858-867 و877-886
الأحزاب والكنيسة: وكانت روما الجديدة قد ورثت عن روما القديمة أحزابها الأربعة الزرق والخضر والبيض والحمر. ثم انضم البيض إلى الخضر والحمر إلى الزرق فانقسم سكان عاصمة الروم وأمهات مدنهم إلى حزبين رئيسين إلى زرق وخضر. وكانت الكنيسة الأرثوذكسية (ولا تزال) يونانية في فكرها ونظمها فقالت بالديمقراطية وأشركت الشعب في جميع نواحي حياتها فلعبت الحزبية الشعبية دوراً هاماً في أعمال هذه الكنيسة وأقوالها.
وشمل الزرق في ميدان السياسة الدينية الطبقتين الغنية والمتوسطة والرهبان المتطرفين ولا سيما الاستوديين. وانضوى إلى الخضر جمهور الشعب والرعاة والكهنة ورهبان آخرون وحارب الزرق العلوم الكلاسيكية القديمة فماشى العلماءُ الخضرَ في غالب الأحيان. فانقسمت الكنيسة غلى زرق محافظين متطرفين Acribeia وإلى خضر طلقاء معتدلين Oeconomia.
واصطبغ الانقلاب الذي دبّره الأمبراطور نيقيوفوروس واعوانه في السنة 802 باللون الأخضر فأيده جمهور الشعب والأساقفة والكهنة وقاومه الأغنياء والأشراف والرهبان. وتوفي طراسيوس البطريرك في السنة 806 فرشح الزرق المتطرفون ثيودوروس الاستودي ولكن نيقيوروس الامبراطور آثر الاتزان والاعتدال فأيّد نيقيوفوروس وزير المال وجعل منه بطريركاً مسكونياً (806-815) فاعترض الزرق المتطرفون على شرطونية البطريرك الجديد وقاوموه مقاومة عنيفة وتآمروا على حياة الأمبراطور. وكان ما كان من أمر نيقيفوروس في حرب البلغار وسقوطه في ميدان القتال فتألب الزرق المتطرفون على ابنه وولي عهده وأقاموا ميخائيل الأول إمبراطوراً محله. وعلا شأن الاستوديين في عهد هذه الفسيلفس ولكن قلة خبرتهم وتطرفهم في الرأي والعمل أدّيا إلى الاندحار في الحرب ووصول لاوون الخامس إلى الحكم وتأجيل تكريم الأيقونات ثلاثين سنة أخرى.
وخلف نيقيفوروس على السدة المسكونية ثيودوروس كسيتراس (815-821) وأنطونيوس كاسيماتاس (821-837) فيوحنا الكاتب (837-843) وقالوا جميعهم برفع الأيقونات من الكنائس وعدم تكريمها. وجاءت الفسيلسفة ثيودورة تكرم الأيقونات في السنة 843 فأنزلت يوحنا الكاتب عن الكرسي وراحت تفتش عن خلف له. وكانت متطرفة في عاطفتها الدينية وقالت قول الاستوديين ولكنها آثرت وصول بطريرك معتدل إلى الكرسي المسكوني تحوطاً. وأوعزت بانتخاب مثوذيوس الصقلي العالم الكبير والتقي الورع وصديق زوجها المتوفى. ورغب مثوذيوس رغبة أكيدة في المحافظة على السلم والوئام في الكنيسة فابتعد في انتقاء الأساقفة الجدد عن الأوساط المتطرفة فأثار بذلك غضب الاستوديين وأعوانهم. فهاجوا وماجوا وعابوا الأموات قبل الأحياء فعادوا إلى الطعن في طراسيوس ونيقيفوروس واضطر مثوذيوس أن يقطعهم من الشركة.
وتوفي مثوذيوس في حزيران السنة 847. ولحظ ثيوكتيستوس مستشار ثيودورة وعزيزها تكتلاً في الأوساط العلمية حول برداس مناظره ففتش هذه المرة عن خلف لمثوذيوس في الأوساط المتطرفة وقدّم اغناطيوس ابن الفسيلفس ميخائيل الأول ولم يكترث لما أبداه المعتدلون من تعلق بغريغوريوس اسبستوس صديق مثوذيوس ورئيس أساقفة سرقوسة. وكان اغناطيوس قد اشتهر بورعه وغيرته على الدين والكنيسة ولكنه كان سريع الغضب معجباً بنفسه مستبداً برأيه.
اغناطيوس وبرداس: (847-857) وظلت ثيودورة تدير دفة الحكم أربع عشرة سنة (842-856). وفي خلال هذه المدة نشبت مشادة بين ثيوكتيستوس وبرداس أخي ثيودورة، أهم أسبابها حب السلطة وشهوة الحكم. فنشأ انقسام داخلي في مجلس الوصاية أدى إلى استقالة عمانوئيل عم الفسيلفس وإلى سجن ثيوكتيستوس وقتله سنة 854. وكان السبب المباشر وشاية رفعها برداس إلى الفسيلفس الشاب أن ثيوكتيستوس عقد النية على التزوج من ثيودورة أو إحدى بناتها للوصول إلى العرش. فنشأت مشادة عنيفة بين ثيودورة وأخيها برداس حول السلطة أدت في السنة 856 إلى خروج ثيودورة وبناتها من القصر. وأصبح برداس صاحب الصول والطول.
وتوفي أحد أبناء برداس فأقامت امرأته أفذوكية في بيت عمها برداس. ولم تكن الحماة والكنة على مشرب واحد فاندلعت الشرور في البيت. وأظهر برداس عطفاً على كنته فاتهمته زوجته بكنته. فطرد امرأته من البيت. فالتجأت إلى أخته ثيودورة. فوبّخ اغناطيوس برداس ونهاه عن المحرم ونصح له أن يقبل امرأته في البيت. فأبى برداس. وفي عيد الظهور الإلهي سنة 857 تقدم برداس مع ميخائيل الثالث ليتناول الأسرار الإلهية. فآبى البطريرك مناولته وطرده خارج الكنيسة. وحنق برداس على البطريرك اغناطيوس وطفق يسعى للانتقام منه.
واتفق أن راهباً ادعى أنه ابن ثيودورة من رجل كان لها في السابق. فأخذ الشعب ينظر إليه كأنه هو الملك المزمع بعد تنحيها. فقبض عليه برداس وزجه في السجن. واستنطقه فلم يعترف. فأمر بقلع عينيه وقطع أوصاله. وكان البطريرك اغناطيوس يعطف على هذا الراهب ويدافع عنه ناسباً عمله إلى الجنون. فاغتنم برداس الفرصة واتهم البطريرك بالتآمر على الفسيلفس ليرجع ثيودورة وبناتها إلى إدارة المملكة. فصدَّق الفسيلفس كلام برداس وأمر اغناطيوس أن يجعل ثيودورة وبناتها راهبات في إحدى الأديرة. فسألهن اغناطيوس هل يردن الدخول في سلك الرهبنة فأنكرن فامتنع عن إجابة طلب الفسيلفس. فصدّق ميخائيل أن البطريرك عدو له. فأكره والدته وأخوته على الترهب كما أوعز إلى اغناطيوس أن ينزل عن كرسيه. فلمس اغناطيوس تعقد الأمور لمس اليد وأدرك أن لا فائدة للكنيسة من بقائه في منصب الرئاسة فاستعفى عن رضى واختيار وأشار على الأساقفة أن ينتخبوا غيره “من أبناء الكنيسة”. وليس من العلم بشيء أن نصرّ على الغيَّ فنقول مع مرتينوس جوجي واميل أمان أن اغناطيوس خلع خلعاً.
فوتيوس رئيس الكنيسة: (858) وشاورت الحكومة وفاوضت الأساقفة فاتضح لها أن الأساقفة أصدقاء اغناطيوس رغبوا في تطبيق القانون أي في دعوة المجمع القسطنطيني إلى الانعقاد ليبحث القضية ويرفع إلى الفسيلفس أسماء ثلاثة أساقفة يرى فيهم اللياقة والكفاءة لينتقي الفسيلفس أفضلهم. فوافقت الحكومة على دعوة المجمع. وتوافد الآباء الأعضاء. ولكنهم كانوا قد تخالفوا فيما بينهم وتشاقوا في عهد اغناطيوس فانقسموا إلى متطرفين يؤيدون اغناطيوس ومعتدلين يعارضونه كل المعارضة. ولدى اجتماعهم للبحث عن راعٍ صالح يخلف اغناطيوس تفرقت كلمتهم واضطرب حبلهم. ثم توافقوا على أن يكون الخلف من كبار رجال الدولة أصحاب الرأي الورع والتقوى. ولم يروا في عملهم هذا خروجاً كبيراً على القوانين والتقاليد فطراسيوس ونيقيفوروس لم يكونا اكليريكيين قبل إجماع الكلمة على انتخابهما. وهكذا فإن المجمع رفع إلى الفسيلفس أسماء ثلاثة أحدهم اغناطيوسي متطرف والآخر معتدل والثالث حيادي وهو فوتيوس رئيس مجلس الوزراء Protoaskretis.
وأيّد معظم الأساقفة أتباع اغناطيوس المرشح الجديد لأسباب أهمها أنه كان أرثوذكسياً لا غش فيه وأنه تحمل العذاب في سبيل الدفاع عن الدين القويم في أثناء حرب الأيقونات وأنه كان يمت بصلة النسب إلى ثيودورة الفسيلسة وإلى برداس في آن واحد.
وكان فوتيوس كريم الأصل يرجع في نسبه إلى أسرة يونانية قديمة تتصل بالأسرة المقدونية. وكان أبوه سرجيوس ابن أخي البطريرك طراسيوس وكان سيافاً في القصر. وكانت أُمْ فوتيوس ايرينة شقيقة لعديل الفسيلفس ثيوفيلوس واشتهر والده بمناصرة الرأي الأرثوذكسي واستشهد لهذه الغاية. ونشأ فوتيوس في القسطنطينية وتلقى علومه فيها. ثم تبحر واستبحر فأصبح واسع الاطلاع غزير المواد متقناً لعلوم اللسان اليوناني مطّلعاً على آدابه بصيراً بمذاهبه الفلسفية. وأحاط بسائر علوم زمانه كالفقه والطب والفلك. وكان جزيل الورع فاضلاً لطيفاً وديعاً محباً للسلام. ولدى وصوله إلى السدة البطريركية تضلع من علم اللاهوت وخاض عباب علم التفسير واستجلى غوامضه. أشهر آثاره الفكرية مجموعة الميريوبيبلون Myriobiblon “الوف الكتب” وفيها منتخبات من مئات المؤلفات القديمة وتعليقات هامة عليها وكتاب الليكسيكون Lexicon في علوم اللغة وكتاب الامفيلوخية Amphilochia وفيه الأسئلة والأجوبة في مواضيع مختلفة. وله مقالات ورسائل تحفظ رأيه في بعض المشاكل التي أُثيرت في عهده. ولا يختلف اثنان فيما نعلم في عبقرية فوتيوس وعظمته وسمو مطلبه وطهارة سيرته واستقامة عقيدته. واستوظف فوتيوس فتسم أعلى المراتب فأصبح بروتوسباتاريوس “السياف الأول أي رئيس رجال المعية” وبروتوسيكيرتيس أي السكرتير الأول ومستشاراً وأول عضو في المجلس الأعلى . وانتدب سفيراً إلى شرقنا. وعلّم فوتيوس في جامعة القسطنطينية وأصبح بيته داراً للعلم والأدب والحكمة يؤمه الأدباء والعلماء في كل يوم.
وعلا فوتيوس درجات الكهنوت بسرعة فسيم في اليوم الأول متوحداً وفي اليوم الثاني اناغنوسطساً وفي الثالث ابيوذياكوناً وفي الرابع شماساً وفي الخامس قساً وفي السادس أسقفاً فبطريركاً. ولم يرَ الروم آنئذ في هذه الترقية الشذوذ الذي نراه اليوم. فبولس الثالث سيم بطريركاً على القسطنطينية في السنة 687 بهذه الطريقة نفسها وكذلك طراسيوس في السنة 874 ونيقيفوروس في السنة 806. ومما يجدر قوله أن رومة لم تمتنع عن الاعتراف بهؤلاء كما امتنعت عن الاعتراف بفوتيوس. وكان المتقدم في شرطونية فوتيوس رئيس أساقفة سرقوسة غريغوريوس خصم اغناطيوس. ولكنه لم ينفرد بالشرطنة كما زعم الأب جوجي بل عاونه فيها أسقفان اغناطوسيان آخران.
(Mansi, Greek Acls, XVI, Col. 348, 352, 353; Dourmik, F., Photion Schism, 51, n.4.)
وأدى “تقدّم” غريغوريوس في شرطونية البطريرك الجديد إلى نفور اغناطيوس وخمسة أساقفة معه. ورغبت الحكومة في السلم والوئام فأشارت على فوتيوس بالتسوية. فاشترط الأساقفة الخمسة على فوتيوس أن يجل زعيمهم اغناطيوس فيحسبه بطريركاً بريئاً من التهم الموجهة إليه وأن يمتنع عن التفوه بشيء ضده وأن يمنع غيره عن ذلك أيضاً. ويرى الأب جوجي أن فوتيوس وعد ألا يقبل في الشركة من يطعن باغناطيوس. وهذا توسع في تفسير النصوص لا تجيزه قواعد المصطلح.
وهكذا فإن روح التضحية الشخصية وانكار الذات التي تجلّت بتنازل اغناطيوس عن الكرسي وبقبول فوتيوس بالشروط المفروضة أنقذت الكنيسة القسطنطينية من الشقاق. فكتب فوتيوس إلى زميله بطريرك أنطاكية يبشره بحلول السلام والوئام ودون نيقيناس خبر انتهاء المشادة والمشاحنة.
ولكن الأحقاد ظلت توغر الصدور في الأوساط السياسية وتستوقد الغيظ فثيودورة وأعوانها كانوا لا يزالون يبطنون العداوة لمخائيل وبرداس وينصبون لهما الحبائل الخفية. وكان اغناطيوس لايزال يعطف على ثيودورة وكذلك بعض الاستوديين فإنهم ظلوا حاقدين متنمرين مضمرين الحزازة والضغينة. ورأى فوتيوس أن يمنع الاكليروس عن مكاشفة الحكومة بالعداوة فاتهمه الاغناطيوسيون بالخيانة ونكث العهود. واجتمعوا في كنيسة القديسة ايرينة ونادوا باغناطيوس بطريركاً شرعياً وحرموا فوتيوس. فدعا فوتيوس المجمع القسطنطيني إلى كنيسة الرسل لبحث المشكلة الجديدة. فاعتبر الآباء عمل اغناطيوس وأعوانه غير قانوني وأكدوا اللجوء إلى خلعه إن هو قبل الرئاسة مرة ثانية أو عاد إلى التجاوز والتطرف الذي كان قد أدى إلى الشغب والفوضى في الكنيسة. واشترك الاغناطيوسيون في أعمال هذا المجمع ولكنهم لجأوا إلى التشويش فقمعت الحكومة هذه المقاومة بالقوة ونفت اغناطيوس ونيقولاوس رئيس دير الاستوديون وغيرهما (859).
وقد نُعِتَ فوتيوس بأنه “ألمع مفكر وأبرز سياسي وأحذق دبلوماسي تولى السدة البطريركية القسطنطينية”.
رسائل الجلوس: (860) وقضى العرف بتوجيه رسائل الجلوس -سلامية- إلى سائر البطاركة لتنبئ بالانتخاب الجديد وتتضمن اعترافاً بالإيمان المقدس. وكان الامبراطور نيقيفوروس قد منع البطريرك نيقيفوروس عن توجيه رسالة بالجلوس إلى بابا رومة نظراً لإقدام حبر رومة على شق الأمبراطورية والاعتراف بامبراطور غربي. ولم يرضَ الأباطرة محاربوا الأيقونات عن إرسال هذه الرسائل إلى رومة نظراً للاختلاف في موقف الكنيستين الرومانية والقسطنطينية من الأيقونات. وذهبت ثيودورة التقية وبطريركها مثوذيوس إلى أبعد من هذا فامتنعا عن تبادل الرأي مع رومة قبل العودة إلى إكرام الأيقونات المقدسة. واصطدم فوتيوس بامتناع الاغناطيوسيين عن الاعتراف بسلطته فرأى من الحكمة أن يوجه رسائل الجلوس إلى كل من بابا رومة وبابا الإسكندرية وبطريرك أنطاكية وبطريرك أورشليم راجياً أن يعينه اعتراف زملائه برسائلهم السلامية بتخفيف الأزمة في القسطنطينية. فكتب في ربيع السنة 860 إلى حبر روما نيقولاوس الأول وإلى حبر الإسكندرية ميخائيل الأول وإلى حبر أورشليم ثيودوسيوس وإلى ايكونوموس كنيسة أنطاكية. وكان يتنازع الكرسي البطريركي في كنيستنا نيقولاوس الأول البطريرك الشرعي وافستاثيوس متروبوليت صور. ولعل هذا هو السبب الذي حدا بفوتيوس أن يرسل كتاب الجلوس باسم ايكونوموس -مدير أوقاف الكنيسة وأمين ممتلكاتها- الكنيسة الأنطاكية لا باسم البطريرك.
وجاء في رسالة الجلوس التي ارسلها فوتيوس إلى بطاركة الشرق بعد الشكر لله على احساناته وعلى نعمة الكهنوت ما معناه: “إني عندما أتأمل في سمو الرتبة الأسقفية وأنظر إلى الضعف البشري ولا سيما حقارتي يأخذني العجب وأحار في أمر أولئك الذين يقدمون على أثقال كاهلهم بهذا الحمل المرهق. أما أنا فيعجز لساني عن وصف الحزن الذي شملني لدى قبولي ذلك العبء الثقيل. إني لم أرتقِ السدة البطريركية إلا بعد ما تنحى عنها سلفي ولأني لم أجد سبيلاً للتخلص من تلك المسؤولية الكبرى التي اضطرني إلى تحملها الكهنة والأساقفة ولا سيما الفسيلفس”.
فأبطأ الآباء البطاركة ريثما ينجلي الموقف. ثم تلقوا رسالة من زميلهم الأكبر بابا روما (861) أعلمهم فيها أنه لم يشترك في رسامة فوتيوس أو تنزيل اغناطيوس. فازدادوا تريثاً وباتوا ينتظرون تطور الموقف. ثم عاد فوتيوس فكتب إلى توما متروبوليت صور يسأله ما إذا كانت الكنيسة الأنطاكية تعترف به فأجابه بالنفي. بيد أن افستاثيوس منافس نيقولاوس الأول عمد بعد حين إلى الاعتراف بفوتيوس لعله يستعين بهذا الاعتراف على خصمه نيقولاوس. فشكر فوتيوس وطلب إليه أن يقوم إلى القسطنطينية.
البابا نيقولاوس الأول: (858-876) وكان نيقولاوس بابا روما يهوى السياسة ويحب مزاولتها. وكانت مواهبه غير عادية ففاق سلفاءه القريبين من عهده علماً وعزماً وحزماً. وعزَّز رئاسته في الغرب تعزيزاً فنفذت كلمته في فرنسا والمانيا وأخضع يوحنا رئيس أساقفة رابينة بعد مشادة عنيفة.
وأراد نيقولاوس أن يبلغ في الشرق إلى حيث لم تبلغ آمال أسلافه. فكتب إلى فوتيوس يأسف أنه ليس بامكانه أن يعترف به فوراً وأن اعترافه سيتوقف على التحقيق الذي سيجرى من قبله في القضية.
المجمع الأول الثاني: (861) وفي أثناء هذا كله استؤنفت محاربة الأيقونات وذر قرن الشقاق بين الأرثوذكسيين وأصحاب الطبيعة الواحدة. وهب البولسيون والمانويون يشاغبون. فرأى الفسيلفس ومجلسه الأعلى والبطريرك الجديد أن يجمعوا مجمعاً مسكونياً. وكانت الدعوة إلى هذه المجامع من حق الأباطرة وقد مارسوها منذ عهد قسطنطين الكبير. فضمن الفسيلفس رسالته إلى نيقولاوس دعوة إلى مجمع مسكوني يعقد في القسطنطينية للنظر في مشاكل كثيرة. فقبل نيقولاوس الدعوة واعترض على أعمال مجمع كنيسة الرسل ثم اقترح إعادة النظر في قضية اغناطيوس أمام المجمع المسكوني وبحضور ممثليه الأسقفين رادولدو وزخريا ليتسنى له الاطلاع على الحقيقة والعمل بموجب القوانين المرعية الإجراء. وأشار بعد هذا إلى تعدي لاوون الأسوري على حقوق البطريركية الرومانية وطلب إعادة ما سُلخ عنها وشمل هذا الطلب أبرشيات كلابرية وصقلية واليرية ومقدونية وتسالية وآخية وداقية وميسية وبريفاليتانية. ويرى الأب اميل امان أن اللوم في هذا التوسع في الطلب يجب أن يقع على انسطاسيوس سكرتير البابا لا على نيقولاوس نفسه.
والتأم المجمع في ربيع السنة 861 فأعلن بولس متروبوليت قيصرية قبدوقية في الجلسة الأولى أنه لا حاجة لاعادة النظر في قضية اغناطيوس لأنه خُلع لذنوب اقترفها وأن كنيسة القسطنطينية تعتبر مشكلة اغناطيوس قضية مفروغاً منها ولكن إكراماً للقديس بطرس وللأب المسكوني الأقدس نيقولاوس لا مانع في النظر في هذه ثانية. ومثل اغناطيوس أمام المجمع وحقق معه في كيفية ارتقائه إلى الكرسي وما إذا كان قد انتخب انتخاباً أو عُيّن تعييناً. فأجاب أن امرأة رفعت طراسيوس قبله إلى الكرسي نفسه. فاعترض الفسيلفس وقال: “بل قل أنه عُيّن في عهد امرأة”. ثم امتنع اغناطيوس عن الحضور في الجلسة الثانية. وفي الجلسة الثالثة أُكرِهَ على الحضور بأمر الفسيلفس. ولمّا مثل أمام الآباء اعترض على صلاحية ممثلي البابا وسأل: “من هم القضاة الذين ينظرون في قضيتي”. فأجابه الأسقفان الرومانيان: “هم نحن والمجمع المقدس”. فأجاب أنه لا يرضى وأنه سيطلب تدخل البابا. وفي الجلسة الرابعة استجوب المجمع بناء على طلب ممثلي روما اثنين وسبعين شاهداً عن كيفية وصول اغناطيوس إلى الكرسي البطريركي ثم اتخذ الآباء قراراً بخلع اغناطيوس والاعتراف بفوتيوس ووافقهم على ذلك ممثلا روما.
وبحث المجمع مسألة الأيقونات فأوجب تكريمها. وقاوم فرق الهراطقة بأقوال الروح فاجتذب أكثرها إلى حظيرة المخلص. ووضع قوانين تتعلق بالأديرة والرهبان فحرّم تحويل المساكن إلى أديرة بدون موافقة الأساقفة وأوجب على الملاكين أن يتنازلوا عن حقوقهم في ملكية هذه المساكن. ومنع المجمع شرطنة الرهبان الذين لا يرغبون في الخضوع إلى رئيس معين وأوجب الإقامة في الأديرة والابتعاد عن السكنى في المنازل الخصوصية. وفرض على كل راغب في الزهد والتقوى أن يتخلّص من ممتلكاته قبل دخوله في الرهبنة. ومن أعمال هذا المجمع أن الآباء أقرّوا ألا يقوم بعد ذلك بطريرك من طبقة العوام أو الرهبان ما لم يتمرّس في درجات الكهنوت درجة درجة ويتمم المدة القانونية فيها.
وقد سُمي هذا المجمع الأول الثاني لأنه عندما بحث أمر الأيقونات هجم محاربوها من الخارج وعطلوا جلساته بالقوة. ثم عاد إلى الانعقاد ثانية فسمّي المجمع الأول الثاني.