استعانت الكنيسة بالفن التصويري لتفسّر تعليمها الأرثوذكسي الذي تداخل مع حياة المؤمنين بحيوية وعيشٍ للتقليد، وخاصةً عندما صعب على الكنيسة إبراز عقائدها وذلك من جرّاء الحذر الذي فرضته الاضطهادات عليها. فكان هدف الفن الكنسي إبراز الشخصيات التي عاشت الإيمان، ليتمثّل بهم المؤمنون في جهادهم ضد قوى الشر ولحماية المؤمنين وقيادتهم وتشجيعهم للوصول بهم إلى الشهادة كما فعل المخلص ورسله وشهداؤه. فكان الفن يقدّم هذه الخدمة من خلال رموزه حاملاً هدفاً روحياً ومتضمناً لفحوى عقائدية معبّر عنها بالشكل والألوان. فهِم المؤمنون في العصور الأولى الأفكار العظيمة التي للإيمان الجديد من خلال رموز بسيطة مثل “السمكة” و “الحمل” و “الراعي” و “الطاووس”.
بعد انتصار المسيحية تحوّل التصوير من رمزي إلى تاريخي. وبعد حرب الأيقونات وانتصار الأرثوذكسية توضَّحت الناحية العقائدية في فن الأيقونات. فالضابط الكل في القبة يمثّل الآب والابن معاً. وعبَّرَ عن عقيدة أم الإله بالعذراء على العرش الحاملة ابنها في حضنها. وكذلك بعد حرب الأيقونات رُسم العرش ( έτείμασις τοϋ ξρόνου ) كتعبير عن عقيدة المجيء الثاني.
فن الخدمة الروحية
وبما أن إيمان الكنيسة روحي سماوي، كان من الطبيعي أن تهتمّ بشكل رئيسي بإظهار جمال العالم الروحي. وهذا أمر لا يعبَّر عنه بسهولة. فبينما يركّز العالم اليوناني القديم على المثال بإظهار صلاح الطبيعة وجمالها، ركّزت الكنيسة، في إظهارها للمثال، في الفن الأرثوذكسي، بالتعبير عن حالة القداسة.
لم تعتقد الكنيسة المسيحية بأن الجمال محدود بالجمال الطبيعي للأشياء ولكن بفحواها. لذلك، قال القديس يوحنا الذهبي الفم: “نقول أنّ كلّ وعاء أو حيوان أو نبات هو جيد، ولكن ليس في تكوينه ولا في لونه. ولكن في الخدمة التي يؤدّيها”. فالأيقونة لا تصّور الطبيعة كما هي ولا تعتمد غايةً لها الشكل واللون، ولكنها تستخدم هذه العناصر بتقنية جيدة لأنها ضرورية للمؤمن حتى يألف روح الأيقونة.
الفن الليتورجي
أظهر الفن في الآثار القديمة المعاني الأساسية الإفخارستية مستنداً إلى تفاسير الآباء القديسين. وبما أن الفنانين وضعوا خبراتهم الفنية في خدمة الكنيسة وأهدافها السامية، بات الفن الأيقونوغرافي فناً ليتورجياً بالخطوط والألوان في إفهام المؤمنين أسرار الليتورجيا. فإننا نجد في الدياميس صورة السمكة التي ترمز إلى الإفخارستية، وكذلك في الإسكندرية وأورشليم نجد صورة أعجوبة إكثار السمك والخبز كرمز عن القداس الإلهي. وكذلك رسم الحمل الذي يرمز إلى حمل الله رافع خطايا العالم. وفي الدياميس أيضاً صور الفتية الثلاثة في أتون النار ودانيال النبي في جبّ الأسود وتضحية إبراهيم بإسحق التي اعتُبرت رمزاً للتقدمة المقدسة. تحدّد مثل هذه المواضيع الليتورجية الدائرة التصويرية الليتورجية التي تشكّل حلقة وصل بين دائرتي العقائد والأعياد.
مثلاً عندما تدعونا الكنيسة لترك الاهتمامات الدنيوية من أجل استقبال ملك الكل الذي تواكبه الملائكة، يأتي التصوير الأرثوذكسي ليساعدك بشكل عملي لتبلغ إلى فهم الأمر بأوضح ما يمكن. فيُرسم الملائكة معبّرين عن رهبة حملهم التقدمة إلى الله والرسل يقتربون ليتناولوا من يد الرب بنفس الخشوع. هاتان الأيقونتان تفرضان استيعابهما بنفس الروحية التي تقدمانها. وينبغي الانتباه إلى أنه ما من فن في العالم توصّل إلى تعبير كامل ودقيق عن مضمونه بقدر ما أعطت الأيقونة وأبرزت مضامينها. ففي ميستاس تعطي أيقونة الملائكة للمشاهد رؤية في العالم السماوي، وفي الحقيقة أن المصورين الأرثوذكس بأسلوبهم وتقنيتهم قد نجحوا في تفسير الشاروبيكون لرفع المؤمنين إلى مشاركة ليتورجية على مستوى عال. وبمجرد المقارنة بين رسم الملائكة في الأيقونة الأرثوذكسية والملائكة في الأيقونات الغربية كافٍ لتوضيح فكرة الأيقونة وهدفها كفن ليتورجي.
أعتقد بأن أهمية التصوير الأرثوذكسي أصبح ظاهراً كفن ليتورجي يهدف إلى جعل محتوى الليتورجيا مفهوماً للمؤمنين وبالأخص الإفخارستية المقدسة.
فن اللاهوت السامي
ليست الأيقونات الأرثوذكسية مجرد فن تزيني ديني، بل هي لاهوت أيضاً. في الغرب تزيَّن الكنائس بأيقونات تمثل درب الصليب وآلام المسيح بينما الكنائس الأرثوذكسية تزدان بأيقونات القديسين والأعياد، لأننا لا نشدد على الآلام فقط بل على حياة الرب يسوع بمجملها. يقول القديس غريغوريوس النيصي: “بينما هناك سكوت على الحائط، فإن الرسم يتكلّم عن أشياء مفيدة”.
إن الصليب في قبة الكنيسة يجعل الناس يشعرون أنهم تحت حماية علامة الرب، ما يعبّر عن التعليم المسيحي. القبّة أصبحت رمز السماء، والضابط الكل هو الآب والابن معاً، وهو تعبير عن مساواة الآب للابن في الجوهر. يظهر الضابط الكل أن الرب هو الخالق والمخلص والحاكم.
في ربع الكرة فوق الهيكل نرسم السيدة العذراء حاملةً يسوع وحولهما ملاكان. أن ربع الكرة هذا هو القسم المعماري الذي يوحِّد السقف مع الأرض، وهذا يناسب العذراء كونها الإنسانة التي وحّدَت بين السماوات والأرض بواسطة ولادتها المسيح.
إذاً، للأيقونة دور في إبراز العقيدة ودلالة على الحياة الإيمانية. فن التصوير الأرثوذكسي يبرز العالم الممجَّد الذي أُعيدت ولادته بالمحبة الإلهية حيث الشمس التي لا تغيب. لا يهتمّ الفن الأرثوذكسي بالشكل الطبيعي الفيزيولوجي، بل يحاول أن يستخدمه كتعبير عن الفكر والإيمان. وهو ليس فناً شخصياً إذ لا يعبِّر عن الإدراك الشخصي للفنان بقدر ما يعبِّر عن أهمية حوادث الإعلان الإلهي.
يحاول الفنان الأرثوذكسي أن يرفع عالم الإيمان إلى ما وراء العالم الحاضر وقد نجح فنانونا بإِبراز الفروقات بين القديسين المرسومين في الأيقونات وبين باقي الأشخاص المرتبطين بالعالم الحاضر. على عكس ذلك، لم ينجح التصوير الغربي في إظهار الفرق بين العالمين الروحي والمادي.
التصوير الأرثوذكسي فن عميق
إذا انطلقنا من افتراضات انطباعية لنحكم على الأيقونة البيزنطية الأرثوذكسية التي هي فن تعبيري، سنخطئ وسنفهمها بمحدودية، كما كان حاصلاً في الغرب. وبما أن الفن الأرثوذكسي فن تعبيري فيتوجّه إلى المشاعر وإلى الروح أيضاً إذ ليس هدفه إبراز انطباع خارجي بل ينبغي ترك أثر في الروح.
هذا الكلام يصبح أكثر وضوحاً إذا فحصنا أيقونات الصلب في الفن الغربي وقارنّاها مع مثيلاتها من الفن الأرثوذكسي.
الأرشمندريت بندلايمون فرح
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي