الأزمة الرومانية القسطنطينية والفيليوكهِ

858-867 و877-886

نيقولاوس وفوتيوس: (861-867) وأرسل ميخائيل الثالث أعمال هذا المجمع الأول الثاني إلى البابا نيقولاووس مع أحد كتابه لاوون ومع ممثلي البابا وزودهم بهدايا كنسية ورسالة منه إلى البابا. وكتب فوتيوس أيضاً رسالة مملوءة محبة ولطفاً. وبشّر الممثلان سيدهما بما أحرزاه من نجاح في إعادة النظر في قضية اغناطيوس وبما سجّلاه من نصر لرومة في التدخل في شؤون كنيسة القسطنطينية. فارتاح نيقولاوس لذلك ووافق على الدور الذي لعبه ممثلاه في المجمع الأول الثاني ووكل إلى الأسقف رانولدو القيام بمهمة جديدة في بلاط الافرنج في خريف السنة 862 واستمر الأسقف زخريا في متابعة أعماله في روما.

ولكنه ساء نيقولاوس أن ممثليه في المجمع الأول الثاني لم يسجلا أي تقدّم في أمر الأبرشيات المسلوخة التي طالب بإعادتها إلى البطريركية الرومانية. وكان فوتيوس قد أشار في رسالته إلى نيقولاوس إلى استعداده للاعتراف بحق رومة في هذه الأبرشيات ولكنه أوضح أن الفسيلفس عارض في ذلك. فاستأنس البابا بهذه الإشارات ورأى أن يؤجل الاعتراف ببطريركية فوتيوس إلى أن ينال ما تمنى من السلطة على هذه الأبرشيات. وكتب إلى ميخائيل وفوتيوس (8 آذار سنة 862) معلّقاً اعترافه وموافقته إلى أن يتثبت من بعض الأمور. وكتب بالمعنى نفسه إلى زملائه بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأورشليم. ويشك الأب دوفورنك ما إذا كانت هذه الرسائل وصلت إلى هؤلاء البطاركة في حينها لأن البابا أرسلها بطريق القسطنطينية.

ورأى ميخائيل وفوتيوس أن الثمن الذي حدده نيقولاوس كان غالياً فصمتا صمتاً طويلاً وبابا ينتظران تطور الظروف. واضطرب البابا وضاق صدره. وفيما هو ينتظر ورود الجواب أطلّ عليه وفد الاغناطيوسيين المتطرفين برئاسة ثيوغنوستوس Theognostos. وادعى هذا الوفد أنه يمثل اغناطيوس ويطالب بحقوقه واغناطيوس براء من هذا كله، فأصغى البابا إلى أقوال الوفد وظل ينتظر رد فوتيوس وميخائيل. ثم يئس فدعا أساقفته إلى مجمع في روما في صيف السنة 863. فاستمع الآباء إلى تقرير الأسقف زخريا عن أعمال المجمع الأول الثاني وعن الدور الذي قام به في أثناء انعقاد هذه المجمع. فاعترف زخريا بأنه تجاوز صلاحياته فقطعه المجمع وامتنع عن الاعتراف برسامة فوتيوس. ثم قطع غريغوريوس وأعلن اغناطيوس بطريركاً شرعياً على القسطنطينية. وأغرب ما في أخبار نيقولاوس أنه عيّن زخريا بعد قطعه رئيساً على دير القديس غريغوريوس. وهذا الدير كان آنئذ من أغنى أديار روما وأهمها! ثم أعاده إلى سابق عهده في رئاسة الكهنوت وفي العمل الإداري الذي كان يقوم به قبل القطع. أما رانولدو فإنه رفض أن يمثل أمام الآباء في المجمع وأيّد فوتيوس فوقع تحت الحرم.

ومضى برداس وفوتيوس في العمل معاً لصالح الامبراطورية والكنيسة فقضيا على مقاومة الاغناطيوسيين ووطدا الأمن في الداخل ثم أحسنا السياسة في الخارج فحالفا رستيسلاف أمير مورافية الكبرى وهزما جيشاً بلغارياً كان في طريقه إلى الحدود المورافية. وراب رستيسلاف أمر المرسلين الألمان الذين كانوا يخلطون بين الدين والسياسة في بلاده فطلب مبشرين أرثوذكسيين يعلّمون شعبه الدين القويم فاختار فوتيوس الأخوين قسطنطين ومثوذيوس لهذه الغاية. فقاما إلى مورافية في السنة 864 وصنفا كتباً دينية في اللغة الصقلبية ونقلا الإنجيل إليها وبشّرا. وجاء بوغوريس ملك البلغار بعد انهزامه أمام الروم سنة 864 إلى القسطنطينية فاعتمد على يد البطريرك فوتيوس وسمي ميخائيل في المعمودية باسم اشبينه ميخائيل الفسيلفس. وعيّن فوتيوس رئيس أساقفة لبلغارية وقسيسين ومعلّمين. وكان نيقولاوس قد طالب بمعظم الأراضي البلقانية مدّعياً أن خدمة شعوبها روحياً منوطة بأسقف رومة كما أشرنا فجاء عمل فوتيوس مخالفاً لرغبته فاشتدت الأزمة الرومانية البيزنطية.

وبعد أن سجلت القسطنطينية هذا النصر المبين في مورافية وبلغاريا رأى صاحبها ميخائيل الثالث أن يرد على نيقولاوس. فكتب إليه في صيف السنة 865 كتاباً مرّاً جعل البابا أن يقول عنه أن كاتبه قد غمس قلمه في حلق ثعبان! فلامَ الفسيلفس البابا بادئ ذي بدء على قلة تقديره للتضحية التي قدمتها كنيسة القسطنطينية في سبيل السلم والوئام فأبان له أن مشكلة اغناطيوس مسألة داخلية إدارية لا تمت إلى أمور العقيدة بصلة وبالتالي فإنه لا يحق لرومة أن تتدخل فيها. وأضاف الفسيلفس أنه على الرغم من هذا فإن كنيسة القسطنطينية نزلت عند رغبة البابا وسمحت بإعادة النظر في قضية اغناطيوس أمام ممثليه في المجمع وأكّد الفسيلفس أن الموجب لدعوة هذين الممثلين إلى المجمع إنما كان للنظر في أمر الأيقونات. ثم اتهم الفسيلفس ثيوغنوسطوس بالتحريض والمشاغبة وأمر البابا أن يرسل ثيوغنوسطوس وأعوانه إلى القسطنطينية للتحقيق وهدد بإحضارهم بالقوة إذا اقتضى الأمر. فغضب البابا لكرامته، وكان سريع الغضب، وكتب في الخامس والعشرين من أيلول سنة 865 رسالة أصبحت فيما بعد موضوع اهتمام عند علماء الجدل. وأهم ما جاء فيها أن السيد له المجد هو الذي خصّ بطرس بهذه الصلاحيات الواسعة وأن بطرس منحها خلفاءه من بعده وأن رومة وحدها تفخر بإقامة بطرس وبولس فيها ووفاتهما ضمن أسوارهما وأن بعد رومة تأتي الاسكندرية وأنطاكية. أما القسطنطينية فإنها اضطرت أن تستورد رفات أندراوس ولوقا وتيموثاوس. وأضاف البابا أن هذه الامتيازات التي تمتّعت بها رومة تمنحها حق الإشراف على كنيسة القسطنطينية. وذهب نيقولاوس إلى أبعد من هذا فحصر في نفسه حق الدعوة إلى المجامع فاصطدم بالعرف والتقليد الشرقيين الذين جعلا الدعوة لانعقاد المجامع من صلاحيات الأمبراطور وحده.

من الواضح أن هذا الخلاف متعلّق بالمزاعم البابوية. كان نيقولاوس الأول مصلحاً كبيراً، يحمل فكرة سامية عن صلاحيات كرسيه. وقد سبق له أن عمل كثيراً على إقرار سلطته المطلقة على كل أساقفة الغرب، وظن أن بإمكانه بسط هذه السلطة على الشرق أيضاً. وكما أورد في رسالة له مؤرخة السنة الـ 865، يتمتع البابا بسلطة “على الأرض كلها، أي على كل كنيسة”. هذا بالضبط ما لم يكن البيزنطيون على استعداد لاقراره. وما أن علم نيقولاووس بالنزاع بين فوتيوس واغناطيوس حتى رأى فرصة سانحة لدعم زعمه بالسلطة العالمية، عن طريق جعل الفريقين يلجآن لتحكيمه. هذا مما يفسر، إلى جانب أسباب أخرى، لماذا ألغى البابا قرارات موفديه إلى القسطنطينية، مع علمه بأن فوتيوس كان قد رضخ بملء إرادته لتحقيق القاصدين البابوين، وأنه لا يمكن اعتبار عمله هذا اعترافاً بسلطة البابا المطلقة. وكان البيزنطيون، من جهتهم، على استعداد للقبول بالروجوع إلى رومية، لحل بعض القضايا ولكن ضمن الأطر التي حددها القانون الثالث لمجمع سرديكيا السنة الـ 343. وينص هذا القانون أنه يحق لأسقف وقع تحت الإدانة أن يستأنف إلى رومية، وأنه بإمكان البابا، إذا اقتنع بسبب الاستئناف، أن يأمر بفتح ملف القضية من جديد. ولكن لا يعطي هذا القانون للبابا حق النظر شخصياً في القضية مجدداً في رومية، بل ينظر فيها أساقفة المقاطعة المجاورة لمنطقة الأسقف المدّعي عليه. وشعر بالتالي البيزنطيون بأن نيقولاوس، برحضه قرارات مبعوثيه، وبإصراره على إثارة القضية مرة ثانية في رومية نفسها، قد تجاوز حدود القانون المذكور. واعتبروا تصرفه هذا بمثابة تدخل لا مبرر له وغير قانوني في شؤون بطريركية أخرى.

انبثاق الروح القدس: وفي السنة 866 هجم لويس الألماني على بوغوريس البلغاري وغلبه. فطلب البابا نيقولاوس إلى لويس أن يدفع بوغوريس إلى طلب معلّمين روحيين من البابا. فبادر البابا إلى إرسال قسيسين إلى بلغاريا. فطعن القسيسون الباباويون بفوتيوس وأعادوا معمودية من سبق واعتمد على يد قساوسة الروم وقالوا بصوم السبوت وفصلوا الأسبوع الأول من الصوم الكبير وسمحوا بتناول الألبان وأكل الجبن فيه وكرّهوا البلغاريين بالقسوس المتزوجين زيجة شرعية وعلّموا أن الروح القدس منبثق من الآب والابن. ولم تكن عبارة “والابن” قد أُدخلت بعد إلى الدستور في رومية آنذاك، لكن نيقولاوس أيّد كليّاً الجرمانيين عندما أصرّوا على استعمالها في بلغاريا. وهكذا فإن البابوية التي لعبت دور الوسيط عام 808 بين اليونانيين والجرمانيين، لم تعد بعد الآن محايدة.

ولا يخفى أن كنيسة اسبانيا -كما ذكرنا سابقاً- كانت قد بدأت تقول بانبثاق الروح القدس من الآب والابن منذ أواخر القرن السابع وأن هذا القول كان قد شاع في بعض كنائس الغرب في النصف الثاني من القرن الثامن. ولكن كنيسة روما كانت قد واظبت على القول بانبثاق الروح القدس من الآب فقط كما جاء في دستور نيقية. ولم تقبل إضافة العبارة “والابن” “Filioque” قبل القرن الحادي عشر. ولنا دليل واضح على هذا في موافقة البابا نيقولاوس نفسه على الاعتراف بالإيمان الذي أورده فوتيوس في السنة 860 في رسالة الجلوس. ففوتيوس قال في هذه الرسالة: “وبالروح القدس المنبثق من الآب” ونيقولاوس أكّد في الثامن من آذار سنة 862 أن اعتراف فوتيوس كان مستقيماً كل الاستقامة.

دعوة إلى مجمع مسكوني: (867) ورأى الفسيلفس في وصول اللاتين إلى بلغاريا خطراً على سلامة الدولة. ورأى فوتيوس في التعاليم خروجاً يجب بحثه في مجمع مسكوني. ورأى أيضاً في الرسائل التي وردت عليه من بعض الأوساط الإكليريكية الغربية تذمراً من سلوك نيقولاوس وسياسيته ما يوجب دعوة الآباء إلى مجمع مسكوني. فوجّه فوتيوس في السنة 868 منشوراً (Encyclique) إلى بطاركة الشرق وأساقفته جاء فيه “إن إبليس لا يشبع من الشر وأن رجالاً كانوا قد نبغوا في ظلام الغرب نزلوا في الآونة الأخيرة في بلغاريا نزول الصاعقة وقفزوا قفز الوحوش ودخلوا كرم الرب المغروس جديداً فرعوه وأبادره بأرجلهم وأسنانهم واحتالوا على البلغاريين فتقلوهم إلى صوم السبوت وفصلوا الأسبوع الأسبوع الأول من الصوم الكبير عن جسم الصوم وجذبوهم إلى شرب الألبان وأكل الجبن فيه والشراهة وجعلوهم يقتوا القسوس الأفضل المتزوجين الزيجة الشرعية كهنة الله الحقيقيين ولم يخشوا أن يعيدوا ميرون الميرنين من القسوس داعين أنفسهم أساقفة مدعين أن المسحة التي يتممها القسوس باطلة لا نفع لها. فانهم يقولون لا يجوز للكهنة أن يقدسوا المكملين بميرون لأن هذه الشريعة فإنهم شرعوا بوقاحة زائدة في نغل الدستور الشريف المقدس فعلموا بأن الروح القدس ينبثق لا من الآب فقط بل من الآب والابن. فمن ترى سمع من الكفرة أنفسهم قولاً مثل هذا. مَن من المسيحيين في الله. فمن أين سمعت هذا ومن أي إنجيلي جاءك هذا الصوت فربنا وإلهنا قال: الروح الذي من الآب ينبثق”. ثم يوضح فوتيوس أن القول بأن الآب علة الابن والآب والابن معاً علة الروح يوجب أن يكون الآب والابن والروح القدس علةً لأقنوم رابع والأربعة لخامس إلى ما لانهاية له. وأيضاً أن الابنثاق من الآب كامل ولا حاجة إلى القول بأكثر منه. فإن كل ما يُقال في الثالوث المتساوي في الطبيعة والجوهر إما أن يكون عاماً للثلاثة أو خاصاً بواحد منهم. فإن كان صدور الروح لا عاماً لهم ولا خاصاً بواحد منهم ينتج أنه ليس انبثاق للروح في الثالوث رئيس الحياة الكلي الكمال.

ويعلق سيادة المطران كاليستوس وير في كتابه “الكنيسة الأرثوذكسية في الماضي والحاضر” على هذه الرسالة فيقول: {غالباً ما انتُقِد فوتيوس لسبب كتابته هذه الرسالة. وحتى المؤلف الكاثوليكي الروماني الكبير، فرنسيس دوفورنيك المؤيد لفوتيوس عموماً، وصف هذه الرسالة بأنها تشكّل “هجوماً تافهاً” وأضاف: “الخطأ كان جسيماً، فيه تسرّع ويحمل في طياته أوخم العواقب”.

ولكن هل كان بمستطاع فوتيوس أن يتصرف بشكل آخر وهو يعتبر أن في القضية هرطقة؟ ولا بد أيضاً من التذكير بأن شارلمان وأعوانه هم الذين جعلوا من انبثاق الروح القدس موضوع أخذ وردّ -قبل ذلك بسبعين سنة- وليس فوتيوس. فالغرب كان المعتدي في الأصل وليس الشرق. وابتع فوتيوس رسالته بعقد مجمع في القسطنطينية ألقى الحرم على البابا نيقولاوس داعياً إياه “الهرطوقي الذي يهدم كرمة السيد”}.

واجتمع الآباء الشرقيون في القسطنطينية سنة 867 واشتركوا في أعمال المجمع المنشود وحكموا على البابا وقطعوه ونادوا بلويس الثاني امبراطوراً. وهذا جل ما يجوز قوله عن هذا المجمع. فأعماله ضائعة ومعظم ما يقال عنه في بعض المراجع الغربية مأخوذ عن أعداء فوتيوس ومناظريه. وهو بالتالي ناقص في العدالة لا يصلح وحده لإثبات الحقائق التاريخية ولا يجوز والحالة هذه القول مع من قال أن بطاركة الشرق لم يرسلوا نواباً عنهم وأن فوتيوس نفسه “عيّن ثلاثة رهبان من أتباعه من الرعاع الأردياء الموافقين لرأيه الفاسد ليبوبوا عن البطاركة” ولعل الأفضل أن نقول مع الأب اميل امان أن الأبوكريساريوسة الثلاثة الموجودين في القسطنطينية آنئذ لتمثيل البطاركة الشرقيين نابوا عن رؤسائهم في هذا المجمع.

رد نيقولاوس: وخشي نيقولاوس المناداة بلويس الثاني امبراطوراً في المجمع ولمس مداهماً يهدد نفوذ الكنيسة الرومانية. وساءت حالته الصحية في صيف السنة 867 فأمر بتوحيد الجهود للرد على فوتيوس وطلب بصورة خصوصية إلى عالم الكنيسة الغربية هنكمار Hincmar رئيس أساقفة ريمس أن يسخّر علومه التاريخية لهذه الغاية. وظهرت ردود أهمها في تاريخ الكنيسة مصنف راترامنه Ratramne في الانبثاق. وتوفي نيقولاوس في الثالث عشر من تشرين الثاني سنة 867 دون أن يعلم النتيجة.

انقلاب في القصر: (867) وكان ميخائيل قد عطف على فارس مغوار استرعى نظره حينما ذلل مهراً جامحاً فأحبه وجعله أمير أخوره وهو باسيليوس مؤسس الأسرة المقدونية. وكان باسيليوس ذكياً نشيطاً قديراً ولكنه كان طموحه ملاقاً. فما أن أصبح عالماً بأحوال البلاط حتى أيّد برداس ضد أخته ثيودورة ثم أيّد فوتيوس ليبعد عن الفسيلفس كاتم أسرار عاقلاً فاضلاً. ثم نصب لبرداس المكايد وغدر به. وفي الرابع والعشرين من أيلول سنة 867 هجم على ميخائيل نفسه وقتله في قصره.

ولم يرضَ جمهور الشعب عن ميخائيل ولم يفرح بالانقلاب سوى الزرق المتطرفين. فاضطر باسيليوس أن يداري هؤلاء ويداورهم. فأوعز إلى فتيوس خصمهم أن يستعفي ففعل في اليوم الأول بعد الانقلاب. وفي الثلاث من تشرين الثاني عاد اغناطيوس إلى الكرسي البطريركي. وكان باسيليوس قد اشترك في أعمال المجمع الذي قطع نيقولاوس فرأى من الحكمة أن يسرع في إعلام رومة بم تم في بطريركية القسطنطينية.

وكانت السيادة في البحر المتوسط قد استقرت في يد المسلمين. وكان هؤلاء قد استقروا في صقلية وباري وترنتوم. وكانوا يغيرون من هذه القواعد على سواحل الادرياتيك الشرقية وسواحل إيطاليا الجنوبية فيرعبون سكانها ويعرقلون تجارتها. فأدى اندفاع باسيليوس في درء الخطر الإسلامي إلى تقرّب من البابا وتعاون مع الامبراطور الغربي لويس الثاني.

المجمع القسطنطيني التاسع: (869-870) ورغب الفسيلفس الجديد في تسوية تعيد الوحدة إلى الصفوف في عاصمته. وعلمت رومة بهذه الرغبة ولكنها توجّست خوفاً مما جرى في مجمع السنة 868 من تذامر الآباء الشرقيين في محاكمة بابا رومة وقطعه. وكان الآباء الغربيون قد عظموا الرئاسة ووقروها فجعلوها فوق حكم البشر. فتبنى ادريانوس الثاني (867-872) وجهة نظر نيقولاوس ودعا الأساقفة إلى مجمع في كنيسة القديس بطرس في العاشر من حزيران سنة 869. فرفض الآباء قرارات المجمعين القسطنطينيين اللذين عقدا في السنة 853 والسنة 861 وحرموا فوتيوس وغضوا النظر عن هفوات الآباء الذين اشتركوا في أعمال مجمع السنة 867 ولكنهم أوجبوا إبعادهم عن مراكزهم الاكليريكية. ووافقوا على اقتراح باسيليوس الذي قضى بعقد مجمع مسكوني في القسطنطينية ولكنهم أوجبوا على هذا المجمع قبول قراراتهم هذه دون إعادة نظر. ويعرف هذا المجمع باسم “المجمع المعادي لفوتيوس”. ويعترف به الغرب على أنه المجمع المسكوني الثامن. الذي افتتح بأقل من عشرين أسقفاً.

وافتتح المجمع أعماله في الخامس من تشرين الأول برئاسة بانس أحد كبار رجال البلاط وبحضور الوفد الروماني وممثلي البطاركة الشرقيين الثلاثة توما متروبوليت صور وإيليا كاتم سر البطريرك الأورشليمي والأرشدياكون يوسف نائب البطريرك الإسكندري واثني عشر أسقفاً قسطنطينياً. فلمس الرومانيون لمس اليد مبالغة ثيوغنوسطوس في أهمية الحزب الذي كان يؤيد اغناطيوس. ثم تكاثر عدد الأساقفة بنسبة تعاظم الضغط من القصر حتى بلغوا المئة في الجلسات الأخيرة. وعلى الرغم من توصيات المجمع الروماني فإن بانس أصرّ على استدعاء فوتيوس وأعوانه الاكليريكيين وعلى استماع ما يقولون في الدفاع عن أنفسهم. فاحتج الوفد الروماني على هذا الاستماع ثم وافق. فطُلِبَ فوتيوس للمثول ففعل. ثم طُلب إليه أن يجيب عما وُجّه إليه من انتقاد فرفض بعزة وأنفة. فقطع هو وجميع أتباعه وكسرت قرارات بطريركيته. وفرضت روما طاعتها فرضاً فجاء في القانون الثالث عشر أنه “إن جسر أحد أن يتمثل بفوتيوس وديوسقوروس ويكتب كتابة أو يقول قولاً يحط من كرامة كرسي بطرس هامة الرسل فيلكن محروماً مثلهما”.

ولكن هذا الانتصار لم يدم إلا قليلاً. ففي غد اليوم نفسه الذي انتهت فيه أعمال هذا المجمع (28 شباط 870) تقدم بوريس ملك البلغار بطلب إلى المجمع يرجو فيه البت فيما إذا كانت الكنيسة البلغارية تابعة لروما أو للقسطنطينية. فعقد أعضاء المجمع اجتماعاً خاصاً لهذه الغاية. ووجد رسل روما أن باسيليوس واغناطيوس لم يكونا أقلَّ تمسكاً بالكنيسة البلغارية وبوجوب دوام خضوعها لكرسي القسطنطينية من برداس وفوتيوس. وعلى الرغم من احتجاج رسل البابا فإن باسيليوس وممثلي بطاركة الشرق أقروا خضوع الكنيسة البلغارية لسلطة البطريرك المسكوني. وأسرع اغناطيوس فسام عليها رئيس أساقفة يونانياً يعاونه عشرة أساقفة يونانيين. واضطر الكهنة الرومانيون ورؤساؤهم أن يغادروا بلغاريا.

ويتضح مما تقدم أن موقف البطريركيات الشرقية في معضلة فوتيوس هذه كان مرتبطاً بموقف الفسيلفس. فالبطاركة قاوموا فوتيوس إرضاءً لباسيلوس الفسيلفس لا اعترافاً “بسلطة” نيقولاوس وأدريانوس أو امتثالاً لأوامرهما. فالكنيسة الشرقية كانت ولا تزال تعتبر المجمع المسكوني صاحب السلطة الأولى في الكنيسة. ورئيس الكهنة فيها لا يعلو عليه رئيس من حيث درجة كهنوته سوى المجمع (قانون الرسل). ولو كان الدافع لمقاومة فوتيوس انصياع هؤلاء البطاركة لأوامر روما لما خالفوها في قضية بلغاريا في غد اليوم نفسه الذي وقّعوا فيه قرارات مجمع القسطنطينية.

arArabic
انتقل إلى أعلى