بادية الشام قبل الإسلام

تمتدّ بادية الشام من تدمر شمالاً إلى حوران جنوباً. ولم تكن كلّها مقفرة وقليلة السكّان، فمن المؤكّد أنّها كانت منذ العهد الرومانيّ وحتّى ظهور الإسلام “روضة غنّاء، شيّد فيها أصحابها المدن العامرة، وابتنوا الحصون، وعزّزوا الزراعة والفلاحة، وحفروا الآبار”. وانتشرت في بادية الشام ولدى قبائلها معتقدات وثنيّة عبدت آلهة يونانيّة ورومانيّة وفينيقيّة ونبطيّة. أمّا المسيحيّة فلم تنحصر في أهل الحضر من عرب الشام، بل اعتنقها أهل البادية كذلك. ويقال إنّ الشمّاس طيمون، أحد الشمامسة السبعة، هو الذي بشّر أهل بصرى وصار أوّل أسقف عليها. وكتب المقريزي، أحد مؤرّخي الإسلام، أنّ متّى الرسول هو “أوّل مَن صدع بالإنجيل في بصرى”. وذكر سليمان، أسقف البصرة، أنّ الرسول “يعقوب بن حلفا بشّر في تدمر وباديتها”.

 يمكننا تقسيم عرب ما قبل ظهور الإسلام إلى أربعة أقسام: عرب الشام، عرب العراق، عرب اليمن، عرب الحجاز ونجد. وقد انتشرت المسيحيّة في كلّ بلاد العرب من الشام إلى اليمن. سوف نحصر كلامنا هنا في الحديث عن القبائل المسيحيّة في بادية الشام، التي كان من أهمّها بنو تنّوخ أو قُضاعة (من قبائل اليمن) الذين تولّوا على بادية الشام باسم الرومان، وقد كتب اليعقوبي، أحد مؤرّخي الإسلام، أنّ قضاعة “أوّل مَن قدم الشام من العرب فصارت إلى ملوك الروم فكان أوّل الملك لتنّوخ بن مالك… فدخلوا في دين النصرانيّة فملّكهم ملك الروم على العرب الذين بالشام”. ثمّ تغلّبت عليها قبيلة بني سُليح التي يقول عنها المسعودي، أحد مؤرّخي الإسلام، إنّها “وردت الشام فتغلّبت على تنّوخ وتنصّرت فملّكها الروم على العرب الذين بالشام، وأمّا مَن تنصّر من أحياء العرب فقوم من قريش، ومن اليمن طيء وبهراء وسليح وتنّوخ ولخم”. وقد تنصّر بنو كندة في أواخر القرن الخامس الميلاديّ ورحل بعضهم إلى بادية الشام. واشتهر أيضاً الصفائيّون الذين هاجروا إلى سفوح جبل العرب من جنوب الجزيرة العربيّة وتحضّروا.

 لا شكّ في أنّ الفضل في تبشير بادية الشام يعود إلى بعض الأسرى المسيحيّين والرهبان. ولكنّ الفضل الأكبر يعود إلى القدّيس سمعان العمودي الكبير (الحلبيّ) الذي جذب جموعاً غفيرة من زائريه العرب الرحّل الوافدين للتبرّك منه إلى المسيحيّة الأرثوذكسيّة. ويحكى أنّ نونّس، أسقف بعلبك، هدى ثلاثين ألف عربيّ إلى المسيحيّة. وذكر البطريرك مكاريوس الزعيم أنّ كهنة العرب ورعاياهم كانوا “يقدّسون في كنايس من خِيم وينقلوها معهم في أسفارهم”. وفي هذا إشارة إلى الحياة البدويّة التي كان يحياها العرب المسيحيّون، فكانت قبائلهم تنتقل في بادية الشام مع أساقفتها وكهنتها وكنائسها. وقد شارك الأساقفة العرب في مختلف المجامع المسكونيّة والإقليميّة والمحلّيّة. وقد ورد عند الطبري، المؤرّخ الإسلاميّ والمفسّر الكبير، ذكر “أسقف العرب الغسّانيّين”.

 انقسم المسيحيّون العرب، كما كلّ المسيحيّين، إلى مختلف المذاهب والمعتقدات التي راجت في عصرهم، وأشهرها الأرثوذكسيّة والمونوفيزيّة (أي بدعة الطبيعة الواحدة في السيّد المسيح) والنسطوريّة (التي رفضت عقيدة والدة الإله). وفي القرن السادس اعتنقت أكثريّة المسيحيّين العرب في بادية الشام المذهب المونوفيزيّ، مع العلم أنّ بعض أفراد العائلة الملكيّة الغسّانيّة، الحامية الرسميّة للمونوفيزيّة، كانوا على المذهب الأرثوذكسيّ. أمّا الغساسنة الذين حالفوا قيصر الروم وكانت الجولان أرضهم، فكان أمراؤهم عمّالاً لقياصرة الروم الذين وكّلوهم النظر والولاية على العرب الساكنين في أنحاء الشام، وإليهم يعود الفضل في السيادة النهائيّة للمونوفيزيّة في سورية. والغساسنة قبائل عربيّة يمنيّة نزحت بعد انفجار سدّ مأرب في اليمن العام 120 للميلاد إلى منطقة حوران وبادية الشام. ثمّ امتدّت سلطتهم من القدس في فلسطين جنوباً إلى سهول حلب شمالاً، ولكنّهم لم يستطيعوا السيطرة على مدن الشام، إذ كان لها ولاة من الروم يديرون شؤونها.

 كانت العربيّة هي لغة الغساسنة الذين تجذّروا في سورية، ولكنّ السريانيّة كانت هي لغة السكّان الأصليّين. فصار الغساسنة، بحكم انتمائهم إلى المذهب المونوفيزيّ السائد عند السريان، يستعملون العربيّة في بيوتهم ويستعملون الآراميّة في عباداتهم. وهكذا ارتبط الغساسنة والسريان برباط وثيق يقوم على إيمان مشترك. وبعد مجمع خلقيدونية (451) انضمّ أساقفة أبرشيّات غسّان إلى الأساقفة السريان الرافضين عقيدة هذا المجمع الأرثوذكسيّ. وظلّ الغساسنة حتّى القرن الثالث عشر للميلاد متمسّكين بعقيدة الطبيعة الواحدة، وبعد انقراض دولتهم استمرّوا متّحدين بالكنيسة السريانيّة، وآثروا السكن في مدن بلاد الشام. وقد حكم أمراء الغساسنة حوالى 432 عاماً، كان آخرهم جبلة السادس (630-637).

عن نشرة رعيتي
الأحد أول أيلول 2002
العدد 35

arArabic
انتقل إلى أعلى