الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة التقليد

الكلام على “التقليد الشريف” صعب ودقيق، وذلك لأنه تراث الكنيسة وذاكرتها المقدسة التي “حُفظت فيها الحقيقة: رسالة خلاص الإنسان”. وهذه الذاكرة ليست ذاكرة فرد او تجربة فرد او رأياً شخصياً، وإنما هي الإيمان الحيّ وضمير الكنيسة اللذان يبقيان “ثابتين وغير متحوّلين” عبر العصور.

في اللغة اليونانية تشتقّ لفظة “تقليد” من فعل يفيد فاعليّة النقل او الإرسال بعيداً من يد الى يد ومن فم الى فم، او التسليم المباشر من شخص الى آخر. اما موضوع هذا التسليم فيمكن أن يكون أقوالا قيلت او أعمالاً شوهدت بالعين… وفي العربية “قلّد” تقليداً السيفَ حّمَله إياه، والعملَ اي فوّض أمره اليه…

ويعرف العارفون أن ثمة تقليداً منذ أقدم العصور، فالله أعلن مشيئته الخلاصية قديما، وقد تناقلها الناس شفاهاً عبر أجيال عديدة قبل أن تُجمع في سجلات مكتوبة. وهذا، تحديداً، كان حال الكرازة في العهد الجديد، فالرب يسوع علّم أتباعه الإنجيل “علانية”، والرسل بدورهم حافظوا على الطريقة عينها في تسليمهم البشارة السارة، اي انهم نقلوها شفاهاً الى كل العالم قبل أن تُدوَّن في أسفار (انظر: رسالة كليمنضس اسقف رومية الاولى الى اهل كورنثوس 42 :1-5). ولعل أفصح مثال على ذلك، هو أن رسولين من بين كتّاب الأناجيل الأربعة (متى ويوحنا) اعتمدا في عملهما على ما سمعاه من الرب يسوع مباشرة، وأن اثنين آخرين (مرقس ولوقا) استندا الى تعليم (تقليد) الرسل.

وما لا يختلف عليه المستقيمون هو أن الكتاب المقدس، الذي لا يمكن فهمه فهماً صحيحاً الا “على ضوء التقليد الرسوليّ الحيّ وفي إطاره”، كما يقول الأب جورج (فلورفسكي)، لا يضمّ بين دفّتيه أقوال الرب او أعماله كلها بمجملها، وإنما ما ينفع خلاص العالم. وهذا ما تؤكده الأسفار المقدسة ذاتها، نقرأ في خاتمة إنجيل يوحنا: “وأتى يسوع بآيات أخرى كثيرة لم تُكتب في هذا الكتاب، وإنما كُتبت هذه لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله، ولتكون لكم اذا آمنتم الحياة باسمه” (20: 30و31)، وايضا: “وهناك أمور كثيرة أتى بها يسوع، لو كُتبت واحداً واحداً، لحسبتُ أن الدنيا نفسها لا تسع الأسفار التي تدوّن فيها” (21: 25). وما يزيد هذا الكلام وضوحاً هو أن رسائل العهد الجديد تركت لنا ما يساعدنا على فهم حقيقة الله التي لا تحدّ في كتب، وتالياً أهمية المسلّمات (التقليد الشريف) والبشارة الشفويّة (راجع 2يوحنا 12؛ 3يوحنا 3: 13-14؛ 1تيموثاوس 2: 13؛ 2تيموثاوس 2: 1-2 و3: 4؛ 2تسالونيكي 2: 15؛ 1كورنثوس 11 :2 و34؛ غلاطية 1: 9…).

ما يجب أن نعرفه، في سياقنا، هو انه ليس في الارثوذكسية تقليدان للإيمان أحدهما مكتوب والآخر منقول شفاهاً، وإنما تقليد واحد بعضه مكتوب وبعضه الآخر محفوظ في حياة الجماعة، وهو يظهر جليّاً في: الكتب المقدسة، ودستور الإيمان وقرارات المجامع المسكونية، وفي بعض كتابات الآباء، والقوانين الكنسيّة، والحياة الطقسية، والايقونات وحياة القديسين، اي في كل ما عبّرت عنه الارثوذكسية عبر العصور من عقيدة وتنظيم كنسي وعبادة وفنّ.

في كتابه “في الروح القدس”، يتكلم القديس باسيليوس الكبير على بعض “العقائد والتعاليم المحفوظة في الكنيسة” التي لم تُذكَر في الكتاب المقدس، وإنما “تقبّلناها في سر مسلَّماً لنا من تقليد الرسل”، ويسمّي منها: إشارة الصليب، والاتّجاه في الصلاة نحو المشارق، وكلمات الاستدعاء في إظهار خبز الشكر وكأس البركة، والتغطيس الثلاثيّ الذي يجري في المعمودية… (27/66). ويزيد الطوباوي أغسطينوس معمودية الأطفال… ولا يخفى أن وحدة التقليد تبرز، بوضوح كلّي، في تعليم القديسين الذين دافعوا عن العقيدة المقدسة مستندين بآن على ما هو مكتوب وعلى ما حفظته “ذاكرة الكنيسة الداخليّة”.

وهذه الوحدة، في كل حال، هي التي تمكننا من أن نرى فرادة الكنيسة الارثوذكسية التي هي واحدة في الإيمان والحياة في كل زمان ومكان، وتالياً أن نفهم خطأ الهراطقة الذين خرجوا على التقليد الحيّ وأقاموا مفاهيمهم المنحرفة. يقول القديس إيريناوس: “بما أن الهراطقة ليسوا في التقليد، اذاً، هم ليسوا في الكنيسة، وعلى عكس ذلك لأنهم غير موجودين في الكنيسة ليسوا في التقليد، ولا يعيشون في تيار روح الله الحيّ”.

يميّز اللاهوت الارثوذكسي بين التقليد المقدس وبين التقاليد المتعددة التي تنبع من “وصايا البشر” وعاداتهم والتي ليس لها قيمة حقيقيّة (متى 15 :9؛ اشعياء 29: 23). تقاليد الناس طارئة وليست من الإيمان، وهي، في أحسن حال، بمثابة آراء تَقوية… أما التقليد فهو كلام الله الحيّ في التاريخ الذي لا يحدّه الماضي ولا يعرف جموداً او ترداداً عقيماً.

لقد كان آباؤنا حافِظو الحقّ تقليديين، بمعنى انهم كانوا يعتبرون التقليد لقاء شخصياً بالمسيح “في الروح القدس”. وهذا ما دفعهم الى أن يواجهوا، بطريقة خلاقة، كل المشاكل والمفاسد التي عرفوها في زمانهم. يقول القديس  يوحنا الدمشقي: “لن نغيّر في الحدود الأزلية التي خطّها آباؤنا، بل نحافظ على التقليد كما تسلّمناه”. وهذا ينتظر الربُّ أن نعمله اليوم إخلاصاً له وبغية منفعة الذين يأتون بعدنا وإحيائهم. وهذا ما يمكّننا منه الروح القدس المرشد “الى جميع الحق” (يوحنا 116: 13)، والحاضر “في كل زمان ومكان”، وذلك أنه يعطي الكنيسة أن تعلن حقيقة الله بدقّة واستقامة، وأن ترشد المؤمنين الى امتلاكها والحياة بموجبها.

عن نشرة رعيتي 2000/23

arArabic
انتقل إلى أعلى