8. في الترفق بالآخرين
1. “سمعتم أنه قيل عينٍ بعين، وسنٍ بسن. وأما أنا فأقول لكم، لا تقاومُوا الشرًّ، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحِّول له الآخر أيضًا” [ع38-40]
هل رأيتم أنه لم يكن يتكلم عن العين قبلاً؛ عندما وضع الشريعة الخاصة بقلع العين المعثرة، بل عن ذاك الذي يؤذينا بصداقته ويلقي بنا في لجة الهلاك؟ فالسيد الذي يستعمل هذه القوة العظيمة للتعبير في هذا الموضع، والذي لا يسمح لك بضرب من يقلع عينك، كيف يَشرع بضرب الآخر؟
لكن إن كان أحد ما يتهم الناموس القديم بأنه يأمر بالثأر والانتقام، فهو يبدو لي بلا خبرة كافية عن حكمة المشرع، يجهل مدى الربح الذي يجنيه من التنازل. لأنه لو عرف من هم السامعون لهذه الأقوال، وكيف كانت ميولهم وهم يستلمون مثل هذه الشرائع، لأدرك على الفور حكمة معلِّم الناموس الإلهي، ولعلم أن الواحد نفسه هو الذي وضع الناموسين القديم والجديد. وأنه هو الذي كتب كليهما لنفعنا إلى أقصى درجات النفع وفي وقتها المناسب. لأنه إن كان الرب قد أدخل هذه الوصايا الفائقة السمو منذ البداية، وما استطاع الناس قبولها، لا هي ولا وصايا أخرى، لكنه شرَّعها، كل شريعة منها مفردة وفي وقتها المناسب، فقوَّم العالم كله بالناموسين القديم والجديد.
وقد أمر السيد الرب ألا تضرب عين الآخر، ليس هذا فحسب، بل أن تكف أيدينا عن ملاحقته. لأن التهديد بالألم يمنعنا كليةً أن نميل إلى هذه الأمور. لهذا يضع السيد المسيح وفي صمت بذرة ضبط النفس. على الأقل وهو يوصي بعدم الثأر لنفس الأعمال، فإن الذي بدأ بتعدٍ مثل هذا يستحق حتمًا عقوبة أشد، وهذه هي متطلبات وطبيعة العدل المجردة.
وإذ يمزج الرب الرحمة بالعدل، فإنه يدين من كانت تعدياته فادحة بالنسبة لعقوبة أقل يستحقها، ليعلمنا أنه حتى ونحن نتألم علينا أن نظهر مزيدًا من الاهتمام.
وبعد أن ذكر الناموس القديم وأقر بكل ما فيه، يشير مرة أخرى أن من فعل كل ذلك ليس أخونا بل الشرير. ولهذا يكمل قائلاً: “أما أنا فأقول لكم، لا تقاوموا الشر”، فهو لم يقل “لا تقاوموا أخاكم” بل “الشر”. مشيرًا إلى أن الناس يتجاسرون على ذلك بإيحاء من الشرير، ومن ثم فإنه يهدئ من روعنا ويزيل بطريقة سرية معظم غضبنا ضد المعتدي، بتحويله اللوم إلى آخر (الشيطان).
وقد يقال: وماذا بعد؟ ألا ينبغي علينا مقاومة الشرير؛ حقًا يجب ذلك لكن ليست بهذه الطريقة، بل كما أوصى الرب بتسليم الإنسان نفسه إلى احتمال الألم بشكل سليم. وبهذا يستطيع أن يغلبه، لأن النار لا يمكن إطفاؤها بنار أخرى، بل بالمياه نطفئ النيران. ولكي يعرِّفكم أنه في ظل الناموس القديم، من يتألم هو الذي يظفر في النهاية وينتصر ويربح الإكليل، عليكم أن تفحصوا ما تم لتروا أن ربحه كان عظيمًا. لأن من يبدأ بأعمال ظالمة، يُهلك عينيّ جاره وعينيه هو. ولهذا يكرهه الجميع، ويتهمه الكل.
أما المتضرر فلا يكون قد فعل شيئًا مروعًا، بل يتعاطف الجميع معه. حتى بعد ثأره المتعادل، ورغم أن الخسائر واحدة لدى الطرفين، إلا أن الحكم الواقع على كلٍ منهما ليس بنفس القدر، سواء لدى الله أو الناس. لهذا تبدو الفاجعة في النهاية غير متساوية.
وفي حين قال الرب في البداية: “من يغضب على أخيه باطلاً” و “من يدعو أخاه يا أحمق” يكون مستوجب نار جهنم. فإنه هنا يطالب بمزيد من ضبط النفس، فيأمر المتضرر بألا يكون هادئًا وحسب، بل أن يكون أكثر جدية بدوره بأن يحوِّل الخد الآخر. وهو لا يقول هذا بهدف تشريع وتقنين اللطمة الثانية، بل ليعلمنا كيف نمارس مبدأ احتمال الآخر في كل ظروف حياتنا. لأنه مثلما يقول:
“من يدعو أخاه بالأحمق يكون مستوجب نار جهنم”، فإنه لا يتحدث عن هذه الكلمة فقط (كلمة أحمق) بل كل كلمة خصومة أخرى. هكذا هنا أيضًا، حين يشرع قانونًا ما ليس لكي نصبح أكثر رجولة واحتمالاً إذا ما تلقينا لطمة من آخر، بل حتى لا نضطرب مهما كابدنا من آلام. لأنه يشير هنا إلى أكثر الإهانات إيلامًا وقسوة وهي لطمة الخد، والتي تسبب تحقيرًا بالغًا للمضروب. لهذا يوصى الضارب والمضروب معًا. فلا يظن المهان أنه يعاني أيّ أذى، إذ يمارس ضبط النفس، بل إنه قد لا يشعر بالإهانة، إذ يجتهد لأجل الجعالة التي ينالها بسبب اللطمة. ومن يلطم سوف يشعر بالخجل، فلا يكرر لطمته رغم أنه يكون أشد قسوة من حيوان مفترس، بل بالحري سيدين نفسه من كل قلبه بسبب ما فعله. لأنه ما من شيء يمنع فاعلي الشر أكثر من موقف المضروب حين يتلقى الضربة في رقة، بل إن رقته لا تمنع ضاربيه من الاندفاع الأهوج وحسب، بل تدفعهم إلى التوبة بسبب فعلتهم. وعندما يواجه المضروب ضرباتهم بالترفق والاحتمال فإنهم سرعان ما يتراجعون، بل يحوِّلهم رفقنا بهم إلى أصدقاء وخاصة لنا، ويصيرون خدامًا وليسوا أصدقاء فقط لنا. بدلاً من كارهين وأعداء. وبدلاً من أن ينتقم المرء لنفسه. عليه أن يفعل النقيض، لأن الانتقام يخزي الطرفين ويجعل حالهما أسوأ، ويزيد من لهيب غضبهما الذي يشتعل أكثر فأكثر. فلا ينتهي هذا الأمر إلا بالموت ويتبدل الحال من سيِّئ إلى أسوأ.
لهذا لم يحرم الرب فقط أن يغضب الإنسان إذا لُطم على وجهه، بل يشجعنا أن نُشبع رغبة الطرف الآخر، حتى لا تبدو اللطمة الأولى وكأنها ضد إرادتنا. لهذا وحتى توقعوه في خزي، لا تلطموه بالمثل بضربه بقبضتكم، حتى تجعلوه رقيقًا بعض الشيء ويصير خزيه كبيرًا.
2. “ومن أراد أن يُخاصمك ويأخُذ ثوبك. فاتُرك له الرداء أيضًا” [ع40]
فلا يقتصر الأمر على اللطمات وحدها، بل على حاجاتنا أيضًا. فهو يطالبنا بنفس الاحتمال، بل يعطينا صورة بنفس القوة وربما أكثر.
فمثلما يوصينا مثلاً بأن نقهر المعاناة، فإنه هنا يأمرنا بأن نسمح لأنفسنا أن نكون محرومين أكثر مما يتوقعه الشرير. لهذا يعطي الوصية ومعها التحفيز فلم يقل: “اعط ثوبك لمن يطلبه”، بل “لمن أراد أن يخاصمك” وحرفيا لمن أراد أن يقاضيك أمام المحاكم. أيّ الذي يجُرك إلى المحكمة ويسبب لك المتاعب. وبعد أن نصحَ ألا ندعو الآخر بكلمة أحمق وألا نغضب بلا سبب، استمر في المزيد من الإرشاد والطلب: إذ أمر أن نسلم الخد الآخر أيضًا. حتى هنا وبعد أن قال: “كن مراضيًا لخصمك” يعمق من مفهوم الوصية؛ إذ لا يأمرنا أن نقدم للآخر ما يطلبه منا، بل أن نظهر مزيدًا من العطاء والتسامح. وقد يقول قائل وماذا بعد، هل أترك له كل شيء وأمشي عريانًا؟ أبدًا، لن نكون عراة إذا أطعنا هذه الوصايا بكل أمانة، بل بالحري سوف نرتدي أوفر وأكثر مما يرتديه الآخرون.
أولاً: لأن أحدًا لا يهاجم أصحاب الميول الصالحة.
ثانيًا: حتى وإن تصادف وجود أحد بهذه الوحشية والغلظة، فتمادى في الإساءة إلينا، فإن كثيرين سيهرعون لنجدة وستر المعتدَى عليه، إذا رأوه لا يزال يسلك في إنكار ذاته. فلا يكسونه بملابسهم فقط، بل بأجسادهم أيضًا إن أمكن. وحتى لو اقتضت الضرورة أن يمشي الإنسان عريانًا في إنكار ذاته، وألحقه خزي من جرّاء ذلك. فإن آدم أيضًا كان عريانًا (تك 2: 25) في الفردوس “ولم يخجل”. ويوسف كذلك (تك 39: 12) حينما ترك ثوبه وهرب عريانًا كان يسطع ببهاء أعظم. لأن العري ليس شرًا. إذ كان إشعياء أيضًا عريانًا حافي القدمين، ولكنه كان أكثر مجدًا من كل اليهود (إش 20: 2-3).
لكن إن كنا نكتسي مثلما نفعل الآن بأغلى الثياب ثمنًا، نجلب على نفوسنا خزيًا وسخفًا. لهذا ترون أن أولئك أخذوا من الله مجدًا، أما هؤلاء فقد أظهر الأنبياء والرسل خزيهم.
فلا نظن أن وصايا الرب ثقيلة ومستحيلة، كلا، فهي بجانب منفعتها سهلة جدًا، إن تحلِّينا برصانة العقل، نجني من وراءها ربحًا عظيمًا، فهي خير عون لنا، ليس لنا فقط بل للذين يسيئون معاملتنا. هنا يكمن سموها، فهي إذ تحثنا على تحمل الصعاب والمضايقات، فإنها في نفس الوقت أيضًا تعلم الخطاة أن يضبطوا أنفسهم. بينما يظن الذي يسلب الآخرين أشياءهم أنه يصنع عملاً عظيمًا. يراك وأنت تعطيه ما لم يطلبه منك، فتقابل خسته بسخائك، وشراهة طمعه باعتدالك ولطفك. فأيّ درس تراه يتعلمه منك؟ فهو لا يتعلم بكلام مجرد، بل بذات الأفعال حينئذٍ يحتقر الرذيلة ويسعى للفضيلة. لأن الله يريدنا أن نكون نافعين لا لذواتنا فحسب، بل لكل جيراننا أيضًا. فإن أعطيت الآن وامتنعت عن مقاضاة الآخرين، فإنك تفيد نفسك فقط. لكن إن أعطيته شيئًا آخر غير الذي طلبه منك، فإنك تجعله في حال أفضل حينما يرحل عنك. هذه هي طبيعة الملح الذي يريدنا الرب أن نكونه، فهو يصلح ذاته، ويحفظ أيضًا المواد الأخرى التي تُملِّح بها. وهذه هي طبيعة النور، فهو يكشف كل شيء، لنفس الإنسان ولنفوس الآخرين أيضًا. فإن وضعكم السيد المسيح في هذه المرتبة، اعينوا الجالسين في الظلمة. وعلموا الغاصبين، واقنعوهم أن يأخذوا منكم دون عنف. وهكذا تصيرون أنتم أنفسكم أكثر احترامًا ووقارًا؛ إن أظهرتم للناس أنكم تعطون بمحض إرادتكم ومجانًا، لا بالاغتصاب والسرقة. اجعلوا إذن من خطية الآخر فرصة لنفعكم وخيركم وذلك بلطفكم واعتدالكم.
3. وإن كنتم تظنون أن هذا عمل عظيم، تريَّثوا وسترون أنكم لم تبلغوا بعد حد الكمال، فالسيد الرب لا يكتفي بهذا القدر. فالذي شرَّع نواميس التحمل والصبر وطول الأناة يقول أيضًا: “من سخَّرك ميلاً فاذهبْ معهُ اثنينِ” [ع41]
هل ترون سمو إنكار الذات، على الأقل بشأن هذا الأمر، فبعد أن تعطي ثوبك ورداءك، وحتى إن طالبك عدوك بأن يسخر جسدك العاري في المشقات والصعاب، فلا تمنعه. لأن الرب يعطينا أن نملك كل شيء مشتركًا، أجسادنا وأغراضنا مع ذوي الاحتياجات. وهكذا أيضًا مع الذين يلحقون الإهانة بنا، لأن الرجولة تلزمنا بذلك تجاه من يسبب الأذى لنا، وتدفعنا الرحمة أن نهتم بكل ذي حاجة. ولهذا يقول:
إذا ألزمك أيّ أحد أن تسير معه ميلاً، فاذهب معه ميلين. هكذا يرفعكم الرب إلى درجة أخرى أعلى، فيأمركم أن تظهروا قدرًا وافرًا من التضحية والبذل.
وإن كانت الأمور التي تحدث عنها مثلاً هي أقل سخاءً من ذلك، ولها كل هذه البركات الوفيرة، فكم بالأحرى يكون نصيب الذين يتممون تلك الوصايا الجديدة، وما حالهم بعد نوالهم المكافآت في جسد بشري قابل للتألم، إذ ينال حرية كاملة من الشهوة والتألم. إذ لا تؤثر فيه لا الإهانات ولا اللطمات ولا سلب ممتلكاته ولا التحرش به. فأصحاب الأجساد صاروا يتجاوزون تلك الأمور، بل ويحتملون أكثر منها. هكذا يعكسون نوعًا من مرونة النفس التي يمارسونها عمليًا. ومثلما هو الحال مع الضربات وما نحوزه من خيرات، هكذا أيضًا في مثل هذه الحالة، يأمرنا الرب قائلاً:
لماذا أتحدث عن الإهانة والممتلكات، فرغم أن خصمك يريد أن يستغل أعضاءك في المشقة والعمل المضني بغير حق، يمكنك أن تقهر شهوته الظالمة تلك وتغلبها. لأن كلمة “يسخرك” أو “يلزمك” تعني أن يجبرك دون حق ودون سبب، فقط لغرض قهرك.
ومع ذلك، كن مستعدًا أيضًا لهذا الاحتمال، واستعد أيضًا لمزيد من الألم أكثر مما يميل الآخرون إلى دفعك وإيلامك. فاعطه رداءك أيضًا، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك، فلا ترده (مت 5: 42). وهو مطلب أقل كثيرًا مما سبقه، فلا تتعجبوا؛ لأن هذا ما يريده الرب منا على الدوام أن نمزج القليل مع الكثير، فإن بدا هذا الأمر قليلاً بالمقارنة بغيره من عظائم الأمور، فليسمع المغتصبون لخيرات غيرهم، والمبددون لثرواتهم بين الساقطات ليوقدوا في أنفسهم نارًا أعظم بسلوكهم غير التقي، وبالإنفاق الضار بهم.
وكلمة “يقترض” هنا لا يعني بها الرب سوء استخدام المال في الربا، بل حتى في الاستعمالات اليومية أو الإقراض العادي بغير مرابحة – ليعمق من الوصية – قائلاً: إنه ينبغي أن نعطيهم دون أن ننتظر منهم أن يردوا لنا ما اقترضوه (لو 6: 35).
9. محبة أعدائنا وكمال الخصال
4. “سمعتُم أنه قيل تُحبُّ قريبك وتُبغضُ عدُوَّك. وأما أنا فأقول لكم: احبُّوا أعداءكُم، باركُوا لاعنيكُم، احسُنوا إلى مُبغضيكم. وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطرُدونكُم، لكي تكونوا أبناء أبيكمُ الذي في السماوات. فإنه يُشرقُ شمسهُ على الأشرار والصالحينَ، ويمطرُ على الأبرار والظالمينَ” [ع43-45]
هنا يكشف الرب عن ذروة العمل الصالح، لهذا لا يعلمنا فقط أن نحتمل اللطمة، بل أن نحوِّل الخد الآخر أيضًا، ولا أن نعطي الثوب فقط، بل أن نسلِّم الرداء أيضًا، وأن نمشي ميلين مع من يسخِّرنا لنمشي معه ميلاً واحدًا، لكي نقبل في سهولة ما هو أعظم من ذلك من صعاب ومتاعب. ورُبّ قائل: ولكن ما هو المطلوب أكثر من ذلك؟
المطلوب، ألا نحسب من يفعل شرًا ضدنا بأنه عدونا، بل من يفعل ما هو أصعب. فالمسيح لم يقل: “لا تكره”، بل “أحب” ولم يقل “لا تجرح مشاعر أحد”، بل قال “احسن إليه”. وإذا فحص أحدكم أقوال الرب جيدًا، لوجد أنه أضاف شيئًا آخر أعظم بكثير مما سبق؛ فالسيد الرب لم يطلب هكذا ببساطة أن نحب الآخر بل أن نصلي لأجله، ليرفعكم إلى درجات أعلى ونضعها على قمة كل الفضائل. أجل، وما عليكم إلا أن تلاحظوها وأن تحسبونها منذ البداية.
فالخطوة
الأولى: ألا نبدأ نحن بالظلم.
الثانية: ألا نقابل الخطأ بخطأ وألا نثأر بانتقام موازٍ.
ثالثًا: ألا نعامل من يضرنا بنفس المعاملة، بل أن نهدأ تمامًا.
رابعًا: أن نبذل ذواتنا لأجل من يخطئ إلينا.
خامسًا: أن نعطي أكثر مما يطلب الآخر أو يعطي.
سادسًا: ألا نكره من يفعل بنا شرًا.
سابعًا: أن نحب هذا الآخر.
ثامنًا: أن نحسن إليه أيضًا.
تاسعًا: أن نصلي لأجل من يسيء إلينا.
أترون سمو هذه الوصية للنفس؟ وسترون عظم مجازاتها لنا؛ إذ أنها وصية عظيمة تتطلب نفسًا متوقدة تتحلى بكل الحمية والجهاد. لهذا يعيِّن الرب لها هذه المكافأة، والتي لم تتوفر لأحد من قبل. فهو لا يتحدث هنا عن ميراث أرضي مثلما هو الحال عند الودعاء، ولا عن الراحة والرحمة، مثلما هو الحال للحزانى والرحماء. ولا يتحدث عن ملكوت السماوات، بل تكلم عن أمر أروع من هذا كله، أن نصير مثل الله.
وهذه هي الحكمة المطلوبة من كل الناس، وهذا هو المطلوب منهم أن يتمثلوا به. لأن الكتاب يقول: “لتكونوا مثل أبيكم الذي في السماوات” (ترجمة حرفية).
لاحظوا كيف أن الرب لم يدعَ الله أباه، لا في هذا الموضع ولا في مواضع أخرى سابقة، بل دعاه “الله” و “الملك العظيم” حين تناول وصية القسم. أما هنا، فهو يدعوه “بأبيكم” وهو يفعل ذلك حافظًا “باقي” الأمور لوقتها المناسب حين يعلمنا شيئًا منها.
5. وإذ يقترب من الشبه كثيرًا يقول:
“فإنه يُشرقُ شمسهُ على الأشرارِ والصالحينَ، ويمطرُ على الأبرارِ والظالمين” [ع45]
فإن الله الآب – حاشا له أن يعرف الكراهية لأحد – فيمطر خيراته على الذين يسيئون إليه، والحالة هنا لا مثيل لها أبدًا. ليس فقط بسبب الطبيعة الفائقة لخيرات الله الآب نحو الجميع، بل بسبب السمو الفائق لكرامة الله. لأنكم قد تُهانوا حقًا من خدامكم الذين تشتركون معهم في العبودية لله. لكن ماذا من الله حين يُهان من عبيده، وهم الذين يعطيهم بسخاء منافع لا حد لها. وأنتم لا تقدمون في صلواتكم إلا كلمات، أما الله فيقدم أفعالاً عظيمة وعجيبة جدًا للغاية؛ إذ يشرق شمسه وينزل مطره. ويقول لنا الآب:
“ومع ذلك فإني أهبكم أيضًا أن تتشبهوا بي، بقدر ما يمكن للإنسان أن يكون مساويًا لي”
فلا تكرهوا حتى من يسيء إليكم، فهو يفعل خيرًا معكم، ويهبكم كرامة عظيمة. ولا تلعنوا حتى من يلعنكم، لأنكم إن لعنتم حرمتم أنفسكم من الثمار العظيمة. وتكبدتم خسارة جسيمة، وخسرتم الجعالة العليا بسبب حماقتكم. فبعد أن تكبدتم ما هو أكثر إيلامًا لا تحتملون ما هو أقل من ذلك.
ورُبّ قائل: وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ لقد علمتم أن الله صار إنسانًا، وتنازل تنازلاً عظيمًا، وتألم كثيرًا لأجلكم، فهل لازلتم تتسائلون وتشكون في الأمر؟ وكيف يمكنكم أن تغفروا لجيرانكم آثامهم؟ ألا تسمعونه وهو على الصليب يقول:
“اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34). ألم تسمعوا بولس الرسول يقول: “الذي ارتفع إلى يمين الله في الأعالي. الذي أيضًا يشفع فينا” (رو 8: 34).
ألا ترون أنه حتى بعد الصلب والقيامة والصعود، يرسل الرسل إلى اليهود الذين صلبوه، ليمنحهم وافر وسخى بركاته (بالعشرة آلاف)، رغم أن رسله قد عانوا على أيدي اليهود أهوالاً بغير حصر (فاقت العشرة آلاف أيضًا)؟
6. ولكن هل أساء الناس إليكم إساءة فادحة؟ كلاَّ، فما تحملتمونه أنتم لا يرقى إلى ما تحمله ربكم، الذي جُلد بالسياط على ظهره، وضُرب بالقصبة على رأسه وجسده، وبَصق عليه العبيد والخدم، واحتمل الموت، وذاق أكثر الميتات خزيًا وعارًا، بعد أن أظهر لنا نعمًا بغير حصر؟
حتى وإن أساء إليكم الناس أشد إساءة، فلهذا السبب عينه، احسنوا أنتم إليهم، ليصير إكليلكم أكثر مجدًا. ولتحرروا أخاكم من أثقل أنواع الشعور بالدونية. لأنه هكذا يفعل الأطباء، إذا لطمهم أحد المجانين وأساء إليهم بشكل يبعث على الخزي، فإنهم يشفقون عليه جدًا، ويسعون إلى إكمال علاجه، عالمين أن الإهانة صادرة منهم بسبب شدة أمراضهم.
وأرجوكم أن يكون لكم نفس الفكر حينما تتعاملون مع المتآمرين ضدكم، والمسيئين إليكم، والذين يضرونكم، فإن من يتعاملون بمنتهى العنف معكم هم أكثر الناس مرضًا. فحرروهم أنتم من حالهم المؤلم وامنحوهم أن يبددوا غضبهم، وحرروهم من قيود الغضب، التي يكبلهم بها الشيطان الكريه. أجل، لأننا إن رأينا أشخاصًا بهم شياطين، نبكي لأجلهم، ولا نسعى أن نكون مثلهم فيدخلنا الشياطين.
وهكذا فلنفعل مع الذين يتملكهم الغضب، لأن الهائجين غضبًا يشبهون الممسوسين بالشياطين، بل هم أقسى منهم، إذ يهتاج ضميرهم المجنون، ولهذا فإن هياجهم بلا عذر. فلا تدوسوا على الساقطين، بل بالحري ترفقوا بهم وأشفقوا عليهم. لأننا حين نري إنسانًا يتخبط من داء عضلي، وقد عميت بصيرته وانفلتت أعصابه ونسعى لطرد هذا الروح المستهتر والشرير، نمد أيدينا ونظل نعينه على جهاده. ورغم تلطيخ ثيابنا، فلا نهتم بل نسعى وراء شيء واحد فقط، هو أن نحرره من هذا الداء الثقيل.
هكذا أيضًا علينا أن نفعل حيال الغضب، فنتحملهم حين يتقيأون وحين يصارعون المرض، ولا ندع المصروع يمضي حتى نخلصه من كل أثر للمرارة عنده. حينئذٍ نشعر بمنتهى الامتنان والشكر من نحوه حين يستريح، وحين يعلم كيف حررتموه من كل ما حل به من متاعب.
ولكن لماذا أذكر امتنانه وشكره لكم؟ لأن الله سيكللكم بنفسه، وسيجازيكم بكرامات لا حدود لها. لأنكم حررتم أخاكم من مرضه الخطير، وهذا الأخ سيكرمكم أيضًا، ويقدر احتمالكم له ويوقره. ألم تروا النسوة حين يأتيهن المخاض، وكيف ينشبن أسنانهن فيمن حولهن، فلا يُظهر المساعدون ألمًا بل يتحملون، وحتى لو تألموا منهم يحتملون الألم ببسالة ويتعاطفون مع الذين يسحقهم الحزن وتمزقهم الآلام. عليكم أن تتفوَّقوا على هؤلاء، وتبرهنوا أنكم رجال متميزون، فإن ثمة رجالاً يظهرون أضعف عقلاً من النساء.
وإن كانت الوصايا تبدو ثقيلة، فاعلموا أن المسيح قد جاء لهذه الغاية؛ أن يزرع في عقولنا وصاياه، وأن يجعلنا نافعين للأعداء وللأصدقاء. ولهذا يوصينا أن نهتم بالإخوة، مثلما قال: “إن قدمت قربانك”. ويوصينا بالأعداء – حينما يشرِّع قانونًا – بمحبتهم والصلاة لأجلهم.
7. والرب لا يحثهم على هذا فقط بواسطة المثال الذي يعرفونه عن الله، بل يحدثهم عن أمر آخر مناقض. فيقول: “لأنه إن أحببتُم الذين يحبونكُم فأيَّ أجر ِلكم؟ أليس العشَّارون أيضًا يفعلُون ذلك؟” (مت 5: 46).
وهذا ما يقوله بولس الرسول أيضًا. “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4). فإن فعلتم ذلك اتخذتم مركزكم مع الله، وإن لم تفعلوا، صرتم كالعشَّارين. فهل ترون كيف أن المسافة بين الوصايا ليست بهذا الاتساع، كالفارق بين الأشخاص؟ لهذا فلنكف عن وصف الوصايا بأنها ثقيلة، بل نهتم بالمجازاة، ونفكر فيمن نشبه، إن نحن أقمناها كما يجب وفي حينها، وفيمن نساوي إن تنحِّينا عنها.
فإن كان الرب يأمرنا أن نتصالح مع أخينا، وألا نكمل عملنا حتى نزيل العداوة بيننا، فإنه لم يفرض علينا هذه الضرورة حين تحدث عن الأشخاص عمومًا، بل طالبنا بما نحن مسئولون عنه من جهتنا. وبهذا يسهل علينا الناموس. لأنه بمقدار ما قال إنهم “اضطهدوا الأنبياء الذين قبلكم” ليتحول ميلهم إلى الآخرين إلى حسن الحوار بتأثير هذه الكلمات، فإنه يأمرهم أن يحبوهم أيضًا مع احتمالهم لأفعالهم ضدهم.
8. أترون كيف يقتلع جذور الغضب وكيف ينتزع الشهوات الحسية، ومحبة الغنى والمجد الباطل، وكل ما يخص أمور هذه الحياة؟ لهذا فعل كل شيء من بدايته وها هو يفعل المزيد الآن: فالمسكين والمتواضع والحزين يفرغ نفسه من غضبه، والبار والرحيم يفرغ نفسه من شهوة الغنى، والنقي القلب يتطهر من الشهوات الشريرة. والمضطهد والمتألم بسبب الشتائم وأقوال الشر، يمارس في الحقيقة احتقارًا كاملاً لكل أمور الزمان الحاضر، ويتحرر من الكبرياء والمجد الباطل.
وإذ يفرغ السيد الرب من تحرير السامع من تلك القيود، وبعد أن يمنحه استعدادًا للنزال والمعارك، فإنه ينتزع جذور شهواته بمزيد من الحزم، لأنه إذ بدأ بالغضب واستأصل أوتار الشهوة من كل جانب، بقوله “من يغضب على أخيه” و”من يدعوه يا أحمق” أو “رقًا” فليُعاقب. ومن يقدم قربانه عليه ألا يقترب من المذبح قبل أن يزيل العداوة مع أخيه، ومن له خصم وقبل أن يدخل المحكمة، عليه أن يجعل من عدوه صديقًا. فإنه ينتقل إلى موضوع الشهوة مرة أخرى ليقول “كل من ينظر نظرة شهوانية يُعاقب كزانٍ” وكل من تغويه امرأة شهوانية أو رجل شرير أو شيء آخر، فليقطع عنه كل هؤلاء. ومن عنده زوجة شرعية لا يطلقها أبدًا، ولا ينظر إلى أخرى، فإنه بذلك يستأصل جذور الشهوات الشريرة. ثم يمنع محبة الغنى فيأمر ألا يحلف المرء أو يكذب، أو يحتفظ بثوب يطلبه منه آخر، تصادف أننا نرتديه، بل أن يعطيه الرداء أيضًا (المعطف فوق الثوب)، وأن نسعى لخدمة حاجات الناس المادية فلا نشتاق أبدًا إلى الغنى والثروة.
عندئذٍ يبلغ ذروة العقل، وقمة الوصايا فيقول: “صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم”، ليقودنا إلى قمة ضبط النفس. أن يكون الإنسان وديعًا لا يساوي أن يتلقى الركلات والضربات، وأن يكون رحيمًا، لا يعادل إعطاءه ثوبه والرداء أيضًا لمن يطلب. ويكون الإنسان بارًا لا يتساوى مع احتمال الضرر والأذى. ولا كون الإنسان صانع سلام يعادل أن يتعايش مع الآخر الذي يلطمه ويقهره. ولا كون الإنسان مضطهدًا يساوي أن يبارك مضطهديه. هل ترون كيف يقودنا الرب بالتدريج إلى قمم أعتاب السماء؟
9. ماذا نستحق إذن، نحن الذين أوصانا أن نتمثل بالله، بينما نحن نشبه العشَّارين؟ لأنه “إن كنا نحب من يحبنا” فإننا نلعب دور العشَّارين والخطاة والوثنين. فكم وكم إن كنا حتى لا نفعل ذلك، بل نحسد إخوتنا المكرمين. فأية عقوبة لن نتعرض لها، ونحن قادرون أن نفوق الكتبة. بينما نحن أدنى من الوثنين كيف لنا إذن أن نعاين الملكوت؟ أرجوكم، كيف نطأ تلك العتبة المقدسة ونحن لم نعرف كيف نتفوق على العشَّارين، إذ أن هذا ما لمَّح إليه السيد سرًا قائلاً:
“أليس العشَّارين أيضًا يفعلون ذلك”؟ وهذا ما يثير إعجابنا بتعليمه بوجه خاص، إذ يعرض في كل جزئية تلك المكافأة العظيمة جدًا في وقت الضيقة، مثل “معاينة الله” و “ميراث ملكوت السماوات” و “صيرورتنا أولاد الله” و “مماثلتنا بالله” و “نوال الرحمة” و “التعزيات” و “المجازاة العظيمة” في كل مرة يذكر فيها الضيقات الشديدة. وهو يفعل ذلك بنبرة لطيفة، ففي المقام الأول، ورواسم الجحيم، مرة واحدة وحسب، في أكثر من حالة، وفي حالات أخرى أيضًا، كان يهذب سلوكيات السامع في تحفظ، وكأنه يلقي عظته وحديثه بإثارة مشاعر الخجل لدى السامع وليس بالتهديد، حين يقول:
“ألا يفعل العشَّارون ذلك؟” و”إذا فسد الملح” و “يدعى الأصغر في ملكوت السماوات”.
وهناك مواضع يسحق فيها الخطية نفسها بحزم في إظهار العقوبة، تاركًا السامع يقدر مدى فداحة هذا العقاب، مثلما يقول “فقد زنى بها في قلبه” و”يجعلها تزني” و “ما زاد على ذلك فهو من الشرير”. لأن الفاهمين لا يحتاجون أن يذكرهم أحد بالعقوبة. إذ تكفي فظاعة الخطية وانعدام الصلاح. لهذا يذكر العشَّارين والأمم. واصفًا التلميذ في حالة من الخجل من هذا الصنف من الناس، وهذا ما يفعله بولس الرسول أيضًا، قائلاً: “لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم” (1 تس 4: 13). و “كالأمم الذين لا يعرفون الله” (1 تس 4: 5). ولكي يشير إلى ذلك لا يحتاج السيد المسيح إلى شيء فائق جدًا في قوته، بل إلى أكثر قليلاً من المعتاد، إذ يقول: “ألا يفعل الأمم ذلك” (مت 5: 47). ومع ذلك، فهو لم يوقف العظة عند هذا، بل ختمها بحديثه عن المجازاة التي يهبها لنا. وعن هذه الآمال الصالحة قائلاً: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل” (مت 5: 48). وهو يثير في كل مكان وبوفرة اسم السماوات، بقصد أن يرفع من عقولهم بشكل كامل. والذي لا أفهمه حتى الآن لماذا كانوا هكذا ضعفاء وأغبياء.
10. فلنتفهم كل ما قيل، ولنظهر كل الحب لأعدائنا. ولنطرح عنا تلك العادة السخيفة، التي يخضع لها الذين بلا تفكير منتظرين من يقابلهم أن يبدأهم أولاً بالتحية، وليست لديهم أية غيرة نحو تلك العادة التي لها بركة كبيرة. لكنهم يتبعون ما هو سخيف. لأنه لأي سبب لا تبدأون بتحية الآخر؟ ويكون ردكم “لأنه ينتظر منا أن نفعل ذلك” كلا، فهذا عذر واهٍ وضعيف. وعليكم أنتم أن تبدأوا بمخاطبة الآخر من أجل ربح الإكليل المُعَدّ.
ورُبّ قائل: كلا، فإن هذا هو ما يهدف إليه. فهل هناك أسوأ من هذه الحماقة؟ أن يقول إن هذا هو ما يهدف إليه، أن يهدف إلى نوال الإكليل كحافز لي. إنني لن أصافح مثل هذا الاقتراح، فإن كان هو الذي بدأ بتحيتك، فلن تجني شيئًا، حتى وإن بادرت أنت بالكلام وتخاطبت معه بعدها. لكن إن كنت أول من يبادر بتحيته والحديث إليه، فقد استفدت وربحت من كبريائه، وحصدت ثمارًا عظيمة وعديدة من جرَّاء امتناعه هو عن الحديث إليك.
أية غباوة تلك، إن كنا نجني ثمارًا عظيمة لمجرد النطق ببضع كلمات، ولا نفعل فنفقد الربح. وعوضًا عن ذلك ندين الآخر فنقع في نفس خطيئته. لأنك إن كنت تلومه على تقصيره في تحيتك أولاً، فلماذا تفعل أنت نفس الشيء الذي تتهمه به؟ فلماذا تحاكي الشر وكأنه شيء صالح؟ ألا ترى أن الحماقة هي أن تكون لك شركة مع الشر؟ لهذا أرجوكم أن تهربوا من هذا الشر وهذا السلوك المعيب. فإن معظم الصداقات قد اتخذت هذه المسائل فتسببت في عداوات بلا حصر.
لهذا السبب إذن فلنسبق الآخرين في فعل الخير، فالذين يوصيهم الرب أن يتلقوا الضربات ويقبلون السير أميالاً، ويجردون أنفسهم من ثيابهم على أيدي أعدائهم، ويحتملون كل ضيقة، لا يليق بهم أن يتورطوا في هذا الفعل الشائن؛ فيحجمون عن مخاطبة الآخرين أولاً.
11. ورُبّ قائل: لماذا نقبل الاحتقار والبصق علينا، لحظة قيامنا بهذا الإحساس نحو الآخر؟ هل تخالف الله حتى لا يحتقرك إنسان؟ وحتى إن احتقرك جار مختل عقليًا، فهل تزدري أنت بالرب الذي وهبك هذه المنافع العظيمة؟ كلاَّ. فإن كان من الخطأ أن يحتقرك نظيرك، فكم يكون أشد مرارة أن تحتقر أنت الإله الذي خلقك؟
وعلينا أن نتأمل نقطة أخرى، أنه حين يحتقرك جارك، فإنه في نفس اللحظة عينها يدبر لك فرصة نوال جائزة أعظم، لأنك تخضع لله وتسلم له ذاتك، لأنك تسمع وصاياه. فأية كرامة يعادلها هذا الأمر؟ ويا لها من أكاليل كثيرة نستحقها إذا ما قبلتُ أنا أن يزدري بي الآخرون لأجل الله عن أن يكرِّمني كل ملوك الأرض. فلا شيء يعادل هذه الكرامة. فلنسع وراء هذه الوصية مثلما أوصانا الرب بحكمة فلا نهتم بأمور الناس، بل نضبط أنفسنا في كل شيء ونوجه حياتنا نحو هذا الهدف. لأننا منذ الآن، ومنذ هذه اللحظة، سننعم بالخيرات السماوية وبالأكاليل العلوية، فنسلك كملائكة بين الناس، متجولين في الأرض كقوات ملائكية، ممتنعين عن كل شهوة، ومن كل التواء، فننال مع كل ما نلناه بركات لا ينطق بها. يعطينا أن نحصل عليها بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة والتسبيح مع الآب غير المخلوق والروح القدس الصالح الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين كلها آمين.