العناية الإلهية

لا شك أن من يتأمل بعمق في هذا الكون ينذهل ليس فقط من إبداع الخليقة من العدم، بل ومن استمرارها في الوجود بموجب نواميس دقيقة ونظام رائع. وهذا ما نؤمن أنه تم ويتم بفضل ما يسمّى بالعناية الإلهية. لأنه من الطبيعي أن لا يترك الله العالم بعد خلقه، أولاً لكي لا يدعه يرجع إلى العدم الذي كان، وثانية لكي يساعده في الوصول إلى الهدف الذي من أجله وجد.

من هنا نفهم قول الرب يسوع وهو يشير إلى السبت: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو5: 17) إن راحة الله في اليوم السابع (تك2: 2) تعني فقط توقفه عن الخلق وليس عن عنايته بالمخلوقات والتي تشمل: A-حفظه للخليقة. B- توجيهه لها من أحل الوصول للغاية المعينة لها.

حفظ الله للخليقة: يقصد بهذا التعبير تأثير الله الدائم على المخلوقات لكي تستمر في الوجود، لأنها بدون قوة الله لا تستطيع أن تثبت بل تتلاشى فوراً وتفنى. بناء على هذا فعناية الله تمتد إلى الكون كله وحتى إلى أصغر وأبعد ذرة فيه، وهي ليست فعلاً مضافاً على الخليقة أو آتياً إليها من بعيد، بل إن حفظ الله لها هو ذاته صلب وجودها وسر بقائها. والحقيقة أنه يستحيل بالنسبة إلينا نحن البشر الإحاطة بكيفية حفظ الله للخليقة، لأن فعل الله الحافظ هو كبقية أفعال الله غير المخلوقة (ενέργειαι) غير قابل لأن يدرك من قبلنا. مع ذلك نستطيع القول بصورة عامة أن الله يعمل في الجمادات من خلال نواميسها الطبيعية، وفي الحشرات والحيوانات من خلال غرائزها. أما مع الإنسان فيعمل ليس فقط من خلال النواميس الطبيعية التي تسيّر خلايا جسمه وجزئياتها، والغرائز المختلفة التي تحافظ على بقائه، وإنما من خلال طاقاته النفسية والروحية التي يتميز بها مثل الفكر والذهن والإرادة والشعور.

عن هذه الحقائق التي ذكرنا يحدّث الكتاب المقدس بطرق مختلفة وخاصة عبر آياته التي تترنم بتمجيد أعمال الله وغرائب عنايته مثلاً المزمور 103 (104)، أيوب 38-41، مت6: 25-33، أع17: 28، كلو1: 17 الخ….

توجيه الله لخليقته: إن عناية الله بالخليقة لا تتوقف عند حدود المحافظة على وجودها، بل تتعدى ذلك إلى قيادتها وتوجيهها نحو الهدف الأخير المعين لها منذ الأزل وهو مشاركة خلائقها العاقلة في ملكوت الله.

وكما استخدم الله النواميس الطبيعية لكي يحافظ على بقاء الكون المخلوق، عمل من خلال هذه النواميس ذاتها وبالتعاون معها لكي تنمو الخليقة وترتقي صائرة أهلاً لتحقيق مبرر وجودها الأسمى.

وبديهي أن الله لا يكتفي بتوجيه الكون فقط من خلال هذه النواميس وخصوصاً فيما يتعلق بالإنسان الذي يساعده بطرق كثيرة غير مباشرة وأحياناً مباشرة مثل الإعلان الإلهي والعجائب والنعمة الإلهية. علماً بأن هذا التدخل الإلهي في حياة الإنسان لا ينفي أو يدمّر عمل النواميس الطبيعية كونه ليس ضد ما هو طبيعي ولا حتى غير طبيعي بل هو ما فوق طبيعي.

كما أنه من المناسب أن نشدّد بأن الله عندما يوجّه الإنسان معتنياً به بطرقه الخفيّة لا يقصر إراداته البتة ولا يجبره على شيء بل يهيئ كل الظروف الملائمة التي يمكن أن تقوّي هذه الإرادة وتحبب إليه ممارسة الخير والوصول إلى الحياة الأبدية التي يريدها له. وكما هو معروف فالإنسان لا يمكنه أن يكون كاملاً إلا إذا تبع المسيح وقبل بملء اختياره أن يكون الله قائد مسيرة جهاده وموجهها ومع ذلك ففي كل مراحل هذه المسيرة تبقى حرّية الإنسان غير منقوصة لأنها بالضبط العطيّة الكبرى التي لا يمكن بدونها أن تكتمل شخصيته أو يصل إلى التألّه.

دلائل عديدة يقدمها الكتاب بخصوص توجيه الله لخليقته وعنايته بالإنسان نعطي مثالاً عنها: مز112 (113): 5-9، مز54: 22 (55: 23)، مت 10: 29-31.

من الآباء نقتطف التعبير التالي للقديس أفرام السوري: “أنظر إلى المخلوقات فأتعرف إلى خالقها. أنظر إلى العالم فأعرف العناية الإلهية. لأنني أنظر إلى قارب يفتقد موجهه فأعرف أن الأمور البشرية تضطرب وتتحول إلى لا شيء إذا لم يوجهها الله”.

مشكلة الشر: قبل أن ننهي حديثنا عن العناية الإلهية لا بد وأن نتطرق إلى مشكلة مهمة تبدو لأول وهلة وكأنها تتناقض مع هذه العناية وهي وجود الشر ونتائجه المريعة في العالم، لأنه إن كان الله الكلّي الصلاح هو الذي خلق العالم وهو الذي يعتني به، فمن الضروري أن تكون خليقته على مثاله خيّرة ونقية وسعيدة، فلماذا إذن يسمح بالشرور والضيقات والويلات؟

الواقع أن العالم بروعة تكوينه ونواميسه واحتوائه على كل الخيرات الضرورية لحياة خلائقه يدلنا على أن الله خلقه في الأساس حسناً: “ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً” (تك1: 31). لكن الشر الموجود في العالم ليس هو عمل الله بل هو عمل المخلوقات العاقلة (الشيطان والإنسان)، ومبدأه هو سؤ استعمال الحرية التي منحت من قِبَل الله لها كوسيلة خير. ولذلك فالشر هو أخلاقي بالدرجة الأولى (مخالفة وصايا الله) أما الشرّ الطبيعي (الآلام والموت) فهو ليس سوى نتيجة للشرّ الأخلاقي. من هنا فالشرّ، كما يعلّم الآباء، ليس له وجود حقيقي لأنه ليس مخلوقاً من قبل الله بل هو مسبب عن ابتعاد الإنسان عن الخير الذي هو الله، وبالتالي يمكن استبعاد الشرّ كونه ليس جزءاً أصيلاً من العالم.

هكذا عندما يختار الإنسان الابتعاد عن الله وكسر وصاياه يصبح مسبّباً للشر، ولكنه ليس بإمكانه أن يبطل الهدف العام الأخير من وجود الخليقة، لأن الله قادر في نهاية المطاف أن يضع حدّاً للشر، لا بل يحوله في كثير من الأحيان ومنذ الآن للخير، ولا سيما حينما يعي الإنسان نتائجه المدمرة له وللآخرين، فيتوب عنه ملتجئاً لله.

arArabic
انتقل إلى أعلى