17. احتياجات الحياة والعناية الإلهية
“تأملوا زنابق الحقلِ، كيف تَنموُ. لا تتعبُ ولا تغزلُ، ولكن أقُولُ لكم إنه ولا سُليمانُ في كل مجده كان يلبسُ كواحدةٍ منها” [ع28- 29]
بعد أن تحدث عن طعامنا الضروري، وبعد أن أشار إلى وجوب عدم الاهتمام حتى بهذا الأكل، ينتقل السيد إلى ما هو أسهل، لأن الملبس ليس ضروريا كالطعام، فلماذا لم يستخدم هنا نفس المثال عن الطيور؟ ولم يذكر الطاووس والإوز والغنم. لأنه من المؤكد أن هناك أمثلة عديدة يستقى منها، لأنه سيوسع من دائرة النقاش بطريقتين:
أحداهما بتفاهة الأشياء التي تشترك معًا في هذا الجمال الظاهري. ومن الأناقة التي يسبغها الله على الزنابق من حيث بهائها. لهذا السبب وبعد ذكره إياها، لا يسميها بالزنابق، بل “عشب الحقل” (مت 6: 31). بل لم يكتف بهذا الاسم، بل يوضح أيضًا مدى خستها بقوله “الذي يوجد اليوم” ولم يقل “ولا يوجد غدًا” بل ما هو أكثر رخصًا، “ويطرح غدًا في التنور” (الفرن أو الموقد). ولم يقل “يلبسه” بل “يلبسه… هكذا”. أرأيتم كيف يكثر الرب من التأكيدات والتركيز في كل مكان؟ وهو يفعل ذلك ليلمس شغاف قلوبهم، ولهذا أضاف “أفليس بالحري جدًا يلبسكم أنتم” (مت 6: 30) ويظهر التأكيد من قوة اللفظة “أنتم” موضحًا أنه ما من جنس آخر قد أضفى عليه هذه العطية العظيمة بسخاء ووهبه هذا القدر من الاهتمام.
وكأنه يقول: “أنتم الذين أعطاكم الله نفسًا، وشكَّل لكم جسدًا” الذين من أجلهم خلق كل الأشياء المنظورة، الذين من أجلهم أرسل الأنبياء ومنح الناموس، وصنع تلك الأعمال الصالحة الغير معدودة، الذين من أجلهم بذل ابنه المولود الوحيد، وبعد أن أوضح برهانه جيدًا، يبدأ السيد في توبيخهم قائلاً: “يا قليلي الإيمان”؛ إذ أن هذه هي صفة الناصح، أنه لا ينصح فقط بل يوبخ أيضًا، لكي ينبه الناس أكثر إلى القوة المقنعة لكلماته.
بموجب هذا فإن السيد المسيح لا يعلمنا فقط ألا نهتم، بل ألا ننبهر أيضًا بالمظاهر النفسية لملابس الناس، وينبههم إلى جمال العشب الظاهري، والرونق الأخاذ للعشب الأخضر، أو بالحري أن العشب وهو أكثر قيمة من تلك المظاهر فلماذا تتفاخرون بأشياء ينعم النبات بأجمل منها في مظهره الباهر.
انظروا كيف يستهل السيد المسيح درسه بالإشارة إلى سهولة الأمر، بواسطة الأضداد أيضًا وتارة بواسطة أمور كانوا يخشونها؛ لإبعادهم عن مثل هذه الهموم. حين قال “تأملوا زنابق الحقل” ثم أضاف “لا تتعب” ورغبة منه أن يحررنا حتى من التعب. فالتعب في الحقيقة لا يكمن في عدم التفكير بل في الاهتمام بهذه الأشياء.
ومثلما يقول “لا تزرع” ليس بغرض التخلص من الزرع، بل التخلص من الاهتمام القلق. وكما في قوله “لا تتعب ولا تغزل” لا يضع حدًا للعمل بل ينهي عن الاهتمام.
لقد فاق جمال زنابق سليمان لا مرة ولا مرتين، بل طوال مدة حكمه لأنه ما من أحد يقدر أن يقول: أنه قد لبس كواحدة منها ذات مرة، ثم صار بعدها بدونه. ولا حدث أن الرب قد أظهره هكذا في جمال فائق ذات مرة، لأنه يقول عنه “في كل مجده أو في كل حكمه”، هكذا فاقت الزنبقة كل جمال سليمان بل ونافسته. لهذا قال عنها “كواحدة منها”. لأن هذا هو الفارق بين الحق والباطل، ولهذا كان الفارق شاسعًا بين تلك الملابس وهذه الزهور.
فإن كان سليمان قد أقر بأنه أدنى رتبة، مع أنه كان أكثر مجدًا من كل ملوك الأرض أبد الدهر. فكيف يتسنى لكم التفوق أو بالحري الاقتراب ولو بقدر ضئيل من كمال الشكل في هذه الزخارف؟
== بعد هذا يعلمنا السيد ألا نسعى أبدًا إلى زخرفة مثل هذه على الإطلاق. انظروا على الأقل غايته من هذا الإرشاد: أن تنظر إلى النهاية. فإن هذه الزهور الباهرة الجمال “تُطرح في التنور(الفرن)” فإن كان الله قد أظهر عناية فائقة جدًا بأشياء وضيعة عديمة النفع والقيمة، فكيف لا يهتم بكم أنتم أكثر من كل المخلوقات الأخرى؟. وما السبب أنه يخلقها بهذا الجمال؟ أليس ليُظهر مدى حكمته وامتياز قدرته، لنتعلم ونعرف مجده في كل شيء. أو ليست السماوات “تحدث بمجد الله” (مز 19: 1) والأرض أيضًا، وهذا ما أعلنه داود المرنم حين قال “سبح الرب أيها الشجر المثمر وكل الأرز” (مز 148: 9). لأن البعض بثمارها، والبعض الآخر بعظمتها والبعض بجمالها، يرسلون التسبيح إلى الذي صنعهم. وتلك أيضًا علامة على الامتياز الفائق للحكمة، انه حتى مع الأشياء التافهة جدًا (وهل هناك ما هو أتفه من شيء يوجد اليوم ويزول غدًا؟) فإن الله يسكب جمالاً باهرًا كهذا. فإن كان قد أعطى العشب ما لا يحتاجه (لأنه ما فائدة الجمال في إشعال النيران؟) كيف لا يعطيكم أنتم ما تحتاجونه؟ إن كان أكثر الأشياء تفاهة قد أضفى الله عليه هذا الرونق الرائع. ولم يفعل ذلك لاحتياج تلك الأشياء لهذا الرونق، بل لسخائه. فكيف بالحري يكرمكم وأنتم أكرم المخلوقات في أموركم الضرورية؟
2. وكما ترون، وبعد أن اظهر السيد الرب عظمة العناية الإلهية، تجاه الخليقة كلها، ووبخهم في الأمور التي تلي هذا التعليم، فإنه كان فعلاً فلم يلق على عاتقهم ومسئوليتهم انعدام الإيمان بل قلته قائلاً: “إن كان الله هكذا قد ألبس عشب الحقل، فكم بالحري أنتم يا قليلي الإيمان” (مت 6: 30).
ويقينًا فإن الرب يفعل كل هذه الأمور حقًا. “لأن به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3). ولكنه لا يذكر شيئًا عن نفسه في أيّ موضع، إذ يكفي في الوقت الراهن أن يدلك على قدرته الكاملة، إذ قال في كل وصية “سمعتم أنه قيل للقدماء”. وأما أنا فأقول لكم فلا تتعجبوا إذن أنه في ظروف لاحقة أيضًا كان يحجب نفسه، أو يتحدث عن ذاته بتواضع. إذ أن له في الوقت الحالي غرض واحد فقط، أن تحقق كلمته هدفها وتثبت فيهم ليستقبلوها بسهولة. ويبرهن في كل أوان انه لم يكن أبدًا مضادًا لله الآب بل له نفس فكره الواحد. وهو ما يفعله هنا أيضًا. لأنه وبالرغم من كلمات كثيرة فاه بها، لم يكف عن أن يضع أمامنا ما يجعلنا نعجب بحكمته وعنايته الإلهية، واهتمامه الرقيق اللطيف والدائم بكل شيء- الكبير منها والصغير- فحين كان يعلِّم عن أورشِليم دعاها “مدينة الملك العظيم” (مت 5: 35). وحين ذكر السماوات، أطلق عليها أيضًا اسم “عرش الله” (مت 5: 34). وحين كان يتحدث عن تدبيره للعالم، ونسب إلى الآب كل شيء أيضًا قائلاً “إنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار”. وعلَّمنا في الصلاة أن نقول “للآب المُلك والقوة والمجد”. وفي حديثه هنا عن العناية الإلهية، وكيف أن الآب في أدنى الأشياء وأتفهها هو أعظم الفنانين قاطبة إذ “يُلبس عشب الحقل ويكسوه” ولا يدعو السيد الرب هنا أباه هو، بل أباهم، لكي يوبخهم على ذات الكرامة نفسها، حتى إذا ما دعاه هو أباه، لا يعودون مُستائين منه بعد.
فإن كان الإنسان لا يهتم حتى بالضروريات، فأي صفح نستحقه ونحن نُفتكر في أشياء باهظة الثمن أو بالحري، أولئك الذين لا ينامون ليلتهم حتى يغتصبوا حاجات الآخرين؟
3. “فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا تلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم” (مت 6: 32). أترون كيف يُخجلهم من جديد، ويُظهر أنه لم يأمرهم بشيء مرهق أو ثقيل، لذلك عندما قال “إن أحببتهم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم، أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك؟ أو ليس الأمم يفعلون ذلك” وهو يحثهم هنا على شيء أعظم، وهكذا يدفعهم للأمام ويوبخهم مشيرًا أن ما يطلبه منا هو دَيْن ضروري. لأننا إن كان من المحتم علينا أن نسلك أفضل من الكتبة والفريسيين. فما الذي نستحقه؟ إن كنا لا نتجاوز هذا القدر، بل نقبع على حال الأمم المتردية، ونحاكي صغر نفوسهم؟
ولم يقف الرب عند حد التوبيخ، بل إثارة الهمم بهذا الأسلوب. وهو يُخجلهم بقوة التعبير لأنه في موضع آخر يعود فيعزيهم قائلاً: “أبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” ولم يقل “الله يعلم” بل “أبوكم السماوي يعلم” ليقودهم إلى الرجاء الأعظم فيه، لأنه إن آبا ولا آب آخر سواه، فإنه لن يتوانى عن أولاده أبدًا، في شدة الشرور، مُظهرًا أن الناس وهم آباء لا يحتملون أن يفعلون بأبنائهم هذا. ويضيف بُعدًا آخر للنقاش هنا؛ أنهم يحتاجون إلى هذه كلها. فهذه الأشياء ليست من النوافل التي لا لزوم لها، حتى أنه لا يهتم بها. فمع إنه في الأشياء قليلة الشأن يهتم جدًا، كما في حال العشب. فإنه في هذه الأشياء التي تبدو ضرورية، وموضع اهتمامكم، هي بالأمر الكافي أن يبعدكم عن هذا الاهتمام. فإن كنتم تقولون يجب علينا التفكير والاهتمام بهذه الأشياء الضرورية. أقول: على العكس- كلا. لأنه بسبب أنها ضرورية لا تهتموا- لأنه لو كانت تافهة لا لزوم لها، ما وجب علينا حتى أن نيأس، بل أن نشعر بالثقة لنوالها. ولكن إذ نتحدث عن أشياء ضرورية، فلا يجب بعد أن نشك في أمر الحصول عليها، لأنه ما من أب يفشل في إعطاء أولاده ما يحتاجون من ضروريات. ومن المؤكد أن الله يعطيهم أيضًا احتياجاتهم: لأنه خالق طبيعتنا، والذي يعرف تمامًا احتياجاتنا. لهذا لا يمكنكم القول: “هو في الحقيقة أبونا، والأشياء التي نطلبها ضرورية، لكنه لا يعرف أننا نحتاج إليها!” لأن الذي يعرف طبيعتنا ذاتها لأنه جابلها- وقد خلقها على ما هي عليه- بالتأكيد يعرف احتياجاتها أيضًا أفضل منكم أنتم المحتاجون إلى ما يلزمها. إذ أصبحت طبيعتنا بموجب قانونه هو في مثل هذا الاحتياج، لهذا لا يناقض نفسه فيما أراده، فيعرضها للضرورة والاحتياج. فلا يحرمها من حاجاتها الضرورية والملحة. لهذا، دعنا لا نهتم، لأننا لن ننال شيئًا من جراء هذا الاهتمام. بل نعذب أنفسنا، لأنه يعطينا، سواء كنا نهتم أو لا نهتم، والأكثر حين لا نهتم. فما الذي نربحه من قلقنا غير عقوبة لا لزوم لها، لأن المرء حين يذهب إلى حفل بهيج زافر بالأطايب، لا يهتم ولا ينشغل بالطعام. والذي يسير نحو نبع ماء لا يقلق من جهة الشرب. لهذا إذ نرى أن لنا وفرة أكثر سخاءً من أيّ شبع أو من أيّ ولائم بغير حصر، مجهزة قبلاً، وهي العناية الإلهية. فلماذا نصير متسولين ضيقي الأفق؟.
4. لأنه مع ما قاله الرب قبلاً. يضع لنا سببًا آخر للشعور بالثقة حيال هذه الأمور قائلاً: “اطلبوا أولاً ملكُوت الله وبره، وهذه كُلها تُزادُ لكُم” (مت 6: 33). هكذا وحين حرر النفس من الاهتمام والقلق، ذكر السماء، لأنه في الحقيقة قد جاء ليخلصنا من الأمور العتيقة، وليدعونا إلى وطن أعظم. لهذا فإنه يفعل كل شيء ليحررنا من الأمور غير الضرورية، ومن عاطفتنا تجاه الأرض، لهذا السبب يذكر الأمم أيضًا قائلاً: “إن الأمم تطلب هذه الأشياء” فهم الذين يتركز كل عملهم في الزمان الحاضر، والذين لا يهتمون بالأمور الآتية (العتيدة). ولا بأي فكر سماوي. أما بالنسبة لكم، فهذه الأشياء ليست أساسية، بل هناك أمور أخرى أهم. لأننا لم نولد لهذه الغاية، أن نأكل ونشرب ونلبس، ولكن لنرضي الله، وننعم بالصالحات العتيدة. ولما كانت الأمور الأرضية هنا ثانوية في عملنا، فلتكن أيضًا ثانوية في صلواتنا. لهذا قال أيضًا: “اطلبوا أولاً ملكوت الله، وهذه كلها تُزاد لكم”، ولم يقل “تُعطى لكم” بل “تُزاد لكم” ليعلموا أن أشياء الزمان الحاضر ليست من بين العطايا الإلهية العظيمة، إذا ما قورنت بالأشياء العتيدة. ولهذا لم يأمرنا كثيرًا أن نطلبها، بل وبينما نطلب أشياء أخرى لنثق، وكأن هذه أيضًا قد زيدت على تلك.
اطلبوا إذن الأشياء الآتية (العتيدة) وستنالون الحاضرة أيضًا، لا تطلبوا الأشياء المنظورة لأنكم حتما ستنالونها، بل لا يجدر بكم أن تقتربوا إلى ربكم بمثل هذه الأشياء، وأنتم الذين يجب عليكم أن تصنعوا غيرتكم كلها واهتماماتكم لأجل البركات التي لا يُنطق بها، فأنتم تخزون أنفسكم جدًا باستهلاكها في أشياء وقتية.
ورُبّ قائل “كيف يكون هذا، ألم يأمرنا أن نطلب الخبز؟” بلى، لكنه أضاف “اليومي” أو “خبز هذا اليوم” أو (خبز الكفاف) وهو نفس ما يفعله هنا. فهو لا يقول “لا تهتموا” بل “لا تهتموا بالغد” مقدمًا، لنا الحرية في نفس الوقت الذي يربط فيه نفوسنا بأشياء أكثر ضرورية لنا، لأنه لهذه الغاية يأمرنا أن لا نطلب وكأن الله يحتاج أن نذكره بها، بل لكي نتعلم أننا نحقق ما نحققه بمعونته هو. وحتى نصبح بالأكثر خاصته بصلاتنا الدائمة لأجل هذه الأمور. لأن الذي يمنح الأعظم، يمنح بالحري الأصغر بدرجة أكبر. إذ يقول الرب: “إني لا أقول لكم لا تهتموا بهذه الفرص ولا أن تطلبوا، حتى تعانوا من الضيق، وتتجولوا هكذا عرايا، بل لكي تتوفر لكم هذه الحاجات بوفرة أعظم” وهو أمر كما ترون يناسب قبل كل شيء أمر انجذابهم إليه.
ومثلما يحدث مع الصدقة. حين كان يمنعهم أن يتباهوا أمام الناس، يأمرهم هنا أساسًا، ويعدهم بأن يعطيهم حاجاتهم بحرية أوفر، إذ يقول “لأن أباكم الذي يرى في الخفاء هو يجازيكم علانية” (مت 6: 4). هكذا هنا أيضًا إذ يبعدهم عن طلب هذه الأشياء، يعدهم أن يعطيهم حتى لو لم يطلبوا، وبفيض أوفر. لهذا يقول إنه لهذه الغاية يأمركم ألا تطلبوا وألا تأخذوا بأسلوبكم أنتم. فأنتم حين تقلقون حيال العطايا تجعلون أنفسكم غير مستحقين لها ولا للأمور الأخرى الروحية، فيكون قلقكم بلا مبرر وتحرمون أنفسكم من المتاح أمامكم.
5. “فلا تهتموا للغد، يكفي اليوم شره” أيّ يكفي الضيق والألم (مت 6: 34).
ألا يكفيكم هذا، أن تأكلوا خبزكم بعرق الجبين؟ فلماذا تضيفون مزيدًا من الضيق بسبب القلق. وأنتم على وشك الخلاص من متاعب سابقة؟
والرب يعني هنا بكلمة “شر” لا الشر بمعناه الحرفي، حاشا، بل الضيق والألم- وهما شر- والمتاعب والقلاقل، وكما يفعل في موضوع آخر، “هل هناك شر في المدينة، والرب لم يفعله؟” (عا 3: 6). وهو لا يعني أبدًا السلب والنهب والضرر- ولا أيّ شيء من كل هذا- بل الضربات التي يسمح بها الله من فوق. ويقول أيضًا “أنا صانع سلام وخالق الشر” (إش 14: 7) وهو هنا لا يعني الشرور حرفيًا- ولكن المجاعات والضربات وهي أمور يحسبها الناس شرًا- وللتعميم نطلق نحن عليها كلها شرورًا.فمثلاً كهنة وأنبياء هذه الضربات الخمس حين وضعوا النير على رقاب الأبقار، ودعوها تمضى بدون العجول (1 صم 6: 9) أطلقوا كلمة شر على الضربات المرسلة من السماء، وعلى ما نجم عنها من عذاب وفزع. هذا إذن هو ما يعنيه هنا أيضًا، حين يقول “يكفي اليوم شره”. لأنه ما من شيء يؤلم النفس مثل الاهتمام والقلق. ولهذا قال بولس الرسول حين كان يحث على البتولية وأشار عليهم بالنصح: “أريدكم أن تكونوا بلا همٍ” (1 كو 7: 32).
لكن حين يقول الرب “الغد يهتم بنفسه” لا يقولها وكأن اليوم يهتم بهذه الأمور، بل على اعتبار أنه يتحدث إلى أناس غير كاملين يريدون أن يجعلوا قوله أكثر تعبيرا. لهذا يجعل من الزمن شخصًا للتعميم، وهو هنا ينصح بحق وحين يتقدم في حديثه ويشرع كلامه ليصبح قانونًا يقول: “لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا مزودَا للطريق” (مت 10: 9-10) مظهرًا كل الحق في أعماله، وبعد أن يقدم لهم الوصية الفعلية بشكل أكثر تحديدًا، تصبح الوصية أيضًا أكثر سهولة في قبولها وقد وثقها بأعماله الذاتية كما ثم في سابقاها، فأين إذن كان قد وثق هذه الأقوال بأعماله؟
اسمعوه يقول: “ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه” (مت 8: 20) ولا يكتفي بهذا بل يظهر في تلاميذه أيضًا الدليل الكامل على هذه الأمور، إذ يشكلهم مثلما هو أيضًا- وعلى نفس النمط- ولا يجعلهم معوزين شيئًا. لكن لاحظوا اهتمامه الرقيق، وكيف تفوق عواطفه عواطف أيّ أب إذ يقول: أوصيكم بهذا، لا لشيء آخر سوى لكي أحرركم من أية اهتمامات زائدة. لأنه إن فكرتم اليوم في الغد، عليكم أيضًا أن تفكروا مرة أخرى في الغد، فلماذا تهتمون بما انتهى ومضى؟ ولماذا تقبلون ضيقًا أكثر في اليوم الواحد؟ وحين لا تتوفر لكم إنارة الآخرين تتراكم عليكم المتاعب الزائدة بسبب الجشع- والمسيح هنا يجعل الزمن حيًا ويصفه كشيء مصاب- ويعجب لعدم اكتراثهم قائلاً لهم: لماذا قبلتم اليوم لتهتموا بما فيه من أمور، ولأي سبب تضيفون إليه أمور يوم آخر ألا تكفي متاعب اليوم؟.
وأتوسل إليكم الآن. لماذا تجعلون اليوم أثقل وأصعب. حين يقول واضع الناموس هذه الأمور الآن وهو دياننا، فكروا في الرجاء الموضوع أمامنا- وهو رجاء طيب- والرب يشهد بنفسه أن هذه الحياة بائسة ومرهقة. حتى إن اهتماما بيوم واحد يمكن أن يلحق بنا الأذى والضيق.
6. ومع ذلك، فإنه بعد عدة كلمات شديدة، لا نزال نهتم بهذه الأمور، ولم نعد نهتم بأمور السماء، بل عكسنا ترتيب الله، فنقاوم أقواله في كل مرة. لاحظوا كيف يقول: “لا تهتموا بالأمور الحاضرة”- ولكننا نهتم بها إلى الأبد- وحين يقول “اهتموا بالسماويات” لا نطلبها نحن ولو لساعة واحدة، بل لشدة اهتمامنا بأمور العالم نهمل الأمور الروحية، وهي الأعظم بما لا يقاس. لكن هذا الانتعاش لا يدوم أبدًا إلى الأبد. ولا يمكنه أن يدوم أبدًا. فماذا لو احتقرنا كلامه لعشرة أيام؟ أو عشرين يوما؟ أو مئة؟ ألا نقع في غير الضروري وقوعًا بالغًا، فنسقط بين يدي الديَّان؟ لكن للتأجيل عزاؤه. فأيّ نوع من العزاء والراحة. هل ننتظر العقاب والانتقام يوميًا.
فإن كان لكم بعض العزاء بسبب التأجيل، فاستثمروه في تجميع ثمار تغييركم بالتوبة. طالما أن مجرد التأجيل للانتقام قد يبدو لكم نوعًا من الإنعاش! – فإن تجنُب الانتقام هو المكسب – إذن فلنوظف هذا التأجيل أعظم توظيف، ليكون خلاصنا كاملاً من المخاطر المحدقة بنا، فلا شيء مما يحيط بنا يبدو ثقيلاً أو خطيرًا – فكلها أمور سهلة وهينة جدًا – إن كان هدف القلب أصيلاً. عندئذٍ يمكن لنا أن نحقق كل شيء حتى إن كنا مثقلِّين بعيوب عدة. لأنه هكذا فعل منسى الكثير من الآثام فألقى الأيادي على القديسين ودنس الهيكل، وملأ المدينة قتلاً وارتكب حماقات تفوق الوصف. ورغم شره المستطير، غسل عن نفسه كل هذه الخطايا (2 أي 33: 1-20 مع 2 مل 21: 1-18) كيف؟ بالتوبة والاهتمام بالتغيير. فما من خطية- اجل أقول ما من خطية- لا تخضع لقوة التوبة وتأثيرها. أو بالحري لنعمة المسيح. لأننا إن أردنا التغيير فعلاً، علينا أن نستعين بالسيد المسيح. وإن رغبتم في الصلاح، فلا شيء يعوقكم، ولا أحد يمنعكم، حتى الشيطان ليس لديه قوة عليكم. طالما اخترتم الأفضل، واجتذبتم الله لعونكم. لكن إن لم تريدوا ذلك بأنفسكم، بل تحاشيتم الأمر، فكيف يحميكم؟ لأنه ليس عن ضرورة ولا عن إجبار، بل بمحض إرادتكم الذاتية يريد أن يخلصكم.
لأنه إن كان عندكم خادم يمتلئ قلبه بالكراهية والحقد نحوكم؛ يخالفكم على الدوام، يهرب منكم، فإنكم لا ترغبون بعد في الاحتفاظ به، رغم احتياجكم لخدماته. أفلا يفعل الله ذلك؟ وهو الذي يفعل كل شيء، لا لصالحه هو، بل لخلاصكم. أيختار أن يحجزكم بالإجبار؟ فإن أظهرتم من جهة أخرى نية صادقة، لا يتوقف الله أبدًا منعكم. مهما حاول الشيطان مقاومتكم والوقوف ضدكم.
إذن نحن الملامون إن دمرنا أنفسنا؛ لأننا لم نقترب إليه ولم نسع ولم نتوسل إليه كما ينبغي. لكن رغم أننا نقترب، فإننا لا نفعل ذلك كأشخاص يحتاجون إلى القبول وليس بإيمان صحيح، وليس كمن يحتاج فيطلب، بل نفعل ذلك كله بتكاسل وفتور همة.
7. ويريدنا الله أن نطلب منه احتياجاتنا. ولهذا يعتبر نفسه في علاقة عظيمة معكم؛ لأنه وحده من بين كل الدائنين يعتبر الدين نعمة ويعطينا ما لم نقرضه له. وإن ألح أحد على الطلب، يعطيه حتى ما لم يأخذ منه. لكن إن كان الطلب في بلادة وفتور، فإنه هو أيضًا يظل يؤجل الاستجابة مرة تلو الأخرى، لا بسبب عدم مشيئة في العطاء، بل لمسرته يريدنا أن نكرر الطلب عليه. ولهذا يخبركم بمثال الصديق الذي جاء ليلاً وطلب رغيف خبز (لو 11: 5-8) والقاضي الذي لم يكن يخشى الله ولا يضع اعتبارًا للناس (لو 18: 1-8) ولم يقل الرب ذلك على سبيل المثال، بل فعل ذلك عمليًا، حينما صرف المرأة الكنعانية بعد أن ملأها بنعمته العظيمة (مت 15: 21-28، مز 7: 24-30) فبواسطتها أظهر لنا انه يعطي من يسأله في جدية، حتى الأشياء التي لا تخصهم. إذ قال لها قبلاً “لا يليق أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب” لكنه أعطاها كل ما أعطاها، لأنها طلبت منه بإلحاح.
لكنه أظهر بواسطة اليهود غير المبالين، أنه لا يعطيهم حتى ما يخصهم، ولذلك لم يأخذوا منه شيئًا، بل فقدوا كل مالهم. وبينما لا يسألونه شيئًا، لا يأخذون حتى ما يخصهم أيضًا، أما الكنعانية فلأنها ألحت عليه في جدية، صارت لها قوة الحصول على ما يخص الآخرين. فنال الكلب ما للبنين.
يا لها من فرصة عظيمة طيبة، لأنه حتى لو كنت كلبا، لكنك تداوم على الطلبة، فستنال وتفضل على الابن إن كان مهملاً، لأن ما لا تحققه مشاعر المحبة والود، يحققه الإلحاح، فلا تقل أبدًا “الله عدوى، ولن يسمعني” فإنه يجيب طلبتك على الفور، إن داومت على إزعاجه!
إن لم يكن بسبب أنك صديقه، فعلى الأرجح بسبب إلحاحك، ولا يمكن أن يعوق ذلك أية عداوة ولا وقت غير مناسب للطلبة ولا أيّ شيء آخر. فلا تقل: “لست مستحقًا، ولن أصلي” لأن المرأة الكنعانية كانت كذلك، فهي لم تقل: “لقد أخطأت كثيرًا، ولست قادرة على التوسل إلى من أغضبته”. لأن الله لا ينظر إلى الاستحقاق بل إلى ميل القلب.
لأنه إن كان القاضي الذي لا يخشى الله ولا يخجل من الناس، قد غلبته أرملة، فكم بالأحرى الصالح. وكيف لا نكسب مراحمه بإلحاحنا في التوسل. حتى إن لم تكن صديقًا، وحتى إن لم تطلب في حين حسن، وحتى إن أزعجت طبيعة الآب! وكنت بعيدًا عن الأنظار طويلاً، وبلا كرامة وأخر الكل. حتى وإن اقتربت منه في غضبه وإن كنت لا ترضيه أبدًا، لكن إن أردت فقط أن تصلى وأن ترجع إليه، فإنك ستنال كل شيء وسرعان ما تطفئ الغضب الهادر والدينونة.
ورُبّ قائل: لكن أنظر، هأنذا أصلي، ولكن بلا نتيجة! فلماذا لا يصلي مثل هؤلاء؛ أعنى المرأة الكنعانية والصديق الذي جاء متأخرا ليلاً، والأرملة التي ظلت تلح باستمرار حتى ضايقت القاضي، والابن الذي أنفق كل خيرات أبيه؟
لأنه إن كنت تصلي كهؤلاء، فستنال بسرعة كل ما تريد. فبالرغم مما فعلته به، هو لا يزال آبًا، وحتى إن أغضبناه، فهو لا يزال يحب أولاده، وهو يطلب شيئًا واحدًا فقط: ألا ننتقم من أعدائنا، أن يراكم تتوبون وتتوسلون إليه. فإن كنا جادين بهذا المقدار، لتحركت أحشاء محبته نحونا، لكن هذه النار تنتظر إشارة البدء فقط، فإن وفرتم لها ولو شعلة لهب صغيرة، لأوقدتم نارًا كاملة من الإنسان. لأن الله لا يثور غضبًا حتى إن أهانه أحدنا. ولكنه يغضب لأن الإهانة صادرة منك شخصيًا. لأننا ونحن أشرار، إذا أغضبنا أولادنا، نحزن بسببهم، فكم بالأحرى الله، الذي إذا ما ألحقتم به إهانة، يغضب لأجلكم لأنكم ارتكبتم خطأ، فإن كنا نحن البشر نحب بطبيعتنا، فكم بالأكثر هو الذي تفوق محبته محبتنا وكل طبيعة أخرى. ألا يقول الرب: “إن نسيت الأم رضيعها، فأنا لا أنساكم” (إش 49: 15).
8. فلنقترب إذن منه، ونقول: “نعم يا سيد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها” (مت 15: 27). فلنقترب إليه في وقت مناسب ووقت غير مناسب- وفي الحقيقة فالإنسان لا يقترب إليه في وقت غير مناسب أبدًا- لأنه من غير المناسب أن نكف عن التوسل والتضرع إليه باستمرار، والاقتراب منه على الدوام. لأن الذي يريد أن يعطي دائمًا يناسبه أن نطلب ونقترب منه دومًا. ومثلما لا يكون التنفس بالأمر غير المناسب، هكذا لا تكون الصلاة بالأمر غير المناسب، بل إن عدم الصلاة هو الأمر الذي لا يناسبنا. لأنه مثلما نحتاج إلى كل نفس في صدورنا، هكذا نحتاج أيضًا إلى المعرفة التي تأتينا من عند الله – فإن أردنا – يسهل علينا أن نجتذب الله إلينا. والنبي يوضح ذلك ويشير إلى استعداد الله الدائم لفعل الخير والإحسان بقوله: “سنجد الرب مستعدًا كالفجر” (هو 6: 3 LXX ).
لأنه كلما اقتربنا إليه، نراه ينتظر تحركاتنا نحوه، وإن أخفقنا في الاقتراب من نبع صلاحه الدائم التدفق، فلا نلومَّن إلا أنفسنا. وتلك كانت شكواه من بعض اليهود حين قال: “رحمتي كسحاب الصبح، وكالندى الباكر سرعان ما يمضي” (هو 6: 4س). وهو يعني: لقد فعلت في الحقيقة كل شيء وكل ما في وسعي، وكشمس حارة تبزغ لكي تشتت السحاب والندى، وتجعلهما يتلاشيان، هكذا أنتم بشروركم العظيمة قد حجبتم الخير الذي لا ينطق به.
وتلك أيضًا حالة من العناية الإلهية، أنه وهو يرانا غير مستحقين, لنوال الخير يمنع إحساناته عنا، حتى لا يجعلنا كسالى لا مبالين. لكن ما إن نتغير قليلاً أو ندرك فعلاً أننا أخطأنا، فإنه يفجر فينا ينابيع صلاحه وخيره ويغمرنا بسخاء يفوق المحيط. وكلما أخذتم أكثر، كلما سُر قلبه بالأكثر. وبهذه الطريقة تتحرك أحشاء محبته ليهبنا بوفرة أكثر وأكثر، لأنه يحسب أن هذه هي خيراته الخاصة حتى نخلص.
وحتى يعطي الذين يسألونه بغنى؛ وهذا ما أعلنه الرسول بولس بقوله إن الرب: “غنى، لكل ولجميع الذين يدعون باسمه” (رو 10: 12). لأننا حين لا نصلي يغضب، ويبتعد عنا. ولهذا السبب “افتقر وهو غني لكي تستغنوا” (2 كو 8: 9) ولهذا السبب احتمل كل هذه الآلام القاسية لكي يحثنا على الطلبة.
فلا ندع اليأس يتملكنا، بل إذ لنا حوافز كثيرة في رجاء صالح، حتى وإن أخطأنا كل يوم، فلنتقرب إليه، متوسلين، متضرعين، طالبين المغفرة من خطايانا، لأنه هكذا نبتعد عن الخطية أكثر، كلما حان الوقت العتيد الآتي، وهكذا نطرد الشيطان، ونستدعي محبة ورأفات الله، وننال بركات الدهر الآتي- بالنعمة والمحبة التي لربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين- آمين.