الموسيقى في عبادة الكنيسة

لا يوجد أي خدمة في الكنيسة الأرثوذكسية لا تستعمل الترتيل والترنيم بشكل واسع. لِماذا يُعبَّر عن عبادة الكنيسة باللحن؟ تبدأ الليتورجيا الأرثوذكسية بإعلان “مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس…” بهذه الكلمات نُدعى إلى أن “نأتي وننظر”، إلى أن “ندخل في التذوّق المسبَق للحقيقة الإلهية وإلى اختبارها وهي ملكوت الله على الأرض الذي يظهِر نفسه في ليتورجيا الكنيسة. في هذه الحقيقة هناك أصلاً تعبير عن تغير عالمنا الحالي وتبدّلنا نحن السالكين فيه. نحن لسنا مجرد سكّان نحيا في نقطة محددة على الكوكب، بل نحن نقف “في هيكل مجدك، نحسب أننا في السماء”1. ليست حياتنا وحدها ما يتغيّر بل أيضاً كل أوجه العالم تشترك في هذه التحوّل. مائدة بسيطة تصبح عرش الرب، الخبز والخمر يتحوّلان إلى حياة المسيح بالذات، والمقاطع اللفظية (syllables) التي تؤلّف لغة التواصل خاصتنا تصبح كلمات ملأى بالروح القدس. إن الكلمات التي تخرج من شفاهنا هي كلمات الروح القدس، كلمات تحكي عن الله وبه. ملكوت الله كما نختبره في الليتورجيا هو بالتالي تعبير عن الجمال الإلهي: الإنشاد، الترتيل، رسم الأيقونات، الخدمة، والوقار هي كلها أجزاء مما يختبره المؤمنون كظهور وتجلٍ للملكوت على الأرض.

يمكن أن نجد مثالاً جيداً عن هذا الظهور للجمال كتعبير عن ملكوت الله واختبار له في تقرير مُرسَلي الأمير فلاديمير عند رجوعهم إلى كييف بعد أن شهدوا الليتورجيا البيزنطية في كاتدرائية الحكمة الإلهية في القسطنطينية. في وصفهم لخبرتهم مع الليتورجيا، كتبوا: “لقد قادنا البيزنطيون إلى المبنى حيث يصلّون لإلههم ونحن لم نعلم حقيقة ما إذا كنا في السماء وعلى الأرض. إذ على الأرض لا يوجد هكذا روعة وجمال، فلم نعد نعرف كيف نصفها. نحن نعلم فقط أن هناك يسكن الله بين البشر”2. أهم ما في هذا التقرير ليس فقط أن المرسَلين الروس شاهدوا خدمة عبادة بيزنطية، بل أنهم اختبروا وجود الله في هذا الجمال.

كل العبادة في الكنيسة الأرثوذكسية مضبوطة بالتيبيكون (ordo) الذي لا يضع فقط بنية كل خدمة يُحتَفَل فيها خلال اليوم، بل أيضاً يحدد الصلوات والتراتيل التي سوف تُلحّن ويضبط أيضاً الأعمال التي ترافق الصلاة: مثلاً التبخير، الزياحات والدخول، النور والعتمة، الوقوف، الجلوس، الركوع والسجود. الترتيل أيضاً منظم، ليس فقط بالنص الذي يخدمه بل بالمهمة الليتورجية التي ترافقه. وهكذا، إن اختيار الموسيقى التي نستعملها في العبادة يجب أن يستند إلى اعتبارات ليتورجية ويعزز مواقف مناسبة في الصلاة.

إن تحليل بنية خدمنا الليتورجية يميّز الأشكال التالية من الصلاة التي تستدعي استعمال اللحن: الحوار، ترتيل المزامير والترنيم.

فالحوار هو شكل أساسي من الصلاة المسيحية المشتركة وقد احتل الحوار مكاناً مركزياً في عبادة الكنيسة منذ البداية. والحوار هو أساسي للصلاة المسيحية، لا بل بالواقع، يمكن وصف كل علاقة الله بشعبه على أنها حوار عظيم، منذ الخليقة إلى بشارة يوحنا المعمدان، ومن ثم حياة المسيح وموته وقيامته، إلى اليوم والساعة الحاليين. استهلّ الله هذا الحوار، والصلاة الليتورجية هي إحدى طرق إجابتنا له، أي الصلاة بشكل تقديم الشكر والمجد والتضرع. أحد الأمثلة على الحوار في الليتورجيا هو الطلبة. الأنافورا هي مثال آخر عن الشكل الحواري. يلاحظ عدد من الكتّاب الكلام بصفة المتكلّم للجمع. وعند هذه النقطة يقول الأب جون مايندورف بأن هذا الاستعمال هو للتشديد على أن الصلاة هي صلاة الجماعة كلها. والواقع هو أن كلمة ليتورجيا باليونانية تعني عملاً مشترك جماعياً لكل فرد دوره فيه.

أما ترتيل المزامير فهو خدمة معروفة في الكنيسة منذ البداية وله عدة أشكال منها البروكيمنون وقراءة الكاثيسما.

نشوء المفاهيم الجديدة

في القرن العاشر، بدأ مفهوم جديد للترتيل والتأليف الكنسيين بالبزوغ في بيزنطية، وعلى ما يصفه ديميتري كونوموس “تحرر نامٍ من استعمال المواد المعيارية التقليدية، ابتكار حر، براعة فنية فائقة، واستبدال للمواد القديمة بغيرها جديدة”3 في بيزنطية، نتج عن هذا المفهوم نمط جديد من الترتيل الكنسي في القرن الرابع عشر سمي بالكالوفونيك (kalophonic)، الذي يعني الصوت الحسن والجميل. في هذا النمط الجديد من الترتيل لم يعد التركيز على معنى الكلمات بل بالأحرى على الصوت في الموسيقى. وهكذا أصبحت الخدمة الكنسية مكاناً للأداء الموسيقي والتمتع كونها بين يدي المرتلين المحترفين والجوقات المدرّبة جيداً.

النتائج نفسها جرت في روسيا في منتصف القرن السابع والقرن الثامن. حلّت الجوقة مكان كل الشعب إلى درجة أنه لم يعد الشعب ينشد أي شيء، ليس فقط في الكاتدرائيات وكنائس المدن الكبرى، بل حتى بالمدن الأصغر والقرى.

دعوة إلى استعادة الترتيل الليتورجي

مسألة الترتيل الكنسي بمشاركة كل الشعب كانت إحدى المسائل التي ناقشها أساقفة الكنيسة الروسية عام 1905 عندما سُئلوا تقديم تقارير تهيئة لمجمع موسّع. في تقريره كتب أسقف سامارا قسطنطين: “علينا أن نعيد الترتيل إلى الحالة التي كان عليها والتي ينبغي أن يكون فيها. ضروري أن نجدد في عقول شعبنا مفهوم أن الترتيل الجماعي هو القاعدة وأن ترتيل الجوقات هو قائم مكانه فقط”4

أفلوجيوس أسقف خولم، الذي كان ميتروبوليت أوروبا الغربية بين 1922 و1946، كتب داعماً ترتيل الجماعة واقترح “أن يعاد إدخاله تدريجياً بدءً بالطلبات والتراتيل القصيرة ومن ثم إدراج كل تراتيل الليتورجية والسهرانيات.”5 إن إحياء الترتيل الجماعي لم يكن مجرد رغبة في الإصلاح الهادف إلى الاستجابة لمعيار قانوني و لسابقة تاريخية، بل قد نُظر إليه كمقياس مساعد في إعطاء الليتورجيا الحياة والفرح والقوة التي هي من صلب هدفها ومحتواها وشكلها ورسالتها. هذا ما شدد عليه تقرير عميد إقليم شنكورسك (أسقفية رئيس الملائكة): “بشكل عام، لا يمكن بعد الآن إغفال ضرورة الاهتمام بعظمة الخدم الكنسية وفخامتها بهدف إيصالها إلى المستويات التقديسية الضرورية والملائمة، حتى يتمكن كل مسيحي مؤمن من إيجاد الفرح والتعزية في الكنيسة، وحتى لا يحسّ بالضجر والتعب. إن ترتيل الجوقة، والأفضل أيضاً، الترتيل الجماعي والترنيم المفهوم يلعبان دوراً مهماً في تنمية هذا”6

إن مسألة مشاركة الجماعة ووجود موسيقى مناسبة هي قضايا مُثارة اليوم في كنائسنا من قِبَل الإكليروس والعلمانيين على السواء. مع بعض الاستثناءات المعزولة، في أي حال، لم تُعطَ هذه القضايا إلاّ القليل من العناية وأقل منه من التوجيه. كما ذكرنا، قبل حوالي التسعين سنة، أثار الأساقفة في روسيا موضوع إحياء الترتيل الجماعي في الكنيسة وناقشوه وحتى قدّموا اقتراحات لتطبيق برنامج خاص به. لقد رأوا أن هذا الأمر ضرورة لمنح العبادة الليتورجية الحياة والحيوية في ذلك الحين. وليس مفاجئاً اليوم أن الكنيسة الروسية تعيد النظر في هذا الأمر.

… تجتهد الكثير من الكنائس اليوم… للحفاظ على حياة روحية وليتورجية جيدة. وشيئاً فشيئاً يدرك رؤساء هذه الرعايا أنه لتحقيق هذه الحياة ينبغي أن تكون الموسيقى المستَعمَلة قابلة للترتيل، تلائم الليتورجيا ومرضية فنياً. أحد المخاوف العظيمة عند قادة الجوقات والملحنين والمرتلين الجديين هو أن استعمال موسيقى أدنى مستوى من المستعملة حالياً في العبادة الأرثوذكسية سوف يكون الحل النهائي في استعجالنا لحل هذه المشاكل، وخاصة المتعلقة بمشاركة المؤمنين في الترتيل الليتورجي. لا يمكن تخفيض المقاربة الملائمة فقط إلى موضوع المشاركة و موضوع النمط الموسيقي بل بالأحرى يجب أن تتجذر هذه المقاربة في فهم حقيقي لهدف الليتورجيا ومحتواها وما تعبّر عنه: إظهار جمال ملكوت الله وفرحه. هذا بالواقع يشكّل تحدياً ليس فقط للملحنين بل أيضاً للمترجمين والشعراء والمصلين والرعاة ولكل المرتلين.

بروفيسور دافيد دريلوك
عميد وأستاذ الموسيقى الليتورجية في معهد القديس فلاديمير، نيو يورك.
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي


References

  1. Troparion at Lenten daily matins.

  2. S.H. Cross and O.P. Sherbowitz-Wetzor، The Russian Primary Chronicle، Laurentian Text (Cambridge، MA، 1953)، 110-111.

  3. See Paul Meyendorff، “The Liturgical Path of Orthodoxy in America” in St. Vladimir’s Theological Quarterly (Crestwood، NY، 1996، Vol. 40، numbers 1 & 2).

  4. Letter CCVIII، PG 32. Cf.، James McKinnon، Music in Early Christian Literature (Cambridge University Press، 1987)، 68.

  5. For liturgical use in Orthodox worship، the Psalter (150 Psalms) is divided into twenty sections or kathismata with three sets of Psalms in each section. Especially in monasteries all 150 Psalms are chanted over the course of a week، beginning at Vespers on Saturday evening and concluding at Matins on the following Saturday.

  6. St. Germanus of Constantinople، On the Divine Liturgy — Greek text with translation، introduction، and commentary by Paul Meyendorff (SVS Press، Crestwood، NY، 1984)، 73.

  7. Dimitri E. Conomos، “Changes in Early Christian and Byzantine Liturgical Chant” in Studies in Music، 5 (1980) 52.

  8. Johann A. Von Gardner، Liturgical Singing of the Russian Orthodox Church [in Russian] (Jordanville، NY، 1977، 1981) vol 2، 102، footnote 211.

  9. John Shimchick، “Music and Worship” in Orthodox Church Music (Syosset، NY، No. 2، 1985)، 7.

  10. John Shimchick، The Responses of the Russian Episcopate Concerning Worship — 1905 and the Liturgical Situation in America. (Unpublished Master’s Thesis prepared for St. Vladimir’s Orthodox Theological Seminary، 1980)، 89.

  11. Ibid.، 90.

arArabic
انتقل إلى أعلى