الكنيسة على عتبة الألفية الثانية

عصر الروم الذهبي
843-1025

البطريرك: جارت الكنيسة الدولة في نظمها. فكانت الكنيسة واحدة جامعة كما كانت الأمبراطورية واحدة جامعة. وكما جاز للإمبراطورية أن يكون لها إمبراطوران أو أكثر في آن واحد كذلك جاز للكنيسة أن تخضع لأكثر من رأس واحد. وتقبّل المجمع المسكوني الثاني (381) هذه النظرية فأوجب في قانونه الثاني على الأساقفة ألا يتعدى أحدهم على الكنائس التي تقع خارج حدود أبرشيته. وأقرّ في قانونه الثالث أن يكون التقدم “في الكرامة” لأسقف القسطنطينية بعد أسقف روما “لكونها روما الجديدة”. ثم أقرّ المجمع المسكوني الرابع في قانونه الثامن والعشرين هذا التقدم في الكرامة لأسقف القسطنطينية بعد أسقف روما. ثم جاء يوستنيانتوس الكبير يشترع فتعرف إلى بطاركة خمسة: بطاركة روما والقسطنطينية والإسكندرية وأورشليم واعتبرهم أساس النظام والسلطة في الكنيسة الواحدة الجامعة.

الشرطنة: وهو لفظ يوناني Cherotonia ومعناها الانتخاب. وكان البطريرك ينتخب انتخاباً. فقد قضى قانون يوستنيانوس بأن ينتخب الإكليروس ووجهاء العاصمة ثلاثة فينتقي الأسقف المشرطن أي أسقف هرقلية أفضل هؤلاء للسدة البطريركية. ثم حرّم المجمعان النيقاوي (787) في قانونه الثالث والقسطنطيني (870) في قانونه الثاني عشر سيامة بطريرك ينفرد أمير بانتقائه كما حرّما تدخل الشعب في الانتخاب. وأصبح انتخاب البطريرك بعد هذا محصوراً في مطارنة الكرسي. وتوجب على جميع المطارنة أن يشتركوا في هذا الانتخاب. ثم جاء في كتاب التشريفات لقسطنطين السابع (912-959) أن المطارنة ينتخبون ثلاثة ينتقي الفسيلفس أحدهم وأنه إذا لم يرضَ عن الثلاثة جاز له أن ينتقي رابعاً يقبل به المطارنة وبقي الحال على هذا المنوال حتى آخر أيام الأمبراطورية: المجمع ينتخب والفسيلفس يرقي.

التنصيب والتولية: وكان التنصيب يتم على درجتين: إعلان اسم المنتخب menouma وحفلة التنصيب Prozlesis. وكان الفسيلفس يدعو أعضاء مجلس الشيوخ والمطارنة وعدداً كبيراً من سائر رجال الاكليروس إلى القصر ليقول: “إن النعمة الإلهية وقدرتنا المستمدة منها تعلنان ترقية فلان إلى رتبة بطريرك القسطنطينية”. وعندئذ يظهر البطريرك المنتخب ليتقبل تهاني الشيوخ والمطارنة. ثم يصار إلى تنصيبه بطريركاً في الاحد التالي في كنيسة الحكمة والمنذية والصليب. ويدعى بعد هذا صاحب القداسة ويخاطبه المطارنة بالعبارة: “إيها السيد الفائق القداسة” ويوقع هكذا: “بنعمة الله أسقف القسطنطينية رومة الجديدة والبطريرك المسكوني”.

الانتقاء: وحرمت مجامع نيقية (326) وأنطاكية (341) وسرديكة (347) تنقل الأساقفة من كرسي إلى كرسي فتعذر على أساقفة الكرسي القسطنطيني أن يتبوأوا السدة البطريركية. والواقع أنه لم يرق هذه السدة في أساقفة الكرسي القسطنطيني سوى ستة بين القرن السادس والقرن الثاني عشر وسوى أحد عشر بين السنة 1169 والسنة 1440. وهكذا فإن انتقاء البطاركة كان يتم في غالب الأحيان من بين الكهنة والرهبان. وآثر الأساقفة المنتخبون أعضاء السنودوس كهنة كنيسة الحكمة الإلهية على سواهم فرقوا في القرون الرابعة بين السنة 379 والسنة 705 ثمانية عشر كاهناً من كهنة هذه الكنيسة إلى السدة البطريركية وسبعة من كنائس القسطنطينية أو أثينة أو الإسكندرية أو أنطاكية فتحلوا بالعلم العالي وبسعة الإطلاع. وما بين السنة 705 والسنة 1204 رقى السدة القسطنطينية خمسة وأربعون راهباً وخمسة عشر كاهن رعية وسبعة علمانيين وستة أساقفة.

صلاحيات البطريرك: والبطريرك بموجب الابناغوغة (884 – 886) معلم الكنيسة الأكبر ومفسر عقيدتها الأوحد. وهو صاحب السلطة الاكليريكية العليا ينظر في ما يستأنف إليه من القرارات فيرمها أو يلغيها. وتمتع بموجب نص الابناغوغة بحق الستافروبيغية أي بالسلطة المباشرة على كل ما يغرز فيه صليبه في جميع الأبرشيات الخاضعة لسلطته الروحية فزاد هذا الامتياز نفوذه ودخله في آن واحد. وكانت قراراته thespismata نافذة مرعية الاجراء في جميع أنحاء الامبراطورية وكانت تصدر في ظاهرها عنه وحده ولكنه قلما أقدم عليها بدون موافقة لجنة السنودوس. وكان البطريرك يدعو السنودوس بكامله إلى الانعقاد للنظر في المسائل الهامة كاعداد أعتراف بالإيمان أو النظر في قضية عقائدية أو اتخاذ اجراء إداري هام. فلما عظم أمره وكثرت مشاغله وتنوعت نشأ حوله في أواخر القرن الخامس أو أوائل السادس سنودوس دائم شمل مطارنة الأبرشيات القريبة من القسطنطينية وعرف بالسنودوس الانذموس وظل السنودوس الأكبر الذي يشمل جميع المطارنة هو المرجع الأخير في المشاكل الهامة. وعند تأزم الأمور كان البطريرك يدعو إلى الإشتراك في أعمال المجمع الأكبر وجهاء الشعب وأعضاء مجلس الشيوخ فيتحول السنودوس إلى “مجمع عام” يمثل أكبر كبراء الكنيسة القسطنطينية من اكليريكيين وعلمانيين.

وظل البطريرك صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في أمور الليتورجية. فكان هو وحده يقر الأعياد الجديدة ويعدل التقويم الكنسي ويشرف على ممارسة الأسرار. بيد ان واجبه الأكبر قضى بالسهر على انضباط الاكليريكيين وتقيدهم بالانظمة المرعية الاجراء. فكان عليه أن يقمع الفساد ويؤدب العصاة والمعاندين. وكان يستند في تنفيذ أحكامه إلى تعاون وثيق مع السلطات الزمنية وإلى امتيازات خصه بها العرف والقانون. وأهم هذه أنه كان له حق الإشراف على انتخاب الأساقفة وحق الامتناع عن الاعتراف بقانونية الأنتخاب. فكان الأسقف المنتخب يظل أسقفاً منتخباً إلى أن ينال من يد البطريرك الأوموفوريون رمز السلطة الروحية.

وكان التشريع في الأحوال الشخصية لا يزال محصوراً كغيره من أنواع التشريع في يد الأمبراطور. وكان شغل لاوون السادس (886-912) الشاغل أن يكون له ولد ذكر يخلفه على العرش. وماتت زوجته فتزوج ثانية ثم ثالثة ثم رابعة غير مكترث بنصوص القانون الذي سنه هو نفسه. فكانت مشادة بينه وبين البطريرك أدت إلى نزول هذا عن كرسيه ولكنها لم تنتهِ عند هذا الحد. فالكنيسة أصرت على شجب الفسيلفس وتوصلت في السنة 920 إلى إصدار قرار أسمته كتاب الاتحاد Tomos Enouseous منعت في الزيجة الرابعة منعاً قطعياً وحرمت على المتجاسر عليها الدخول إلى الكنيسة ونعتت الزيجة الثالثة بالدناسة ومنعتها على الذين لهم أولاد والذين يزيد عمرهم على الأربعين ووضعت المتزوجين الزيجة الثالثة تحت قصاص الابتعاد عن المناولة خمس سنوات. فانتصرت بذلك انتصاراً باهراً وبدأت تنتزع حق التشريع في أمور الزواج والأحوال الشخصية من يد الفسيلفس والسلطات الزمنية. ثم جاء البطريرك اليكسيوس الاستودي (1038) فلم يسمح بالزواج في درجة القربى السابعة إلا بعد الندامة والتوبة. وتبعه البطريرك ميخائيل كيرولاريوس (1043-1059) فحرم هذه الزيجة تحريماً. وأصبح في أمور الزواج بعد هذا حقاً من حقوق الكنيسة.

البطريركية: وقام القصر البطريركي Patriarcheion إلى جانب كتدرائية العاصمة كنيسة الحكمة الإلهية “أجيا صوفيا” وأطلّ بواجهته الجميلة على الفوروم الأوغسطي. وحوى في طابقه السفلي مكتبة البطريركية وقاعتي المحاكمة السكريتون العظمى والصغرى وقاعة السندوس. وكان يربط هذا القصر بكنيسة الحكمة الإلهية من جهته الخلفية ممر يؤدي إلى منابر الوعظ والإرشاد.

ولم تختلف الإدارة البطريركية في أوائل عهدها عن إدارات المطرانيات فتألفت من اكليريكيين يعانون الأسقف في القيام بواجباته الطقسية وفي قضاء حاجات الشعب الخاضع لسلطته. ثم تطورت ظروف أسقفية القسطنطينية فأصبح بطريركاً ثم بطريركاً مسكونياً فتنوعت الواجبات وتعددت وكثر عدد الموظفين وتفاوتوا في الأهمية فأصبحوا طبقات. ويقدر عدد الاكريكيين في البطريركية القسنطينية في هذا العهد الذي نحن بصدده بحوالي خمس مئة كما يرجحون أن عدد كبار الموظفين لم يتجاوز الخمسة والأربعون موظفاً. ويرون أن أهم هؤلاء كانوا خمسة: السنكلوس والايكونوموس والسكيلاريوس والسكيفوفيلاكس والخرتوفيلاكس.

أما السنكلوس Sugkellos فإنه كان في البدء أمين سرّ البطريرك وموضع ثقته فيه ومعاونه الأول في الإدارة. وعظم أمره فاعتبر في غالب الأحيان وريث البطريرك وخليفته. فرقي السدة البطريركية بين عهد يوحنا القبدوقي (518) وعهد ميخائيل كيرولاريوس (1043) ثلاثة عشر سنكلوساً. وتدخل الامبراطور بانتقاء السنكلوس وتمت ترقيته إلى منصبه في قصر الأمبراطور ومنح مرتبة خصوصية في التشريفات الأمبراطورية وتقدم على المطارنة وعهد إليها بمهمات سياسية فأصبح رجل الأمبراطور في البطريركية. ثم تطورت الظروف فمنح الأمبراطور هذا اللقب المطارنة المقربين فنشأت مشادة بينهم وبين زملائهم الذين لم يحملوا هذا اللقب انتهت بشغب يوم عيد العنصرة في كنيسة الحكمة الإلهية في السنة 1029 فظهر عندئذ لقب البروتوسنكلوس.

وعني الايكونوموس Oikonomos بتدبير مصالح البطريركية المادية. وكان عليه أن يفتش الأوقاف ويجبي دخلها. وكانت هذه الأوقاف كثيرة متنوعة منها الأراضي الزراعية والقرى والأديرة. وتوجب على الايكونوموس أن يتسلم المعونات السنوية من صندوق الدولة وأن يشرف على انفاقها.

وسيكلاريوس الأمبراطور هو حارس السكليون Sakellion أي أمين الصندوق. أما سيكلاريوس البطريرك فإنه كان ناظر الأديرة وحافظ النظام فيها.

وحفظ السكيفوفيلاكس Skeuophylax الأواني المقدسة والبدلات الحبرية وكتب الخدمة المقدسة وأعد كل ما لزم لخدمة القداس. ومن هنا اهتمامه بالقمح والخمر والزيت والشمع وما نتج عن ذلك من مشاكل. ولا يخفى ما وصلت إليه الأواني المقدسة من تزيين وترصيع وتجميل وما حوته البدلات الحبرية من جواهر.

ويستدل من أعمال المجامع أن الخرتوفيلاكس Chartophylax كان في القرنين السادس والسابع مدير محفوظات البطريركية وأمين مكتبتها. ثم أصبح في القرن التاسع أكبر كبراء البطريركية وأقرب المقربين إلى البطريرك يحل محله عند الحاجة وينفذ القانون باسمه. ونراه في القرن الحادي عشر مسيطراً على جميع أعمال البطريركية مقدماً على المطارنة في التشريفات الملكية “لأنه فن البطريرك ويمينه”. وشملت المحفوظات التي تولى حفظها القوانين الملكية والأحكام البطريركية واعترافات الأساقفة بالإيمان وأعمال المجامع المسكونية والمحلية ولوائح الأساقفة. وكانت هذه الأوراق جميعها تختم بخاتم البطريرك وتوقع بتوقيع الخرتوفيلاكس. وقضى الواجب أن يعني الخرتوفيلاكس بجميع الكتب الكنسية والمحافظة على سلامتها ومنع كل دس فيها ومقابلتها عند الاقتضاء بغيرها وترجمتها. وتنوعت أعماله الإدارية واتسعت صلاحياته فكان عليه أن يحقق في كل ترقية اكليريكية فبل السماح بها. وكان عليه أيضاً أن يشرف على انتخابات الأساقفة وأن يراقب جميع كهنة القسطنطينية ورهبانها. وكان يجلس للنظر في سلوك الإكليريكيين فارضاً الندامة والتوبة ومهدداً بالقطع إذا قضت الظروف بذلك. وكان يفصل في دعاوي الزواج والطلاق. وكان عليه بالإضافة إلى هذا كله أن يفض جميع الرسائل الموجهة إلى البطريرك المسكوني وأن يقترح أجوبتها. ولم يستثنِ من هذه سوى رسائل البابا والبطاركة.

وشملت الحاشية البطريركية موظفين آخرين أبرزهم آمر السكليون أي السجن البطريركي وله حق الإشراف على كنائس القسطنطينية والرفرنداريوس Referendarius ناقل رسائل البطريرك إلى القصر الملكي والمنذاتون Mondaton معلن الطقوس اليومية والايبوميمنسكون Hypomimneskon معادل الميستيكوس في القصر والايرومنمون Hieromnemon المشرف على فرز الأصوات في الانتخابات الواقف وراء البطريرك يوم التتويج وأساتذة المدرسة البطريركية وأمين الإنجيل والواعظ ومفسر الأسفار المقدسة. ومن هؤلاء الموظفين الكاتاستاسيوس المراقب العام في الخدمة الإلهية والبروتوباباس معاون البطريرك في الهيكل والبروتوبسالتيس المرتل الأول والنوميكوس مدير الموسيقى.

الأساقفة: وبينهم المطارنة في مراكز ولايات الدولة ورؤساء الأساقفة في مناطقهم المستقلة والأساقفة في المدن وأمهات القرى وكان البرديوت “الاكليريكي الزائر” قد حل محل الخوراسقف.

وقضت قوانين يوستنيانوس بأن ينتخب الأسقف انتخاباً وبأن يشترك في هذا الانتخاب اكليروس الأبرشية ووجهاء المركز فيتفقون على ثلاثة ينتقي الأسقف المشرطِن أليقهم. وكان هذا الأسقف المشرطن إما متروبوليت الولاية أو البطريرك أو ممثله. وقضت هذه القوانين أيضاً بأن يكون المرشح قد أكمل الخامسة والثلاثين من العمر وأن لا يكون قد تزوج مرتين وألا تكون زوجته قد ترملت من قبل. وجاز انتخاب العلمانيين لهذه الدرجة شرط التدرج في مدة من الزمن لا تقل عن ثلاثة أشهر. وتوجب على المرشح أن يكون عالماً مطلعاً ,أن يتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي يوجهها إليه الأسقف المشرطِن. وأوجب الآباء في مجمع نيقية الثاني على المرشح لدرجة الأسقفية أن يعيد المزامير عن ظهر القلب. وحُرمت السميونية تحريماً واعتبر العاطي والآخذ مشتركين في الجرم.

وظل هذا التشريع نافذاً طوال قرون متتالية. فقد ورد بتمامه في بروخيرون باسيليوس الأول (878). وجل ما أضيف إليه أن آباء مجمع نيقية الثاني أوجبوا خلع الأسقف الذي يصل إلى كرسيه بتدخل علماني وأن آباء المجمع الخامس السادس حرموا العيشة الزوجية وأوجبوا على كل اكليريكي متزوج يصل إلى رتبة الأسقفية أن يبتعد عن زوجته فيدخلها ديراً بعيداً عن مركز عمله. وألغى لاوون السادس القانون الذي منع انتخاب أسقف أبي ولد شرعي وسمح للأساقفة بإعالة ذويهم المعوزين. وحرم وصول عبد آبق إلى الكرسي وأوجب إعادته إلى سيده.

وحاول الأباطرة التدخل في الانتخابات وتدخلوا ولكن الكنيسة قاومتهم مقاومة عنيفة. فالبطريرك تراسيوس حارب تدخل الفسيلفس في السنة 790 في انتخاب أسقف اماستريس ولم يعترف إلا بمرشح الشعب والاكليروس. وكان نيقيفوروس فوقاس قد أصدر قانوناً قضى بوجوب موافقة الفسيلفس على ترشيح الأسقف فهب بوليفاكتوس البطريرك يحاول إلغاء هذا القانون فاستغل ظروف يوحنا جيمسكي وأكرهه على الإلغاء. وفي السنة 1071 ألغى السنودوس انتخاب أسقف برناسوس بعد أن ثبت تدخل الفسيلفس.

ولم يحصر القانون حق الترشيح بل أباحه لجميع الإكليريكيين على السواء. ولكن ظروف الاكليريكيين المقربين من البطريرك والمطارنة عاونتهم على الوصول إلى الكرسي الأسقفي أكثر من غيرهم. وكاد الترشيح ينحصر بعد أوائل القرن الثامن برؤساء الأديار وكبار الرهبان. ثم قدمت السلطات الروحية شمامسة الكرسي البطريركي متخرجي المدرسة البطريركية وأساتذتها على غيرهم فتميز رهط من الأساقفة بعلمهم وثقافتهم أمثال يوحنا مفروبوس أسقف افخايته وثيوفيلاكتوس أسقف اوخريدة وافستاثيوس أسقف تسالونيكية. ولم يقتصر في الترشيح على الرهبان إلا بعد القرن الرابع عشر.

واجبات الأساقفة وامتيازاتهم: وقضى القانون والعرف والتقليد على الأسقف بأن يكون نبيل النفس حر الخلال محمود الشمائل وقوراً محترماً وأن يخضع لرئيسه متروبوليت الولاية وأن يبقى في أبرشيته فلا يبرحها إلا لضرورة وأن يكرس وقته للوعظ والإرشاد وألا يطمع في المال ويجمعه لنفسه. وكان مطلق السلطة في المسائل الإكليريكية معفى من معظم الضرائب غير خاضع لسلطة الوالدين لا يطلب للشهادة أمام المحاكم إلا باذن الفسيلفس. وكان حر التصرف بأمواله الشخصية التي توفرت لديه قبل السيامة. أما دخله بعد السيامة فإنه اعتبر مالاً كنسياً لا يجوز إنفاقه بصورة شخصية. وحرم على الأسقف تعاطي الأعمال المدنية كجباية الضرائب وتصفية الثروات وقبول الوصاية. ولكنه توجب عليه الإشراف على اقتصاديات الأسقفية والمؤسسات الخيرية الخاضعة له.

الكهنة: وظل هؤلاء متزوجين كما جرت العادة من قبل وحرمت القوانين انفصالهم عن زوجاتهم. وأُجيز لهم في أواخر القرن التاسع الزواج حتى نهاية السنة الثانية بعد الرسامة. ثم جاء لاوون السادس فأبطل هذا التوسع.

وكانت القوانين المدنية والكنسية قد ميزت الكهنة بما يزيدهم وقاراً واحتراماً باللحية واللباس الخصوصي وشارة الصليب على القلنسوة لكبرائهم في تسالونيكية وبصيانتهم وعدم الاعتداء عليهم وبإعفائهم من بعض الضرائب ومن السخرة والخدمة العسكرية وبحصر النظر في دعاويهم أمام محاكم الأساقفة. وكان قد أبيح لهم العمل لتأمين الرزق فمنعهم لاوون السادس من معاطاة المحاماة وغيرها من الأعمال المدنية وحرم عليهم العمل بالأجور كإدارة الأملاك.

الشماسات: واحتفظت كنيستنا بالشماسات قروناً طوالاً وفرضت عليهن شروط بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: “5: 9 لِتُكْتَتَبْ أَرْمَلَةٌ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عُمْرُهَا أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً، امْرَأَةَ رَجُل وَاحِدٍ، 10 مَشْهُودًا لَهَا فِي أَعْمَال صَالِحَةٍ، إِنْ تَكُنْ قَدْ رَبَّتِ الأَوْلاَدَ، أَضَافَتِ الْغُرَبَاءَ، غَسَّلَتْ أَرْجُلَ الْقِدِّيسِينَ، سَاعَدَتِ الْمُتَضَايِقِينَ، اتَّبَعَتْ كُلَّ عَمَل صَالِحٍ” ولكنهن بقين غير اكليريكيات لا يحق لهن الوعظ أو ممارسة الأعمال الكهنوتية واكتفين بمعاونة الكهنة فكن يرأسن تعميد النساء ويعلمن الموعوظات ويراقبن النساء المؤمنات في الغونايكيون gunaikeion (مد النساء) في أثناء القداس الإلهي. وكنّ أيضاً يتفقدن المرضى والمصابين. وكان قانون يوستنيانوس قد قضى بعد قبولهن بهذه الدرجة قبل الخمسين وبوجب محافظتهن على الآداب والوقار. فإذا ما أجحفن بالنذر فحدن عن السيرة الحسنة أو تزوجن عوقبن بالموت. ثم لطّف هذا القانون في عهد باسيليوس الأول وقبلن شماسات في الأربعين من العمر. وما فتئن يعملن في حقل الرب حتى القرن الثالث عشر. وزالت الحاجة إلى تعميد النسوة وأصبحن كلهن معمدات في الصغر فزال السبب الرئيسي لوجود الشماسات وانقطعت أخبارهن.

الرهبان: ولعب الرهبان دوراً هاماً في الكنيسة والدولة. ولم ينتموا بادئ ذي بدء إلى طغمة الاكليروس وإنما اعتبروا علمانيين مربوطين بنذر وجب القيام به على أكمل وجه بإشراف الأساقفة. ثم تدرج بعضهم في سلم الكهنوت وبقي معظمهم علمانيين فعرف الاكليريكيون منهم بالرهبان المقدسين hieromoines ثم تكاثر هؤلاء المقدسون فعظم شأنهم. وما فتئوا بتقدمون حتى احتكروا الكرسي الأسقفية.

وعرف الروم نوعين من الترهب: الشرقي والباسيلي. وتميز الترهب الشرقي بالتأمل والانفراد. فكان الراهب منفرداً منعزلاً monos monomakos يعيش في صومعة مقفلة egkleistoi أو على عمود stulites أو على شجرة dendrites وجاء القديس باخوميوس في القرن الرابع فجمع هؤلاء الزهد حول دير معين يعيشون فيه مجتمعين. وتكتل النساك في فلسطين فعاشوا في صوامع قريبة واشتركوا في مائدة واحدة وصلاة واحدة مرة في الأسبوع. أما الطريقة الباسيلية فإنها تميزت بالعيشة المشتركة والعمل المشترك والطاعة. ووافقت هذه الطريقة ظروف المناطق اليونانية في آسية وأوربة فانتشرت انتشاراً واسعاً وقامت الصوامع والأديار في كل مكان. وأشهرها أديرة جبل القديس اوكسنديوس وجبل اوليمبوس في بيثينية وجبل آثوس في شبه جزيرة خلقيذية وجبل الميتيورة في ثسالية.

وحدد القديس باسيليوس ساعات الصلاة والدرس والعمل والأكل والنوم وعين نوع اللباس وتفاصيله. واكتفى بعدد محدد من الرهبان في الدير الواحد ونهى عن الكثرة. وصعب الخروج من الدير والدخول إليه وأوجب الطاعة الكاملة للرئيس.

وأقبل الناس على الترهب جماعات واندفعوا في سبيل الرهبنة وانفردوا في تأسيس الأديار فأحدثوا بلبلة وتشويشاً فاتخذ المجمع المسكوني الخلقيدوني (451) قرارات منعت تأسيس الأديار قبل موافقة الأسقف صاحب العلاقة وأوجبت إقامة الرهبان في الأديار وعدم خروجهم منها بدون أذن الأسقف كما أوضحت أن واجب الراهب الأول هو الصوم والصلاة في الأديرة. وحرمت على العبد تقديم النذر بدون موافقة سيده كما منعت الزواج بعد تقديم النذر.

وجاء يوستنيانوس (527-565) فاشترع قوانين اعترف بها بقدسية الحياة الرهبانية ثم اتخذ من مبادئ القديس باسيليوس الكبير وقرارات المجامع أساساً للتنظيم فمنع إنشاء الأديرة في أية أبرشية قبل موافقة أسقف هذه الأبرشية وبركته. وأوجب إحاطة الدير بسور ومراقبة بابه. وحرم بعد ذلك انطلاق الرهبان “التائهين” الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر مستعطين خبزهم اليومي. وأبعد أديرة الراهبات عن أديرة الرهبان وفرق بين الاسكيتيرية adketeria أديرة التائبات وأديرة الرهبان. وجعل على دير رئيساً بلقب ايغومينس hegoumenos ومعناه المدير أو ارشمندريت archimandrites ومعناه حارس الحظيرة. ومنح الراهبات حق انتخاب هذا الرئيس وأوجب خضوعهم للتفتيش. فكان على البطريرك أن يوفد اكسرخوساً لهذه الغاية مسلحاً بالتعليمات البطريركية الـ Entalma.

ولم يتعرض يوستنيانوس لنظم الرهبان الداخلية. فكان على المؤسس أن يذكر أهمها في تيبيكيون Typikon التأسيس. وكان للرئيس والأسقف حق الإضافة والتعديل. وواظب الرهبان منذ عهد القديس باسيليوس الكبير على صلوات الساعات السبع بما فيها من صلوات الميسونوكتيكون Mesonuktikon وصلوات الاورثروس Orthros. وكان من حسن حظ كنيستنا أن أوجب القديس سابا بالتيبيكون تقدم اللغة اليونانية على السريانية والعربية فأكره الرهبان السريان والعرب أن يشتركوا في ليتورجية الكنيسة الكبرى بعد إقامة الصلاة بلغتهم في الكنائس الصغرى. فظلت كنيستنا بفضل هذا التدبير على صلة وثيقة بكنائس اليونان واللاتين وتسنى لها متابعة الفكر الكنسي الجامعي والاشتراك فيه. وقضى هذا التيبيكون أيضاً أن يكون الايغومينس يونانياً أو في الأرجح متهلناً يجيد اللغة اليونانية.

ودافع الرهبان دفاع الأبطال عن الأيقونات فذاقوا الأمرين في عهد قسطنطين الخامس (740-775). ثم انتصروا فعادوا إلى سابق عزهم وسطوتهم. فحاول البطريرك القسطنطيني نيقيفوروس الأول (806-815) أن يحد من غلوائهم. ثم جاء الفسيلفس نيقيفوروس فوقاس (963-969) فمنع إنشاء الأديرة الجديدة وتوسيع القديمة. ولكن الفسيلفس باسيليوس الثاني (976-1025) ألغى هذه الأحكام فعاد الرهبان إلى سابق عهدهم.

القديس ثيودوروس الاستودي: (759-826) وأدى هذا التضييق الشديد على الرهبان إلى تفكير جدي في الرهبنة والترهب. وقام في الجبل المقدس نفسه في جبل اوليمبوس من دعا إلى الإصلاح والتجديد. فظهر بادئ ذي بدء القديس يوانيكيوس الكبير الذي اشتهر بالفضيلة والتقوى وأسس في اوليمبوس ثلاثة أديار كانت حياته المثلية فيها أكبر رادع عن الشر وأشد دافع للخير. وهو الذي علمنا أن نقول: “الآب رجاء والابن ملجائي والروح القدس وقائي، أيها الثالوث القدوس المجد لك”.

وظهر أيضاً ثيودوروس المعترف الاستودي. أبصر النور في القسطنطينية في السنة 759 ونال حظاً وافراً من التربية الصالحة والعلوم الفلسفية. ثم عافت نفسه الدنيا وما فيها في الثانية والعشرين من عمره فلجأ وجماعة من رفاقه إلى عقار له في السكوذيون في جبل اوليمبوس. ووضع نفسه ورفاقه تحت تصرف خاله القديس افلاطون الذي كان قد سبقه إلى العزلة والتأمل في دير السكوذيون. ونذر ثيودوروس نفسه فبهر أقرانه بالتقوى والصلاح والمحافظة على التقليد الرهباني. فرقاه البطريرك تراسيوس في السنة 784 إلى رتبة الكهنوت. وألمَّ بخاله مرض عضال فأوصى بانتخابه رئيساً على دير السكوذيون فأصبح هيغوميناً في السنة 794.
وقام ثيودوروس بأعباء الرئاسة بجد ونشاط وغير وتفان. فقدس نفسه قبل تقديس غيره واحترم القوانين ليحترمها غيره. فسطعت الحياة الرهبانية في السكوذوين بكل سناها. وكان خطير النفس رفيع الأهواء فصبا إلى إصلاح كامل يشمل الحياة الاجتماعية بأسرها. فطالب بتطبيق المبادئ المسيحية في جميع النواحي وقال باستقلال الكنيسة وحريتها في انتخاب أساقفتها وأوجب مكافحة السمونية وخلع من رشا للوصول إلى الكرسي ومحاربة من لم يحترم الأيقونات ومن غالط في العقيدة وأنب كل تهتك دنس.

واتخذ ثيودوروس موقفاً حازماً من الفسيلفس قسطنطين السادس لتشبثه في تطليق امرأتعه الشرعية ثيودورة فنفي إلى تسالونيكية هو ورهبانه في السنة 795 ثم أعادته ايسرينة في السنة 797. ثم أقلق المسلمون البلاد وظهرت طلائع جيوشهم في بيثينية فرحل ثيودوروس وجماعته في السنة 799 واستقروا في دير الستوذيوس Stoudios القديم في القسطنطينية. فأمّ الرهبان هذا الدير من كل حدب وصوب حتى فاق عددهم الألف. ولم ينعم ثيودوروس براحة البال طويلاً. فإن لاوون الخامس الأرمني (813-820) أثار على الكنيسة والرهبان حرباً أليمة سبقت الإشارة اليها. واضطهد هذا الفسيلفس ثيودوروس ورهبانه بأنواع متنوعة من الإهانة والسجن والنفي. ومات لاوون فقضى ثيودوروس البقية الباقية من حياته في ديره مطمئناً متفرغاً للإرشاد والإصلاح. ورقد بيسوع شيخاً طاعناً سنة 826.

قسم ثيودوروس العمل الرهباني إلى دوائر معينة وأقام على رأس كل دائرة قيماً جعله مسؤولاً عن عمله فيها. وحدد ثيودوروس الواجبات في هذه الدوائر المختلفة ونظمها نظماً ليسهل على الرهبان حفظها. ثم اشترع قانون عقوبات لمن خالف هذه القوانين. ودعا الرهبان إلى اجتماع عام ثلاث مرات في الأسبوع ليعظهم في التقوى والطاعة وضبط النفس والاندفاع في سبيل العمل المشترك. ودونت هذه الإصلاحات في مصنفاته ولا سيما الكاتيكيسيس Katekesis الصغسير بعظاته المئة والأربع والثلاثين والكاتيكيسيس الكبير بأقسامه الثالثة وعظاته السبع والسبعين. وقد خلّد شخصيته في رسالته إلى تلميذه نقولاوس فلتراجع قبل غيرها. وأما التيبيكون الذي يعزى إلى القديس ثيودوروس فإنه في الحقيقية تطبيق معدل الأنظمة الاستودية في أديرة مختلفة.

وتتجلى مبادئ ثيودوروس في تيبيكون دير الافرجيتيس الذي انشئ في القسطنطينية في أوائل القرن الحادي عشر. فقد حدد هذا التيبيكون كيفية الترتيل والتكريس والتطهير وبين ساعات الصلاة في الليل والنهار وأوجب اقامة القداس الإلهي يومياً وأجاز المناولة ثلاث مرات في الأسبوع للرهبان المقديمين ومرة واحدة في الأسبوع لسائر الرهبان وأوجب الاعتراف قبل المناولة وحصر حق استماع الاعتراف برئيس الدير وحده وقضى عليه بوجوب الاصغاء مرتين في النهار: في الصباح وبعد العشاء. وسلطة الرئيس بموجب هذا التيبيكون واسعة مطلقة وعلى الرهبان أن يحترموا هذا الرئيس ويطيعوه طاعة تامة. وهو يعين رؤساء الدوائر دونه. وأهم هؤلاء الايكونوموس oeconomos وهو القهرمان ويمين الرئيس وقد يخلفه في الرئاسة. وهنالك السكيفوفيلاكس وهو أمين الكنيسة والذوخياريوس وهو أمين الصندوق وضابط اللوازم والابيستيمونارخوس وهو الناظر المحافظ على النظام والترابيزاريوس وهو مدير المائدة ورئيس الطهاة والخبازين وعلى الرهبنة أن تحتفل بعيد تأسيسها وبذكر المحسنين إليها. وعليها أيضاً أن تأوي المسافرين والمرضى فتنزلهم عندها وتعنى بهم.

arArabic
انتقل إلى أعلى