يوستينوس ويوستنيانوس

الإمبراطور يوستينوس: توفي انسطاسيوس في التاسع من تموز سنة518 بدون خلف. فتولى العرش من بعده يوستينوس أحد قادة الحرس الامبراطوري. وكان يوستينوس وضيع الأصل جاء من مقدونية إلى العاصمة مغامراً ماشياً على قدميه. إلا أنه كان جندياً باسلاً فأُلحق بالحرس الإمبراطوري. وظل يتقدم حتى أصبح قومس إحدى فرق الحرس. ويرى فيه المؤرخون أنه كان أمياً متطفلاً على السياسة جاهلاً علم اللاهوت، وأنه لولا مساندة ابن اخته يوستنيايوس له لناء بحمله وضاع في متاهات الإدارة السياسية. وكان يوستينوس قد استقدم يوستنيايوس إليه في حداثته وعني بتثقيفه وتهذيبه فأصاب يوستنياسوس شطراً وافراً من العلم في مدارس العاصمة. فلما تبوأ خاله عرش الأباطرة كان يوستنيايوس قد أنهى علومه وخبر الحياة السياسية وتحلى بالنضج والاتزان.

العودة إلى الأرثوذكسية: وكان يوسيتنوس قد نشأ يتكلم اللاتينية ويقول قول أساقفة رومة. فلما أدرك أن المعارضة منوفيسية في الصميم اضطر أن ينهج نهجاً أرثوذكسياً خالصاً. واندفع الشعب في سبيل الإيمان القويم فطالب الأسقف في الأحد الأول بعد وصول يوستينوس إلى العرش وفي كنيسة الحكمة الإلهية أن يقوم إلى الأمبون وينادي بصحة أعمال الآباء في المجمع المسكوني الرابع، ففعل. ثم طالبوا بذكر افيميوس ومقدونيوس ولاون في الذبيحة فذكر. وألحوا بلعنة سويروس الأنطاكي فلعن. وأوجبوا إعادة الاكليريكيين الأرثوذكسيين الذين أُبعدوا عن مراكزهم. فالتأم مجمع محلي في العشرين من تموز، وأقرّ ذلك، ورفع قراره إلى الإمبراطور. فصدرت إرادة سنية إمبراطورية فرضت الاعتراف بالمجمع الخلقيدوني وأوجبت إعداد نص جديد يحل محل الإينوتيكون. وقضت إرادة أخرى بإبعاد الهراطقة المونوفسيين عن وظائف الدولة وصفوف الجيش.

وتجاوب الأرثوذكسيون فالتأم مجمع مقدس في أورشليم في السادس من آب من السنة نفسها. واتخذ القرارات نفسها التي اتخذها مجمع القسطنطينية. وحذا الشاطئ اللبناني حذو القسطنطينية وأورشليم فاتخذ مجمع صور في السادس عشر من أيلول قرارات مماثلة وتظاهر الشعب تظاهراً كبيراً في كنيسة صور الكتدرائية. وقام كيروس أسقف مريمينة المشتى في مجمع جمع زويلوس رفنية وسويريانوس الرستن وقوزمة حماه وافسابيوس شيزر فطلب لعن أسقف أبامية وقطعه ففر بطرس. وأمر الإمبراطور بإلقاء القبض على سويروس الأنطاكي وقطع لسانه. فلاذ سويروس بالفرار فقام إلى سلفكية الساحل في التاسع والعشرين من أيلول وأقلع منها إلى الإسكندرية حيث أقام مدة طويلة.

وخيَّر الأساقفة الأنطاكيون بين القول بالطبيعتين وبين الإستقالة. فآثر اثنان وثلاثون منهم الاستعفاء من الخدمة على الرضوخ والاعتراف بالمجمع الخلقيدوني. وكان بين هؤلاء بولس الإسكندرونة وقسطنطين اللاذقية وأنطونيوس حلب ونونوس سلفكية الساحل وايسيدوروس قنسرين وبطرس أيامية وتوما دمشق والكسندروس وادي بردى وتوما يبرود ويوحنا تدمر ويوحنا حوارين (أسقف الرهبان العرب) وفيلوكسنوس منبج وسرجيوس قورش وتوما مرعش وبولس الرها ويوحنا حران وبولس الرقة ومريوس سوره وماراس آمد وتوكا دارا.

بولس الثاني: (519-521) ولمست المقامات الأرثوذكسية في العاصمة كفاءة في شخص الكاهن الأنطاكي بولس “مضيف الغرباء” فأوصت به فسيم أسقفاً على أنطاكية. وما كاد يستلم حتى كاشف المونوفيسيين بالعداوة وجاهر بها. وخصّ رهبانهم بشطر وافر من كرهه. ثم حامت نفسه على المال والمادة فلجأ إلى البلص وما يتبعه. وكاد يمثل أمام القضاء ولكنه استعفى من الخدمة فخلفه راهب فلسطيني اسمه افراسيوس.

افراسيوس: (521-526) وقال أفراسيوس بالطبيعة الواحدة حينما كان لا يزال قسيساً في أورشليم. ثم عدل عن هذا القول وأعلن تمسكه بالإيمان القويم. وتبوأ السدة الأنطاكية فتابع التضييق على المونوفيسيين. واقتلع بولس من كنيسة الرها. وطارد الرهبان فهاموا طالبين البادية وأسسوا فيها أدياراً جديدة.

مصر ملجأ الهراطقة: وتشاغل الأباطرة عن مصر وسياستها فأطمعوا أبناءها في هيبة الحكم وروعته فتطمّعوا وراحوا يخادعون ويراوغون. ولولا الشقاق المزمن بين الفلاح والملتزم لما تمكن الروم من البقاء في مصر حتى ظهور الإسلام. ومن هنا إلتجاء سويروس ويوليانوس وغيرهما من كبار المونوفيسيين إلى وادي النيل وإقامتهم فيه أعزاء الجانب لا ينالهم طالب ولا يطمع فيهم طامع. ومن أيضاً هذه الصلابة التي دفعت سويروس إلى متابعة العمل في أنطاكية وأبرشياتها بعد خروجه منها. ومن هنا كذلك أعمال يوحنا أسقف القسطنطينية الذي ظل يمارس السلطة الروحية في مسقط رأسه بعد استعفائه من الخدمة وخروجه من أبرشيته.

ويصف بطريرك السريان اغناطيوس الأول برصوم عن إقامة سويروس في مصر قائلاً: (وأقام سويروس في مصر عشرين سنة يدبر الكنيسة بنوابه ومراسلاته ويحبِّر الكتاب أثر الكتاب نقضاً “للبدع ودحضاً للمضلين” بهمة لا تعرف الملل ولا تتعثر بأذيال الكلل مجيباً على مسائل السائلين مطيعاً الفتاوي السديدة في المشاكل الشرعية).

وأكمل سويروس في مصر كتابه ضد يوحنا النحوي القيصراتي الذي بدأ به في أنطاكية. ثم اختلف مع يوليانوس الاليكرناسوسي في ما إذا كان جسد المسيح قابل وغير قابل للفساد فانقسم المونوفيسيون في مصر إلى سويريين ويوليانيين وما فتئوا حتى الغزو الإسلامي.

يوستنيانوس: (527-565) لقد كان يوستنيانوس يميل إلى البساطة في العيش لا يشرب الخمر ولا يأكل إلا القليل من الخضراوات وكثيراً ما كان يصوم ليلتين ونهاراً بينهما. وجاء أيضاً أنه كان يحب مجالسة الأساقفة والرهبان للبحث في العقيدة والدين وأنه كان قد أخذ اللاهوت عن أكبر رجال عصره لاونديوس البيزنطي مؤسس اللاهوت البيزنطي السكولاستيكي. ويجوز القول أن مغامرات يوستنيانوس في اللاهوت نشأت في بعض هذه الجلسات التي أحياها الإمبراطور في قصره.

أهدافه: أراد أن يعيد إلى الدولة سابق وحدتها السياسية وأن يضرب على أيدي الوثنيين واليهود والهراطقة ليؤمن كنيسة واحدة جامعة. واعتبر نفسه مسؤولاً أمام الله والناس عن الأمن والسلام في الدولة وفي الكنيسة فتدخل في شؤون الكنيسة تدخلاً منتظماً لم يسبقه إليه أحد من قبل. فلا قسطنطين ولا ثيودوسيوس ولا غيرهما تدخل في أمور الكنيسة هذا التدخل المستمر المطلق الصلاحية. ولا هذا ولا ذاك حاول أن ينظر في جميع المشاكل الكبيرة والصغيرة التي اعترضت الأساقفة في علاقاتهم مع زملائهم ومع الإكليريكيين الخاضعين لسلطتهم. ومن هنا هذا الإشتراع الكبير في المسائل الاكليريكية الذي تركه يوستنيانوس للخلف الصالح والذي لا يزال المرجع الرئيسي في القانون الكنسي. ولم يكتفِ في تنفيذ قرارات المجمامع المسكونية باقتباس نصوصها وجعلها جزءاً من إرادته السنية بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا فاتخذ لنفسه صلاحية التفسير وكيفية التطبيق دون أن يستند في ذلك إلى أية سلطة كنسية.

يوستنيانوس وتقدم رومة: كان يوستنيانوس شديد الإيمان بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية. فما أن تبوأ خاله عرش الإمبراطورية حتى عمد إلى إزالة الإنشقاق بين كنيسة رومة الجديدة وكنيسة رومة القديمة -القسطنطينية-. واعترف يوستنيانوس ببطاركة خمسة، بطريرك لرومة القديمة وآخر لرومة الجديدة وثالث للإسكندرية ورابع لأنطاكية وخامس لأورشليم. وخصَّ بطريرك رومة القديمة بلقب بابا فخاطبه بهذا اللقب وحده وباللقبين بابا وبطريرك. وجاء في أحد القوانين الصادرة عنه أن أبرشية رومة الجديدة تأتي بعد أبرشية رومة القديمة. واعتبر بابا رومة القديمة في إحدى الرسائل التي وجهها إليه “رئيس جميع الكنائس” ولكنه على الرغم من هذا كله ظل يعتبر نفسه مسؤولاً عن الدولة والكنيسة ورئيساً لهذه كما كان لتلك.

ثيودورة: وحرص يوستنيانوس أن يعلم كل شيء وأن يدقق في كل شيء وأن يقر كل شيء. وكان شديد الإعجاب بمواهبه ومؤهلاته، لا يسمح لأحد من رجاله أن يعارضه في أمر. ولكنه على الرغم من التظاهر بالعزم والحزم والثبات فإنه كان في قرارة نفسه متردداً شديد التأثر بآراء الحاشية ولا سيما زوجته ثيودورة.

ويقول بروكوبيوس المؤرخ في كتابه عن أسرار هذه الحقبة أن ثيودورة هذه تلطخت منذ حداثتها بفساد المحيط حولها. لأنها نشأت في مسارح القسطنطينية ابنةً لمروض الدببة. ويقول شارل ديل أن ثيودورة شغلت العاصمة فألهتها لا بل فتنتها ثم جرَّت الخزي عليها. ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن بروكوبيوس كتب ليحطم يوستنيانوس وزوجته وأنه بالتالي راوٍ مغرض لا تقبل شهادته بدون تبصر وروية. ويجب ألا ننسى أيضاً أن ثيودورة ترصّنت بعد طيشها وأنها أخرجت زوجها في كثير من الأحيان من مآزق حرجة.

والمهم هنا هو أن نذكر ما كان لثيودورة من التأثير على زوجها وألا ننسى أنها قالت بالطبيعة الواحدة وعطفت على من شاركها هذا القول وأنها ربما عرفت سويروس الأنطاكي قبل زواجها من الأمبراطور. ونجدها “عظيمة” في جميع المراجع المونوفيسية.

اضطهاد غير المسيحيين: وأدى شعور يوستنيانوس بالمسؤولية الدينية الملقاة على عاتقه بصفته أمبراطوراً مسيحياً أرثوذكسياً، إلى أن يأمر بالتضييق على رعاياه غير المسيحيين ليصيروا مسيحيين. وبدأ بهذا التضييق منذ أن شارك خاله يوستينوس في الحكم. فحرم الوثنيين والسامريين والهراطقة حق الانتفاع من أرث آبائهم وأجدادهم وحق توريث من لم يكن أرثوذكسياً. ثم حرم الكفار واليهود حق الشهادة على الأرثوذكسيين أمام المحاكم. وحق استرقاق الأرثوذكسيين. وأردف هذا كله بقانون آخر منع به المانويين والوثنيين والسامريين من الاستفادة من أي حكم قانوني. ورأى ضرورياً أن يقضي على عقائد الوثنيين وفلسفاتهم فأمر في السنة 529 بإقفال جامعة أثينة. فآثر دماسكيوس وزملاؤه الأساتذة النفي على اعتناق المسيحية. فأمّوا بلاط كسرى وعاشوا في كنفه وما فتئوا حتى انتهت الحرب الفارسية 532 فقبل يوستنيانوس بعودتهم إلى آوطانهم آمنين.

ونفذ يوستنيانوس قوانينه هذه بشدة وقساوة. واستعان في الوقت نفسه بالرهبان لوعظ الوثنيين وتبشيرهم. فانتدب يوحنا الأفسسي والأسيوي لتبشير الوثنيين في جبال أزمير وأفسس. فأحرز يوحنا نجاحاً عظيماً وهدى ثمانين ألفاً وأنشأ تسعاً وتسعين كنيسة واثني عشر ديراً.

والشيء بالشيء يذكر أن يوحنا كان من القائلين بالطبيعة الواحدة وقد لجأ إلى ثيودورة في القسطنطينية طالباً عطفها. وحينما طلب منه تبشير الوثنيين لم ينقل لهم شيئاً من التعليم بالطبيعة الواحدة.

واحترم يوستنيانوس حقوق اليهود المدنية وأذن لهم بحرية العبادة وإقامة الشعائر الدينية ولكنه لم يسمح لهم بالشهادة أمام المحاكم على المسيحيين الأرثوذكسيين. ولم يأذن لهم بشراء أي شيء له علاقة بالكنيسة والكنائس. وادعى أن عدداً كبيراً من اليهود لا يفقهون العبرية فأمر باستعمال الترجمة السبعينية وترجمة أكويلة Aquila. ثم تدخل في أمور العقيدة فحرم القول بالذفتيروسيس Deuterosis (نكران اليوم الآخر وقيامة الموتى) وأمر بقطع من يقول هذا القول واعتباره وثنياً غير يهودي.

واتخذ السامريون موقفاً معادياً من المسيحيين ودولتهم واعتصموا بجبال فلسطين. فأمر يوستنيانوس بتدمير معابدهم. فثاروا في سنة529 ونادوا بيوليانوس أمبراطوراً. فاضطر والي الشرق أن يجهز جيشاً لمحاربتهم فاستعان بالقبائل العربية وطوقهم وقتل منهم عشرين ألفاً وسجن عشرين ألفاً آخرين وأمر بيوليانوس فقطع رأسه. ثم ثاروا ثانية في سنة 555 فذبحوا اسطفانوس برو قنصل فلسطين وعدداً من المسيحيين ونجسوا الكنائس وأحرقوها؛ فاخضعوا ثانية وصلب زعماؤهم.

التضييق على الهراطقة: أبعد يوستنيانوس الهراطقة عن الوظائف والمهن الحرة. ومنع اجتماعاتهم وأغلق كنائسهم وحرمهم حقوقهم المدنية قائلاً: “يكفي هؤلاء أن يؤذن لهم بالعيش”.

ولم ينجُ من هذا التضييق سوى المونوفيسيين ولا سيما السويريين منهم. فيوستنيانوس رأى التفاهم مع هؤلاء ممكناً على أساس الاستمساك بنص الدستور النيقاوي وتفسيره على طريقة كيرلس الإسكندري. ولمس في الوقت نفسه قوتهم المتزايدة في مصر. فرهبانهم هناك ألَّفوا جيشاً متراصاً مستعداً لتنفيذ أوامر البطريرك.

ولا يخفى أن يوستنيانوس كان مؤمناً مخلصاً يقول بكنيسة واحدة جامعة وأنه كان لاهوتياً واسع الإطلاع. أخذ علمه هذا عن يد قطب أهل اللاهوت آنئذ وعميدهم لاونديوس الكبير. ومما يجب الإشارة إليه أن المؤرخين المونوفيسيين لمسوا إخلاص يوستنيانوس في معالجة قضيتهم فلم يهملوا الإشارة إلى ورعه واهتمامه بالفقراء.
وزينت ثيودورة لزوجها وحسَّنت فأشارت عليه منذ وصوله إلى العرش أن يسمح بعودة الرهبان المونوفيسيين والأساقفة من منافيهم إلى أوطانهم ففعل.

وعاد منذ السنة 531 إلى آمد والرها جميع الرهبان المونوفيسيين الذين كانوا قد لجأوا إلى البادية. ثم حبّبت إليه إقامة بعض الرهبان المونوفيسيين في العاصمة، فسمح بهذا أيضاً وأمَّ العاصمة أساقفة مونوفيسيون ثمانية وعدد كبير من الرهبان. وانتظم هؤلاء برعاية ثيودورة وإدارة مار زعورا في دير ما وراء القرن الذهبي، أقيمت فيه الصلوات بحضور الإمبراطورة وحاشيتها.

مؤتمر في القسطنطينية: 533 وركن المونوفيسيون إلى يوستنيانوس فرفعوا إليه طلباً ضمنوه بياناً بمعتقدهم فتراءى للإمبراطور أنه بإمكانه أن يعيدهم إلى الإيمان القويم بواسطة مؤتمر يضم ممثلين عنهم وعن الكنيسة الأم. ودعا الأمبراطور إلى هذا المؤتمر ستة أساقفة عن كل جانب. ووجه دعوة خصوصية إلى سويروس الأنطاكي زعيم المونوفيسيين ولكن سويروس اعتذر ولم يحضر.

وعقد هذا المؤتمر جلساته في قصر الهورميذة في السنة 533 فترأس الجلستين الأولى والثانية قومس العطايا Comes Sacrarum Largitionum وشرف الثالثة والأخيرة الأمبراطور بشخصه.فوافق الأساقفة الشرقيون المونوفيسيون زملائهم ممثلي الكنيسة الأم على شجب أقوال أوطيخة ووجوب دعوة المجمع المسكوني الرابع للنظر في البدعة في خلقيدونية. ثم اختلفوا في الجلسة الثانية حول القول بالطبيعتين. فأقام المونوفيسيون شهادة ديونيسيوس الآريوسي باغوسي وأشاروا إلى مؤلفات نسبوها إليه لأول مرة في تاريخ الفكر اليوناني. ثم أبرزوا نصوصاً أخرى اعتبرها زملاؤهم الأرثوذكسيون مزورة. وعبثاً حاول يوستنيانوس في الجلسة الثالثة التقريب بين الطرفين. ولم يعترف بصحة موقف الكنيسة الأم من جميع الأساقفة المونوفيسيين سوى فيلوكسينوس أسقف دولك. وأصرّ الآخرون على شجب تساهل المجمع الخلقيدوني في أمر إيبا وثيودوريطس.

أحد الثالوث تألم في الجسد: Unus Trinitate Passus وتابع يوستنيانوس سعيه للتقريب بين المونوفيسيين والأرثوذكسيين فأصدر في الخامس عشر من آذار سنة 533 وفي السادس والعشرين من هذا الشهر نفسه أيضاً إرادتين سنيتين امبراطوريتين أبان فيهما موقفه من النزاع القائم حول الطبيعة الواحدة والطبعتين فأهمل ذكر أي مجمع مسكوني وتحاشى الإشارة إلى “الطبيعتين” وأكد وحدة شخص السيد المسيح على طريقة الرهبان السكيتيين الذين قالوا بتألم الإله Theipaschites. فأغضب الرهبان الذين “لا ينامون” Akoimetoi ولم يُرضِ المونوفيسيين!

ونظر البابا يوحنا الثاني في هذا النص اليوستنياني بناء على طلب الأمبراطور نفسه وشاور الشماس الأفريقي فران Ferrand ووافق على نص الإرادة الأمبراطورية ومضمونها وشجب موقف الذين لا ينامون.

سويروس ويوستنيانوس: 535 وكدّت ثيودورة للمونوفيسيين وسعت. فعلمت بقرب أجل تيموثاوس الثالث بطريرك الإسكندرية فأرسلت في مطلع سنة 535 أحد خدامها الخصي كالوتيخيوس إلى مصر فحض السلطات فيها على مساعدة ثيودوسيوس الشماس أحد تلاميذ سويروس الأنطاكي. وفي شهر حزيران توفي ابيفانيوس بطريرك القسطنطينية فتدخلت ثيودورة وجعلت زوجها والأساقفة يوافقون على سيامة انثيموس أسقف طرابزون بطريركاً على رومة الجديدة. وكان انثيموس هذا يتظاهر بالأرثوذكسية ويبطن القول بالطبيعة الواحدة. فلما تبوأ العرش القسطنطيني وجه رسالته السلامية إلى سويروس وثيودوسيوس متعبراً كلاً منهما أسقفاً شرعياً متناسياً خلع سويروس عن عرش أنطاكية وقيام افراميوس بطريركاً أرثوذكسياً على سدة الرسولين.

وكان يوستنيانوس قد دعا كلا من سويروس الأنطاكي وتيموثاوس الإسكندري إلى التشاور في أمر الإختلاف القائم فاستوفى تيموثاوس أنفاسه وطاحت روحه وقام سويروس يلبي الدعوة في صيف 535. فنهض إلى القسطنطينية وأقام فيها سنة كاملة. واستصحب سويروس تلميذه بطرس أسقف أبامية للتعاون في الإقناع والتبشير. وبينما كان سويروس وبطرس يسعيان لاجتذاب الشخصيات الإكليريكية العالية كان مار زعورا يُطلق لنفسه عنان هواه في الأوساط الشعبية. وغلا وجاوز الحد فعمد أبناء بعض العائلات المعروفة في يوم عيد الفصح في الثالث والعشرين من آذار سنة 536. وطبع الله على بصيرة مونوفيسي آخر اسحق الفارسي فتجرأ وثقب عيني الأمبراطور في إحدى صور الزيتية لأنه “لم يرضَ عن فتوره”!.

البابا اغابيتوس: وكان ثيوداتوس ملك القوط قد طلب إلى أغابيتوس بابا رومة أن يفاوض يوستنيانوس في سياسته ومطامعه في إيطالية. ووصل اغابيتوس إلى القسطنطينية في الثاني من شباط سنة 536 فاستقبل استقبالاً حافلاً حاراً. وآثر البابا الدين على السياسة، وكان رجلاً تقياً جليلاً. فعلم بما في الزوايا من خبايا. فدعا أساقفة القسطنطينية ومقدمي الكهنة فيها إلى مجمع محلي برئاسته وقطع فيه انثيموس ومن شاركه رأيه. ثم انتخب الإكليروس والأمبراطور والشعب ميناس بطريركاً على القسطنطينية. وفرّ انثيموس ولجأ إلى القصر واختبأ فيه اثتي عشر سنة. وأصغى أغابيتوس إلى شكاوي رهبان العاصمة ورهبان سورية وفلسطين من سياسة سويروس واعتداءاته. فاقترح عقد مجمع ينظر في هذه الشكاوي وفي قضية انثيموس وغيرها. ووافق الأمبراطور ولكن اغابيتوس انصرف إلى جوار ربه في الثاني والعشرين من نيسان.

قطع سويروس الأنطاكي: والتأم مجمع في القسطنطينية في الثاني من أيار سنة 536 برئاسة ميناس البطريرك الجديد وعضوية أساقفة الكرسي القسطنطيني وأساقفة الوفد الروماني ووكيلي بطريرك أنطاكية وبطريرك أورشليم. ودعا المجمع أنثيموس للدفاع عن نفسه اولاً وثانياً وثالثاً فلم يحضر فجرّد من صلاحياته الروحية بما في ذلك صلاحيات الكهنوت وخلع وقطع. وبعد الإتصال بالأمبراطور قطع سويروس الأنطاكي وأُبطلت مصنفاته. وقُطع أيضاً بطرس أسقف أبامية السابق والراهب مار زعورا. وفر سويروس والتجأ إلى مصر ثانية فلم يرضَ اليوليانيون عنه فاختبأ في إحدى القرى وما فتئ أن لفظ أنفاسه في سنة 538. وأصرّ مار زعورا وإخوانه الرهبان المونوفيسيون على البقاء في القسطنطينية فطردوا منها.

أفراميوس بطريرك أنطاكية: (527-545) وخلف افراسيوس في الكرسي الأنطاكي افراميوس الآمدي. وكان افراميوس قومس الشرق فاضطر أن يتدخل في شؤون أنطاكية السياسية في السنة 525 ليقضي على مشادة عنيفة كانت قد نشبت بين الزرق والخضر فأُعجب الأنطاكيون باتزانه وعدله وجمال خلقه. وقام في سلفكية الساحلية (السويدية) أثر يشيد بفضل هذا القومس العادل. ثم دُهمت أنطاكية بزلزال سنة 526 وتهدمت بيوتها وأبنيتها وتوفي أسقفها افراسيوس تحت الأنقاض فجاءها القومس افراميوس مرة ثانية يُعينها على النهوض من كبوتها. فتعلق التاس به ورأوا في شخصه خلفاً صالحاً للرسولين فسيم أسقفاً على أنطاكية في نيسان وأيار سنة 527. وكان افراميوس أرثوذكسياً صادق العهد وفياً ملماً بالعلوم الإلهية مؤلفاً كاتباً. فدافع عن الأرثوذكسية دفاعاً شديداً. وكان يوستنيانوس لا يزال ينفق في سبيل إنهاض أنطاكية من الكبوة التي حلت بها بعد زلزالي السنة 526 و528. فلما قارب العمل النهاية اقترح القديس سمعان العامودي “الأصغر” على الأمبراطور أن يطلق على أنطاكية الاسم “مدينة الله”، فوافق يوستنيانوس على هذا الاقتراح ولا تزال أنطاكية مدينة الله حتى يومنا هذا. وقام افراميوس في السنة 531 ينفذ إرادة أمبراطورية يوستينية فطالب بنفي من قال بالطبيعة الواحدة في أنطاكية فقاومه العوام في ذلك وتدخلت السلطة فجرت حوادث مؤلمة. وما أن صدر قرار المجمع القسطنطيني بقطع سويروس وحرق مصنفاته في سنة 536 حتى هبّ افراميوس ينفذ بالشدة التي عرف بها فأعاد اضطهاد المونوفيسيين وتشريدهم. وجاب البلاد يفتش عن زعمائهم. ووصل إلى حدود فارس جاداً في طلب ديونيسيوس أسقف القسطنطينية.فقيل له أنه عبر الحدود والتجأ إلى المرزبان في نصيبين فاتصل افراميوس بالمرزبان وتسلَّم ديونيسيوس وحبسه في دير على باب أنطاكية وشدد عليه “فصبر هذا على مكروه عظيم” حتى انقضت أنفاسه. وجاء في بعض المراجع أن افراميوس أمر بإحراق بعض من أصرّ على غيّه ومضى طغيانه من هؤلاء المونوفيسيين.

ويقول ميخائيل المؤرخ السرياني أن افراميوس سافر إلى الرها محاولاً اقناع أهلها بتقبل قرارات المجمع الخلقيدوني وأنه توجه إلى بلاد فارس وسنجار للغاية نفسها فاجتذب كثيرين وأنه قصد الحارث ابن جبلة وحدثه في الموضوع نفسه ولكنه عجز عن إقناعه.

ونجد هذا البطريرك في مطلع سنة 540 متعاوناُ مع زميله بطرس الأورشليمي وبيلاجيوس وكيل الحبر الروماني جالساً في غزة فلسطين ناظراً في قضية بولس بطريرك الإسكندرية.

اسطفانوس بار صوديلي والأوريجينية الجديدة: وقام في الرها في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الراهب السرياني اسطفانوس ابن صوديلي يدعوا إلى أوريجينية جديدة تستند إلى تعاليم أوريجينس الإسكندري وتقول بشيء من وحدة الوجود. فنبذوه الرهاويون وطردوه فلجأ إلى فلسطين إلى محابس الرهبان إلى رهبان من أهل مذهبه. وكان القديس سابا لا يزال على قيد الحياة، فنهى الرهبان عن هذه الأقوال وكاشف اسطفانوس بارصوديلي بالمقاومة ورحل إلى القسطنطينية يطلب المعونة للقضاء على الأوريجنية الجديدة. ولكنه ما كاد يعود إلى فلسطين حتى رقد في سنة 532. فضاعف الأوريجينيون جهودهم وبثوا دعايتهم في دير مار سابا نفسه. فقاومهم الساباويون وطردوا أربعين راهباً من رهبانهم اتهموا بالأوريجينية. وشد أزر الأوريجينيين اثنان منهم كانا قد نالا حظوة في عيني يوستنيانوس، فأمر بترقيتهما إلى رتبة الأسقفية. وتدخل هذان الأسقفان ثيودوروس اسكيذاس أسقف قيصرية قبدوقية ودوميتيانوس أسقف أنقيرة في الأمر فقضت الإرادة السنية بوجوب إبعاد أشد الرهبان عداوة للأوريجينية عن دير القديس سابا. فخرج من هذا الدير ستة من كبار الرهبان عرفوا بعداوتهم لبارصوديلي وفلسفته.

والتجأ الستة الكبار إلى أفراميوس بطريرك أنطاكية فقبلهم. وعقد مجمعاً أنطاكياً وشجب الأوريجينية. فضغط الأوريجينيون في فلسطين (541) على بطرس بطريرك أورشليم موجبين حذف اسم افراميوس الأنطاكي من الذبتيخة. فأرسل بطرس وفداً إلى القسطنطينية يبين واقع الحال ويرجو اتخاذ موقف واضح محلياً بموافقة الأمبراطور حكم فيه على أوريجينس وتعاليمه.

هيرارخية مونوفيسية: وتسابق سويروس الأنطاكي ويوحنا التلاوي إلى حياض المنيه فتوفي الأول في الثامن من شباط سنة 538 وسبقه الثاني بيومين لا ثالث لهما. وكان انثيموس الطرابزوني لا يزال مختبئاً في حمى ثيودورة. وكذلك ثيودوسيوس بطريرك الإسكندرية السابق فإنه كان مبعداً في تراقية لا يستطيع القيام بأي عمل روحي. فلاحت بارقة أمل للأمبراطور وكبار رجال الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق والغرب معاً أن تتقطع حبال السلطة المونوفيسية فيجيء يوم يصبح فيه المونوفيسيون بدون رؤساء روحيين يدبرون أمورهم.

ولكن ثيودورة ظلت تداهن وتصانع فتمكنت من نقل ثيودوسيوس الإسكندري من منفاه من ذركوسة تراقية إلى القسطنطينية. وتمكن هو من استصحاب يمينه الأسقف يوحنا (الراهب الفلسطيني) وما أن تم لثيودورة هذا حتى دفعت بثيودوسيوس ويوحنا إلى الاهتمام برعاية المونوفيسيين في آسية وسيامة الكهنة ورؤساء الكهنة لخدمتهم وتدبير أمورهم. والواقع أن يوحنا الفلسطيني هذا عبر البوسفور مراراً مستتراً بداعي المرض فجاب ولاية آسية الصغرى بأسرها متفقداً شؤون المونوفيسيين ناظراً في احتياجاتهم.

وتفيد المراجع الأولى أن الحارث ابن جبلة الأمير الغساني اتصل بثيودورة ورجاها أن تعين أسقفاً يرعى شعبه. فأحالت الأمبراطورة طلبه إلى ثيودوسيوس الإسكندري فسام هذا ثيوددوروس رئيساً على أساقفة بصرى ويعقوب البرادعي أسقفاً على الرها ومتروبوليتاً مسكونياً.

ويرى ثيودور نولدكه مؤرخ الغساسنة أنه ليس ثمة من أساس تاريخي للعلاقة الأولى بين الحارث الغساني وبين يعقوب البرادعي مؤسس الكنيسة السريانية القائلة بالطبيعة الواحدة التي تدعى أحياناً كنيسة اليعاقبة. ومما يذهب إليه نولدكه أن بعض رجال الاختصاص صبغوا هذه العلاقة بمسحة من الإعجاز لا تتفق مع الواقع التاريخي. ويؤكد هذا العلامة أن الحارث ابن جبلة لم يرحل إلى القسطنطينية في هذه الحقبة، وأن ما جاء من هذا القبيل في كلام المتقدمين والمتأخرين هو خطأ فاضح.

ولد يعقوب ابن القس ثيوفيلوس ابن معنو في تل موزل. وترهب في دير فسيلتا القريب من مسقط رأسه. وأجاد السريانية واليونانية. وفي السنة 528 رحل إلى القسطنطينية مع من رحل إليها من الرهبان المونوفيسيين. وهو في نظر غبطة بطريرك السريان “أشهر الأحبار ورعاً وطهراً وأكبر المجاهدين الرسوليين في نصرة المعتقد القويم ونخبة النساك الصوَّامين القوّامين ذوي الصلاح والدين المتين”.

وما كاد يعقوب البرادعي يصير أسقفاً على يد ثيودوسيوس حتى طفق يطوف متنكراً مرشداً مشجعاً مؤسساً. ومما يروى عنه أنه سام في رحلاته العديدة سبعة وعشرين أسقفاً وبضعة آلاف شماس وقس وأنه زار مصر ورسم فيها اثني عشر أسقفاً. وشملت رحلاته آسية الصغرى وسورية وما بين النهرين وفارس ومصر وقبرص وردود وغيرهما من الجزر. وأعطى يعقوب المونوفيسيين بعمله هذا ملاكاً اكليريكياً خصوصياً ولكنه مزَّق كنيسة أنطاكية إذ جعل من الأسقفية الواحدة أسقفيتين ومن الكنيسة الواحدة كنيستين. وأقام على هذه الحال خمساً وثلاثين سنة فاعتبر بحق أحد مؤسسي الكنيسة السريانية ونُسبت هذه إليه فدعيت يعقوبية وعرف أبناؤها باليعاقبة. وهذه أسماء خلفاء سويروس الأنطاكي حتى الغزو الإسلامي:

سويروس 512-538بطرس 581-591
سرجيوس 538-562يوليانوس 591-594
بولس 564-581اثناثيوس 595-631
يوحنا 631-649
انتقل إلى أعلى