس في الحادية والستين من عمره ورعاً تقياً. وعلى الرغم من ميله إلى القول بالطبيعة الواحدة فإن الشعب قابل إرتقاءه بالهتاف: “ليكن عهدك في الحكم كعهد مركيانوس وكسيرتك أنت في حياتك الشخصية”. واشترط اوفيميوس العاقل أسقف القسطنطينية ألا يحيد الأمبراطور عن العقيدة الأرثوذكسية وأن يكتب قبل التتويج تعهداً بذلك. ففعل وتقبل تاجه من يد الأسقف القسطنطيني.

بلاذيوس وفيلوكسينوس: وخلف بطرس القصار في رئاسة الكنيسة بلاذيوس (490-491) أحد كهنة القديسة تقلا في سلفكية أسورية الذين قالوا بالطبيعة الواحدة وشملهم عطف الأمبراطور أنسطاسيوس. فلما استتب له الأمر دعا رعاياه إلى قبول كتاب الإتحاد وتأييده. ووجد في شخص فيلوكسينوس أسقف منبج خير عون لتأدية هذه الرسالة.

وجاء في بعض المراجع أن فيلوكسينوس هذا كان رقاً فارسياً سامه اكسينائياس. ففر من بيت سيده وتزيى بزي قس ودخل أبرشية أنطاكية في أيام كلانذيون وعلَّم بخلع الأيقونات من الكنائس وكان غير معمَّد فطرده كلانذيون. أما بطرس القصار فإنه سامه أسقفاً على منبج وسمّاه فيلوكسينوس. وعلم أنه غير معمَّد ولكنه قال: “لا بأس فالشرطونية تغنيه عن المعمودية”! واشتهر فيلوكسينوس بتعلقه بالطبيعة الواحدة فجاب الأقطار مبشراً ناشراً المصنفات المونوفيسية حيثما حل.

وفيلوكسينوس هذا نفسه هو في نظر الكنيسة السريانية “علم من أعلام السريات وأقطاب الزمان مع ديانة وصيانة وزهد ظاهر وورع معروف بحث عن أصول الدين أتم بحق وأبعد استقصاء. اقرأ كتابه في التثليث والتجسد تراه الملفان المتبحر وتصفح رسائله تعلم أية نفس وثابة كان يحمل بين جنبيه ذلك الرجل العظيم. أقامة بطرس الثاني خورياً ثم مطراناً فبذل قصارى عنايته في حماية العقيدة الأرثوذكسية وغلا في مناوأة النساطرة والخلقديونية”.

تقلب أنسطاسيوس: وكان انسطاسيوس كلما زاد سناً ازداد تعلقاً بالقول بالطبيعة الواحدة. فأدى تشبثه إلى مشاكل متتالية في العاصمة وفي أنطاكية والإسكندرية ورومة. وبدأت مشاكله عندما حاول أن يسترجع التعهد الذي كان قد كتبه قبيل تتويجه وسلمه إلى أسقف القسطنطينية. ولكن اوفيميوس الأسقف أبى فجمع الأمبراطور مجمعاً محلياً سنة 496 وقطع هذا المجمع اوفيميوس ونفاه. وتولى رئاسة كنيسة القسطنطينية مقدونيوس الثاني. وكان هذا نقي السيرة مستقيم العقيدة محبوباً. فحاول مصالحة بعض الرهبان الذين تباعدوا عن كنيسته منذ ظهور الاينوتيكون لم يستطع. فعقد مجمعاً محلياً ثبت فيه قرارات المجمع المسكوني الرابع الخلقيدوني. ونوى أن يكتب بذلك إلى كنيسة رومة. فمنعه الأمبراطور وحاول اقناعه بوجوب شجب قرارات هذا المجمع الخلقيدوني. فلم يجب مقدونيوس طلبه.

سويروس الأنطاكي: وفي نيسان سنة 505 أنهى انسطاسيوس الحرب الفارسية بعد إخماده ثورة الأسوريين وترتيب أمور الهون فتمكن من إتباع سياسة إيجابية في معالجة الموقف الديني. فاستعان بسويروس وفيلوكسينوس الأنطاكيين.

ولد سويروس في سوزوبوليس من أعمال يسيدية في حدود السنة 459 ودرس الأدب اليوناني والبيان في الإسكندرية والفقه الروماني في بيروت. وتقبل النعمة في دير الشهيد لاونديوس بالقرب من طرابلس في سنة 488. واختار لنفسه الزهد فلجأ إلى برية بيت جبرين ثم التحق بدير رومانوس فحبسة مايومة. وأنشأ ديراً خصوصياً وأقام فيه مدة طويلة. وتقبل الكهنوت على يد ابيفانيوس أسقف مغيذوس في بمفيلية وكان هذا قد أُخرج من أبرشيته لقوله بالطبيعة الواحدة.

وكان سويروس من فحول علماء عصره تضلَّع في البيان وعلوم اللغة وتبحر في الفقه والمحاماة ثم أوغل في بحث الأسفار المقدسة وأمعن في تنقيب التقليد ليدحض طومس لاون ويخرج على مقررات المجمع المسكوني الرابع الخلقيدوني. فيشتت بذلك صفوف المؤمنين ويشق الكنيسة غير مكترث بدستور الإيمان الموروث وبنص الإنجيل الطاهر المبارك “ليكونوا واحداً مثلما نحن واحد”.

التهجم على فلابيانوس الثاني: وما كاد أنسطاسيوس ينهي الحرب الفارسية في ربيع سنة 505 حتى أوعز إلى فيلوكسينوس أن يداعب فلافيانوس رئيسه ليحرجه فيخرجه. وكان فلافيانوس قد قضى مدة طويلة في القسطنطينية ممثلاً الحبر الأنطاكي فيها أمام السلطات العليا. فلما كانت السنة 498 انتخب أسقفاً على أنطاكية. فهب يعمل بأمانة واستقامة. وكان أرثوذكسياً مستقيم الرأي فتم شيء من التفاهم والتعاون بينه وبين زميله مقدونيوس أسقف القسطنطينية وإيليا أسقف أورشليم. فلما قضت الظروف بالعمل للطبيعة الواحدة أعلنها فيلوكسينوس حرباً لا هوادة فيها على فلافيانوس مدعياً أنه كان لا يزال يقول بالنسطرة. فتنصل فلابيانوس ولعن نسطوريوس والنسطرة. ولكن فيلوكسينوس لم يرضَ بذلك وأصر على وجوب التراجع عن القول بالطبيعتين وكتب فيلوكسينوس بهذا كله إلى مارون اناغنوسطوس عين زربة. وادعى الجهاد ودخوله في حرب ضد نسطوريوس وجميع علماء أنطاكية ديودوروس وثيودوروس وثيودوريطس وغيبا. وعاونه في ذلك كل من الفسينوس أسقف ساسيمو قبدوقية ونيقياس أسقف اللاذقية وغيرهما. وأعد فيلوكسينوس رسالة في مقومات الإيمان الصحيح ورفعها إلى البلاط الأمبراطوري فأمر انسطاسيوس بوجوب مثوله في القسطنطينية. فامتثل ومثل بين يدي الأمبراطور ولكن مقدونيوس لم يسمح له بالمثول أمامه لتقبيل يده فاضطر فيلوكسينوس أن يفر من العاصمة تحت جناح الظلام.

سويروس يؤم القسطنطينية: (508-511) وما كاد فيلوكسينوس يخرج من العاصمة حتى دخلها سويروس على رأس مئتي ناسك فلسطيني يحاربون نيفاليوس وغيره من الرهبان الذي قالوا بالطبيعتين. وأجيب طلب سويروس سريعاً ولكنه بقي ثلاث سنوات متتالية في عاصمة الدولة يخطب ويجادل ويؤلف في سبيل القول بالطبيعة الواحدة. فردّ على الخلقيدونيين بالفيلاليتة مبيناً أن ما نسبوه إلى كيرلس غير صحيح. ووجه رسالة إلى ابيون وبولس البطريقين نافياً ما نسب إليه من المانوية وغير ذلك واجتمع حوله عدد لا يستهان به من ما نسب إليه من المانوية وغير ذلك. واجتمع حوله عدد لا يستهان به من أخصام مقدونيوس أسقف العاصمة. وافتروا أقوالاً وأفعالاً ونسبوها إلى مقدونيوس وهو برآء منها. ثم تجرأوا على أكثر من هذا فجعلوا رهبان سويروس يسبحون التريصاجيون مضيفين إليها عبارتهم “المصلوب من أجلنا”. فأدى هذا إلى هياج شعبي عظيم جعل أنسطاسيوس يخشى  سؤ العاقبة ويستعد للفرار. وبات الأمبراطور يعد العدة لخلع مقدونيوس وإبعاده. فاستمال بعض العناصر الإكليريكية وأمر بإقفال أبواب العاصمة في وجه الرهبان الدخلين إليها ووزع العطايا على الجيش. وفي السادس من آب سنة 511 أمر بخلع مقدونيوس وإبعاده. فتم ذلك بدون مقاومة. ثم أوعز الأمبراطور بتنصيب تيموثاوس الأول (511-518) أسقفاً على القسطنطينية.

مجمع صيدا: (512) وعاد فيلوكسينوس إلى منبج مركز أبرشيته ليستأنف النزاع ضد رئيسه فلابيانوس. وشدد الخناق على فلابيانوس واضطره أن يوقع بياناً شجب فيه تعاليم ديدوروس وثيودورورس وإيبا وغيرهم من الآباء الأنطاكيين. وما أن نال هذا القدر من الرئيس المسالم حتى طالب بأكثر. فإنه أكد أن لا بد من شجب أعمال المجمع الخلقيدوني وشجب كل من يقول أن في المسيح طبيعتين لا طبيعة واحدة. ودفع بوثيقة مهيأة لهذه الغاية وطلب إلى فلابيانوس أن يوقعها لتعاد إلى القسطنطينية. فوقع فلابيانوس هذه الوثيقة إيضاً معترفاً بحكم المجمع الخلقيدوني على نسطورويوس وأوطيخة ممتنعاً عن تأييد أي تحديد للعقيدة ورد في مقررات هذا المجمع.

وعاد فيلوكسينوس للموآخذة وشفاء الغيظ فرأى فلابيانوس أن يدعو المجمع الأنطاكي للنظر في جميع الأمور التي أثارها فيلوكسينوس ولا سيما قضيته الأخيرة. فاجتمع الآباء الأنطاكيون في صيدا في خريف سنة 512 وبلغ عددهم الثمانين. ومثل الأمبراطور بينهم القائد افتروبيوس. ومشى في ركاب فيلوكسينوس كل من بطرس أسقف حلب ونيقياس أسقف طرابلس ومكسيموس أسقف بيروت وسبعة آخرون بحيث أصبح عدد المونوفيسيين عشرة فقط. وأيد فيلوكسينوس ووفده عدد كبير من الرهبان فقدموا إلى المجمع طلباً بشجب مقررات خلقيدونية وأردفوا طلبهم هذا بسبعة وستين فصلاً في تفنيد طومس لاون وقرارات المجمع الخلقيدوني. فتدبر الآباء الأرثوذكسيون هذه الفصول وغيرها وجادلوا خصومهم واستظهروا عليهم بالدليل والعقل والنقل. ثم استشهدوا بنصوص الآباء المونوفيسيين برسائل بطرس مونعوس واثناثيوس الثاني فثبتوا وجوب الاكتفاء بتوقيع الاينوتيكون. فأفحموا فيلوكسنوس وتركوه معتقل اللسان. وانتهت أعمال المجمع بانتصار الأرثوذكسية على المونوفيسية. ولا نرى -الدكتور أسد رستم- ما يوجب القول بتدخل الأمبراطور لتعليل الإسراع في إنهاء الأعمال. وقبل الارفضاض وجّه فلابيانوس أنطاكية وإيليا اورشليم رسالة إلى أنسطاسيوس الأمبراطور أكدا فيها تأييدهما لنص الاينوتيكون.

خلع فلابيانوس وإبعاده: (512) وخرج فيلوكسينوس من مجمع صيدا ساخطاً حاقداً. فجمع الرهبان من كل حدب وصوب واتصل بأساقفة أسورية فأفسد بينهم وبين رئيسهم فلابيانوس ثم أرسل رهباناً إلى القسطنطينية يطالبون بخلع فلابيانوس وإبعاده. فتم لهم ذلك في أوائل تشرين الثاني سنة 512 بواسطة مجمع محلي عقد خصيصاً لهذه الغاية في مدينة اللاذقية. وأُبعد فلابيانوس إلى البتراء.

سويروس أسقف أنطاكية: (512-528) وأوعز أنسطاسيوس بانتخاب سويروس خلفاً لفلابيانوس فتم ذلك في السادس من تشرين الثاني سنة 512. وسيم سويروس في أنطاكية نفسها على يد متروبوليتي طرسوس ومنبج وعشرة أساقفة محليين من أبرشيات الفرات وسورية الأولى. ووجه سويروس لمناسبة تسلمه عكاز الرعاية خطاباً إلى الرهبان لاتزال ترجمته إلى السريانية محفوظة حتى يومنا هذا. وقد جاء في هذا البيان الرعائي تأكيد باستمساك سويروس بما جاء في أعمال مجمامع نيقية وأفسس واعتراف بصحة ما تضمنه الاينوتيكون. ولكنه شجب نسطوريوس وأوطيحة والمجمع الخلقيدوني وطومس لاون وجميع الذين قالوا بالطبيعتين. وفي السنة التالية 513 دعا إلى مجمع أنطاكي في أنطاكية نفسها فأقر هذا المجمع الرئيس في كل ما ذهب إليه وشجب المجمع الخلقيدوني وطومس لاون. واعترض على هذه المقررات ولم يؤيدها كل من أبيفانيوس متروبوليت صور (أخي فلابيانوس الأسقف السابق) ويوليانوس متروبوليت بصرى وبطرس أسقف دمشق وأساقفة الرستن وحماه وشيزر والرفنية.

مجمع صور: وأدعى سويروس أن أكثرية الأساقفة الساحقة تؤيده فذكر في رسائله عدداً كبيراً منهم. وادعى أن خصومه غير ذلك. فدعا إلى مجمع في صور سنة 514 فاشترك في أعماله أساقفة أنطاكية وأبامية ووادي الفرات والرها وما بين النهرين والعربية وفينيقية اللبنانية. وأيد هذا المجمع موقف سويروس السابق من مشكلة العقيدة وفسر الاينوتيكون تفسيراً معاكساً لمقررات المجمع الخلقيدوني. فاضطرب معظم الأساقفة. وامتنع عدد من أساقفة أسورية عن الاعتراف بسلطة سويروس. وقطعه من الشركة أساقفة صور ودمشق وبصر وأنزله عن السدة الرسولية كل من سويريانوس الرستن وقوزمة حماه وأرسلا إليه نص القرار المتخذ. ووافق هذا كله ظهور قرار مجمعي في الإسكندرية يوفق بين بنود كيرلس وطومس لاون ويحتج كل الاحتجاجات على مشاغبات سويروس وفيلوكسينوس. فرأى سويروس أن لا بد من اللجوء إلى العنف. فوكل أمر تهذيب الأساقفة إلى سويروس أبامية وبطرس رفيقه. فدعا سويروس الأبامي أكليروس الأبرشيات المجاورة إليه وحادثهم في موضوع الساعة فبسط على بعضهم جناح الرحمة وأعرض عن غيرهم واستبدلهم بآخرين ممن قالوا قول سويروس الأنطاكي ومجمع صور. ولم يقف الأبامي عند هذا الحد فإنه صادر الذهب والفضة من فوق المذابح وأجران المعمودية. وتذوق بطرس رفيق هذا الأبامي الخشونة والغلاظة والفظاظة فاستعان بالأسوريين على الزهاد والنساك فكانت معركة في سيزر وسقط عدد من الرهبان دفاعاً عن الدين القويم.

أورشليم: ولم يعترف إيليا أسقف أورشليم بأسقفية سويروس الأنطاكي ولم يذكره في الشركة لخروجه على العقيدة الأرثوذكسية. فكان لا بد من خلعه وإجلاس غيره ليقول قول الأمبراطور ويتعاون مع أسقف أنطاكية. وفي سنة 516 قام اوليمبيوس حاكم فلسطين من مركز حكمه في قيصرية إلى أورشليم على رأس قوة لخلع إيليا وتنصيب غيره. فاعترضه الرهبان فأطلعهم على بعض الوثائق الصادرة عن إيليا فأثبط عزمهم ودخل أورشليم بدون مقاومة وخلع إيليا ونفاه إلى أية عند خليج العقبة.

واختار اوليمبيوس الحاكم الشماس يوحنا “حامي الصليب المقدس” خلفاً لإيليا. وكان هذا الشماس ابن مرقيانوس أسقف سبسطة وشقيق أنطونيوس أسقف عسقلان. وطلب إليه اوليمبيوس أن ينبذ طومس لاون ويشجب قرارات المجمع المسكوني الرابع قبل تنصيبه. فوعد يوحنا بذلك. وحدد يوم التنصيب وعيّن المكان. فهرع الناس إلى كنيسة القديس اسطفانوس أكبر الكنائس آنئذ وأَمَّ أورشليم ثمانية عشر ألفاً من الرهبان الأرثوذكسيين. وأطلّ يوحنا يواكبه القديسان سابا وثيودوسيوس. وهتفت الجماهير: “العن الهراطقة وأيّد المجمع”. فلعن يوحنا كلاً من نسطوريوس وأوطيخة وسويروس الأنطاكي وسوتيريخوس قيصرية قبدوقية وأيّد في الوقت نفسه المجامع المسكونية الأربعة.

ضغط الأمبراطور وفشله: وكان تيموثاوس الأول أسقف القسطنطينية (511-518) رجلاً متقلباً فحرَّم قرارات المجمع المسكوني الرابع وتفاهم مع سويروس الأنطاكي ويوحنا النيقاوي الإسكندري. فاضطر متروبوليت تسالونيكية أن يماشي تيموثاوس خوفاً من الأمبراطور فتظاهر الشعب ضد الأمبراطور والأساقفة. وعقد أربعون أسقفاً من البلقان وبلاد اليونان مجمعاً وقطعوا علاقاتهم مع تيموثاوس ودخلوا في شركة مع أسقف رومة.

وتتابع ضغط الأمبراطور على الأرثوذكسيين فثار فيتاليانوس قائد فرقة بلغارية في الجيش واحتل وارنة على البحر الأسود. ثم تقدم نحو العاصمة مطالباً بإلغاء التسبيخ المونوفيستي وبإعادة الأساقفة الأرثوذكسيين من منفاهم وهاجم العاصمة براً وبحراً. فصُدَّ ولكنه لم يُغلب.فعاد برجاله إلى بورغاس وبقي فيها ثائراً غاضباً!

وعلم سويروس في هذه الآونة أن عدداً كبيراً من المؤمنين الأرثوذكسيين سيقصدون مقام سمعان العامودي احتجاجاً على قساوة سويروس وهرطقته. فأرسل سويروس بالتعاون مع بطرس القصار من كمن لهؤلاء وانقض عليهم فقتَّل تقتيلاً. وقد استعانوا لتنفيذ المجزرة بمجموعة من الرجال اليهود المشترين بالمال وقتلوا 350 من الرهبان.

وقد روى الرهبان الناجون حوادث هذه المجزرة من خلال رسائل احتجاج وعرائض شكوى وجهوها إلى البابا والمراجع الدينية والملكية والمجامع الأسقفية، وقد وصل إلينا منها سبع وثائق تلقي الأضواء على تفاصيل المجزرة وبشاعتها.

وقد جاء في “عريضة مرفوعة من رهبان افاميا”: “وإذا بيهود أو علمانيين أو حتى رهبان انقضوا على الآباء من أماكن مرتفعة ووعرة… بفظاظة وفظاعة وبطش وقتلوا بعضا واستاقوا بعضا أسرى، وعروا بعضا من ثيابهم، واقتادوا بعضا أمام الملأ بثياب غير لائقة…” ثم “قاموا بهجوم آخر على دير مار سمعان وهدموا شطرا من السور ودخلوا ليلا وقتلوا بعضا وضربوا الكثيرين ونهبوا مؤونة الدير الحقيرة، ونصبوا رموزا أثيمة مخالفة للتقوى… ولم يتردد هؤلاء فعلاً عن هدم الدير كما يحصل في الحصار وعن اسر الرهبان بينما كان هؤلاء يرتلون…”.

وفي رسالة أخرى وجهها رهبان أنطاكية جاء فيها: “وليس من يجهل أيها الجزيلو القداسة لا نحن ولا غيرنا، كم قتل من الرهبان القديسين مستخدماً لذلك الأيادي اليهودية. لكم كان قاسيا مشهد ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين رجلاً من سوريا الثانية… منطرحين عراة على الحضيض تنهشهم الكلاب والطيور، ناهيك عن أمور مماثلة تنفطر لها القلوب…”.

وفي عريضة موجهة من رهبان القسطنطينية وأورشليم وفلسطين وسيناء وبلاد العرب وسوريا” جاء ما يأتي: “نسكت عن الاعتقالات والزج في السجون ونهب الأديار ليل نهار واغتيالات الأبرياء فيها. نسكت عن هجماتهم الغادرة في الطرقات على الأبرياء وسفكهم دماء القديسين. بينما كان هؤلاء سائرين نحو دير القديس سمعان بدافع الغيرة والتشاور الجماعي بصدد مضطهدي الكنيسة وعمالهم، جمع هؤلاء شرذمة من اللصوص اليهود المجرمين وأطلقوهم على الرجال الأبرار. كمن الزبانية الهمجيون للرجال القديسين في الطريق وظهروا من مكامنهم وهجموا فجأة على رجالنا كالكلاب الهائجة واعملوا السيوف في ثلاثمائة وخمسين منهم وقطعوهم إرباً إرباً وطرحوا أشلاءهم على قارعة الطريق غير عابئين بدفنهم…”.

وللوقوف على هذه الرسائل تستطيع العودة إلى ما يلي: البطريرك اسطفان الدويهي الماروني أشار إلى رسالة من هذه الوثائق في كتابه أصل الموارنة (حققه الأب انطوان ضو ص102)، كما أن الأب بطرس ضو في كتابه تاريخ الموارنة نقل نص هذه الوثائق السبع في الفصل الثالث من ص 164 إلى 197. وأيضاً كتاب بولس نعمان في كتابه “المارونية لاهوت وحياة” يذكر هذه المجزرة مرتين (ص50-51 و152) وفي باب الوثائق نشر النص الحرفي لأربع رسائل تتحدث عن المجزرة (من ص167 الى 170).

وعلى الرغم من هذه القساوة وهذا الضغط المتزايد فإن الشعب في آسية وتراقية والبلقان واليونان وفلسطين ظل محافظاً على التقليد القويم مستمسكاً بمقررات المجامع المسكونية وظلّ أساقفته بعيدين عن القول بالطبيعة الواحدة. وفي كنيسة أنطاكية كثر القائلون بالطبيعة الواحدة أساقفةً وشعباً. ولكن الأرثوذكسيين ظلوا كثراً ولا سيما بين الرهبان والنساك. أما في مصر فإن القول بالطبيعة الواحدة عمّ القسم الأكبر من الشعب والاكليروس.

وفي ربيع 518 توفي تيموثاوس الأول أسقف القسطنطينية وتبعه أنسطاسيوس الأمبراطور فزهقت نفسه في التاسع من تموز من السنة نفسها. وانصرف إلى جوار ربه في التاسع عشر من تموز من السنة 518 أيضاً فلابيانوس الثاني أسقف أنطاكية المنفي وزميله إيليا أسقف أورشليم. وفي خريف هذه السنة أيضاً نفي فيلوكسينوس إلى غنغرة ويموت فيها خنقاً.

arArabic
انتقل إلى أعلى