مفعول المعمودية – المعموديّة واحدة – ضرورة استدعاء الثالوث الأقدس في المعمودية – لماذا التغطيسات الثلاث – ما معنى المعمودية في المسيح – الافخارستيا والمعمودية ينبعان من جنب المخلّص – الإزدواجية في المعمودية على مثال تركيب الإنسان: ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وللحياة الأبديّة. فإنّ المعمودية دليلٌ على موت الربّ. ونحن نُدفَن مع الربّ في المعمودية، كما يقول الرسول الإلهي (كولوسي 2: 12). فكما أنّ موت الرب قد تمَّ مرةً واحدة، يجب أن تصيرَ المعمودية كذلك مرةً واحدة، معتمدين على حسب كلام الرب، باسم الآب والابن والروح القدس (متى 28: 11)، فنتعلّم الاعتراف بالآب والابن والروح القدس. وعليه، إنّ كل الذين اعتمدوا بالآب والابن والروح القدس فصاروا عارفين طبيعة اللاهوت الواحدة في ثلاثة أقانيم، إذا ما اصطُبغوا ثانية، فهم يجدّدون صلبَ المسح، كما يقول الرسول الإلهي: “إنّ الذين قد أُنيروا مرة إلخ… ثم سقطوا، فلا يمكنهم أن يتجدّدوا ثانية للتوبة صالبين لأنفسهم المسيح ثانية ومشهّرين إيّاه” (عبرا 6: 4-6).
أمّا الذين لم يعتمدوا في الثالوث الأقدس، فينبغي لهؤلاء أن يعتمدوا ثانية، لأنه ولو قال الرسول الإلهي “بأننا قد اصطبغنا في المسيح وفي موته” (رومة 6: 3)، فهو لا يقول بأنه يجب أن يكون استدعاءُ المعمودية على هذا المنوال، بل إنّ المعمودية إنما هي رمز لموت المسيح، لأن المعمودية -بواسطة التغطيسات الثلاث- تعني الأيام الثلاثة لدفن المسيح. إذاً فإنّ المعمودية بالمسيح تعني معمودية المؤمنين به، ولا يمكنّا الإيمان بالمسيح دون أن نتعلّم الاعتراف بالآب والابن والروح القدس، لأن المسيح هو “ابن الله الحيّ” (متّى 16: 16)، وقد مسحه الآب بالروح القدس (أعمال 10: 38)، كما يقول داود الإلهي: “لذلك مسحَكَ الله إلهك بدهن البهجة أفضل من شركائك” (مز 44: 8). وقد قال أشعيا ممثّلاً الرب: “إنّ روح السيّد الرب عليّ. لأجل هذا مسحني” (أشعيا 61: 1). وقد علّم الرب تلاميذه الأخصّاء هذا الاستدعاء قائلاً: “معمّدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19). ولمّا كان الله قد صنعنا في عدم الفساد، وكنا نحن قد تجاوزنا وصيّته الخلاصية وحُكم علينا بفساد الموت، فلكي لا يستمَّر الشرُّ قائماً، انعطف هو نحو عبيده -وهو الرحيم- وصار على مثالنا. فأنقذنا من الفساد بآلامه الخاصة وأفاض علينا من جنبه الأقدس والطاهر ينبوع الغفران، ماءً لإعادة الولادة ورحض الخطيئة والفساد، وماً، مشروباً صالحاً للحياة الأبديّة. وأعطانا وصايا لنتجدّد بالماء والروح، بواسطة الصلاة والاستدعاء، بحلول الروح القدس على الماء. ولما كان الإنسان مزدوجاً، من نفس وجسد، فقد أعطنا نتقيةً مزدوجة، بالماء والروح. فبالروح يجدّد فينا ما كان على صورة الله وعلى مثاله، أما بالماء فيُنقي فينا الجسد من الخطيئة بنعمة الروح القدس، يحرّره من الفساد. إن الماء يحقّق فينا صورة الموت والروح يمنحنا عربون الحياة.
قوة الماء التطهيرية: إنه منذ البدء “كان روح الله يرفّ على وجه المياه” (تكوين 1: 2). ومنذئذٍ أخذ الكتاب يشهد للماء بالتطهير. ففي أيام نوح غرّق الله خطيئة العالم بالماء (تكوين 6: 17)، “وكل نجس على مقتضى الشريعة، يطهّر بالماء” (راجع أحبار 15: 10)، حتى الثياب نفسها إذا ما غسلت بالماء. وقد “أظهر إيليا نعمةَ الروح ممزوجة بالماء لمّا أحرق الضحيّة بالماء” (راجع 3ملوك 18: 34). وكل شيء تقريباً يطهّر بالماء بموجب الشريعة، لأنّ المنظورات رموز للمعقولات. وتجديد الولادة يصيرُ في النفس، والإيمان من شأنه أن يجعل صاحبه -بفعل الروح- ابناً لله بالوضع، على الرغم من أننا خلائق، فيقودنا إلى السعادة القديمة.
نعمة العماد على قدر استعداد مقتبلها ونقاوته: إذاً فبالمعمودية يمنح غفران الخطايا للجميع بالتّساوي. أمّا النعمة فتكون على قدر إيمان المعتمد وقابليّته للتنقية. إذاً فإننا ننال الآن بالمعموديّة باكورةَ الروح القدس، فتَصير لنا إعادةُ الولادة بدءَ حياة أخرى وختماً لها وضماناً وإنارة.
وعلينا أن نثبت بكلّ قوّتنا في حفظ ذواتنا أنقياء من الأعمال الدنسة، ولا نعود إليها ثانية “كما الكلب إلى قيئه” (2بطرس 2: 22)، فنجعل ذواتنا من جديد عبيداً للخطيئة، لأنّ الإيمان بدون أعمال ميت، وكذلك الأعمال بدون إيمان، لأن الإيمان الصادق يُختبر بالأعمال.
لماذا نعتمد في الثالوث: ونحن نعتمد في الثالوث الأقدس لأنّ المعتمدين في حاجة الثالوث الأقدس لقيامهم وثباتهم. وإنه لا يمكن عزل الأقانيم الثلاثة بعضهم عن بعض، لأن الثالوث الأقدس غير منفصل.
أنواع المعموديّة: تختلف معموديّة يوحنا عن معمودية المسيح. – معموديّة التوبة. – معموديّة الشهداء، وهي الأسمى. – ومعمودية المصلوب إلى الأبد: إن المعموديّة الأولى لاستئصال الخطيئة كانت بالطوفان (تكوين 7: 17)، والثانية كانت بالبحر والغمام (1كور 10: 2). فإنّ الغمام رمزٌ للروح والبحر رمز للماء. والثالثة كانت التشريع، فإن كل نجس كان يُحمُّ بالماء وتُغسل ثيابه وهكذا يدخل إلى المحلة والرابعة معموديّة يوحنا التي كانت مدخلاً يؤدّي بالمعتمدين إلى التوبة كي يؤمنوا بالمسيح وقد قال: “أنا أُعمّدكم بالماء للتوبة. وأمّا الذي يأتي بعدي فهو أقوى مني وأنا لا أستحقّ أن أحُلَّ حذاءه. وهو يعمّدكم بالروح القدس والنار” (متّى 3: 11). إذاً فإن يوحنا يسبق فيطهّر بالماء استعداداً للروح. والخامسة معمودية الربّ. وقد اعتمد بها هو نفسه. وهو قد اعتمد لا على أنه هو نفسه في حاجة إلى تطهير، بل لكي -وقد جعل من تطهيري خاصّته- يسحقَ بالماء رؤوس التنانين، لكي يغرّق الخطيئة ويدفنَ في الماء آدم القديم كله، لكي يقدّس المعمودية، لكي يُتمّ الشريعة، لكي يعلن سرّ الثالوث، لكي يكون رمزاً ومثالاً للمعموديّة. ونحن أيضاً نعتمد بمعمودية الربّ الكاملة التي هي بالماء والروح. وقد قيل إنّ المسيح يعمّد بالنار، ذلك أنه قد أفاض نعمة الروح على رسله القديّسين بصورة ألسنة نارية، كما يقول الرب نفسه: “إنّ يوحنا إنما عمّد بالماء، أما أنتم فستعمّدون بالروح القدس والنار بعد أيام غير كثيرة” (أعمال 1: 5) أو ذلك بسبب معمودية النار الآتية للعقاب. والسادسة هي المعمودية بالتوبة والدموع، وهي مؤلمة حقّاً. والسابعة هي المعمودية بالدم والشهادة، وهي جليلة ومغبوطة جداً لأنها لا تكون عرضة لأوساخ ثانية. الثامنة هي المعمودية الأخيرة التي ليست للخلاص. إنما هي لإبادة الشرّ. فلا مجال بعدها للشرّ والخطيئة. وهي عقاب لا ينتهي.
الروح القدس بشكل حمامة ونار: لقد حلَّ الروح القدس على الرب بصورة جسميّة، شبه حمامة، دالاًّ بذلك على باكورة معموديتنا، ومكرّماً الجسد، لأنّ هذا أيضاً -أي الجسد- إلهٌ بالتألّه. وقد كان قبلاً قد تمثّل بحمامة ليبشّر بنهاية الطوفان. وقد نزل على التلاميذ بصورة نار، لأنه إله و”لأنّ الله نار آكلة” (تثنية 4: 24).
مسحة الزيت: ويُستمعل الزيت في المعمودية إشارة إلى مسحتنا، ولأنه يجعلنا مسحاء ويبشّرنا برحمة الله علينا بالروح القدس، لأنّ الحمامة هي أيضاً قد حملت غصن زيتون إلى الذين خلصوا من الطوفان.
يوحنا واعتماده: لقد اعتمد يوحنّا بوضعه يده على هامة السيد الإلهية، ثم بدمه الخاصّ.
يجب ألاَّ يصير تأجيلٌ في المعمودية عندما يكون إيمان المُقبلين إليه يشهدُ لهم بأعمالهم، لأنّ من يتقدّم إلى المعمودية بغشٍّ يُحكَم عليه بدلاً من أن يستفيد.
القديس يوحنا الدمشقي
المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي