Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

15. الثروة

“لا يقدرُ أحد أن يخدم سيدين؛ لأنه إما أن يُبغض الواحد ويُحبّ الآخر، أو يُلازم الواحد ويحتقر الآخر” [ع24].

أترون كيف يتدرج في إبعادنا عن الأمور التي لدينا الآن، ويقدم ما يريد قوله على فترات طويلة، فيتحدث عن الفقر الإختياري أو الإرادي، ويطرد سلطان شهوة الجشع، لأنه لم يكتفِ بما قاله قبلاً، رغم كثرته وعظمته، بل يضيف أيضًا أقوالا أخرى، كإنذارات مزيدة.

لأنه ماذا يكون أكثر إنذارا مما يقوله الآن، إن كنا نحن حقًا وبسبب غنانا وثرواتنا نبتعد عن خدمة المسيح، أو ما الذي يمكن أن نشتهيه أكثر. إن كنا حقًا باحتقارنا للثروة نوجه حبنا وعواطفنا إليه لتصبح محبتنا له كاملة. وأعود فأكرر وأقول نفس الشيء، إن المسيح يضغط على السامع بكلا الوسيلتين ليطيع كلامه، وكطبيب ماهر للغاية، يشير إلى المرض الناجم عن الإهمال، كما يشير إلى الصحة الناتجة عن الطاعة.

 تأملوا مثلاً، نوع الربح المشار إليه وميزته بأن يتخلص الإنسان من أمور مضادة، فيقول الرب: إن الثروة لا تؤذيكم في هذا فقط، بل هي تثير اللصوص ضدكم أيضًا، وتعتم ذهنكم إلى أقصى حد، وتقصيكم عن خدمة الله، فتحولكم إلى أسرى ثروات ميتة، وهي في كلا الحالتين تضركم. فهي من جهة تجعلكم عبيدًا لا أسيادًا يأمرون الآخرين، ومن جهة أخرى تطرحكم بعيدا عن خدمة الله، الواجبة خدمته قبل الجميع.

 ومثلما أشار في موضع سابق عن مضاعفة سوء التدبير حيث “يَفسد السوس” هنا على الأرض، بينما لا يحدث هذا هناك، حيث الحراسة منيعة لا يمكن اختراقها. هكذا هنا أيضًا، يظهر مضاعفة الخسارة حيث نبعد عن الله وتجعلنا الثروة عبيدًا لمال الظلم (mammon). لكنه لا يعرض الأمر مباشرة، بل يؤسس تعليمه على اعتبارات عامة، قائلاً: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، وهو يتحدث عن أمرين متناقضين لأنه لو لم يكن هناك تضاد، لما تحدث عن اثنين، بعكس ما قيل: “كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع 4: 32). فرغم أنهم منقسمون إلى أجساد عديدة، إلا أن اجتماعهم واتفاقهم قد جعل الكثيرين واحدا.

 وإذ يريد الرب أن يدعم شرحه يقول إن من يخدم سيدين، يكره ويبغض، بدلاً من أن يخدم، “لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الأخر”، موضحًا أن التغيير للأفضل أمر سهل، لئلا يقول قائل “لقد صرت عبدًا إلى غير رجعة، لقد أصبحت تحت سيطرة الثروة” مؤكدًا أن الإنسان يمكنه التغيير من حال إلى حال.

2. وكما ترون، وإذ يتحدث بشكل عام، ليقنع سامعه أن يكون قاضيًا نزيهًا على كلمات السيد الرب، وأن تحكم بطبيعة الأشياء ذاتها حين يتيقن من صدقه، حينئذ وليس مثل هذا الوقت يكشف السيد نفسه قائلاً:

“لا يمكنكم أن تخدموا الله والمال” [ع24].

فلنرتعد ونحن نتأمل هذا الأمر، ونفكر ما الذي جعل المسيح يقول ذلك، وكيف يضع المال مع اسم الله. لكن إن صدمنا هذا الأمر، فإن حدوثه في أعمالنا وتفضيلنا لطغيان الذهب على مخافة الله، هو أمر يصدم أكثر بكثير. ماذا إذن؟ ألم يكن هذا ممكنا بين القدماء؟ أجل دون شك، ورُبّ قائل: كيف حصل إبراهيم إذن على شهرة طيبة، وكيف نالها أيوب. لا تخبرني عن الأغنياء بل عن الذين يخدمون المال والثروات. فإن أيوب كان غنيًا، لكنه لم يخدم مال الظلم، بل تملكه وتحكم فيه، وكان سيدًا لا عبدًا، لهذا اقتنى كل شيء وكأنه وكيل لأملاك شخص آخر، وهو لم يكن يسلب الآخرين، بل كان يعطي المحتاجين من ماله الخاص. والأكثر من ذلك، إنه حين توفرت لديه الثروات لم تكن مصدر فرحه، “ما فرحتُ إذ كثُرت ثروتي” (أي 31: 25). ولهذا أيضًا لم يحزن حين ضاعت ثروته.

 لكن أغنياء هذه الأيام ليسوا مثل أيوب، بل بالحري هم في حال أسو من حال العبيد، وكأنهم يدفعون الجزية لطاغية جبَّار، وكأن ذهنهم قلعة مشغولة بمحبة المال، تبعث إليهم بأوامرها من هناك يوميًا، ملآنة إثمًا، ولا يقوى أحد على مُخالفتها.

 لهذا لا تكونوا معاندين بزيادة، لأن الله أعلن مرة وإلى الأبد ونطق أنه من المستحيل على الإنسان أن يوفق في خدمة سيدين. فإن قلتم لا بل هذا ممكن، فلماذا تقولون ذلك وأحد السيدين يأمركم أن تسلبوا حقوق الآخرين بالعنف. بينما يطالبك السيد الآخر أن تجرد نفسك من حب القنية، الأول يطالبك أن تكون عفيفًا، والثاني أن تكون سكيرًا مترفًا. واحد يأمرك أن تحتقر الموجودات بينما يجذبك الآخر إلى الأمور الحاضرة. واحد يأمرك أن تحتقر المصنوعات الرخامية والحوائط والأسقف والآخر أن تُعجب بها. فكيف لهذين الاثنين أن يتفقا؟.

 ويدعو المسيح هنا مال الظلم بالسيد، لا بسبب طبيعة المال بل بسبب تعاسة الذين ينحنون أسفله. وهكذا أيضًا يدعو البطن إلهًا (في 3: 19). ليس بسبب كرامة هذا العضو، بل بسبب بؤس المستعبدين للبطون والأكل. وهو أمر أسوأ من أي عقاب، ومن يقبل العقاب طريقًا للانتقام يسقط هو فيه. لأن حال المجرمين المدانين حال سيِّئ، الذين إذ كان الله لهم ربَّا، بسبب توافه الأمور يهجرونه إلى طغيان المادة الخطير، فيجلب عملهم عليهم منتهى الأذى – هنا في الزمان الحاضر – فيعانون من القضايا والانتهاكات والمضايقات والأتعاب، التي تعمي النفوس وتكون خسارتهم فائقة. والأخطر من ذلك كله، أن يسقط الإنسان عن البركات الغالية، وأعظمها بركة خدمة الله.

16. هموم الحياة والثقة في الله

3. بعد أن علَّم السيد الرب بكل الطرق فوائد احتقار الثروات، وكيفية حفظها بشكل جيد، واكتساب صفة ضبط النفس للمسرة والمداومة على الصلاح. يتقدم لتأسيس الجانب العملي للوصية؛ إذ أنها تخص أفضل تشريع، ليس فقط فيما يتصل بما هو نافع، بل أن يجعله أيضًا ممكنًا. لهذا يقول: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون” لئلا يقول قائل: ماذا إذن؟ هل إن أقصينا عنا كل شيء يمكننا أن نعيش؟ وللرب وقفة مع هذا الاعتراض تأتي في حينها. إذ يقول منذ البداية “لا تهتموا”- وقد يبدو الكلمة ثقيلة بعض الشيء- لكنه من المؤكد أوضح سوء التدبير الناجم عن الجشع، فجاءت نصائحه بعد أن جعل أمر استقبالها سهلاً، لهذا لم يقل “لا تهتموا” وحسب بل أضاف المسبب في أمره هذا. وبعد أن قال “لا تقدروا أن تخدموا الله والمال” أضاف “لذلك أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم”. فلماذا يطلب ذلك؟ لأن الخسارة لا توصف، والثروة لا تلحق لكم الأذى وحسب، بل إن جرمها يصيب أكثر الأجزاء حيوية، وتعطل خلاصكم إذ تطرحكم بعيدًا عن الله خالقكم والمعتني بكم والذي يحبكم. لهذا أقول: “لا تهتموا”.

وبعد كشفه لفداحة الضرر الذي لا يمكن وصفه، حينئذٍ يجعل الوصية أكثر صرامة. فهو لا يأمرنا فقط أن نطرح ما نملكه، بل يمنعنا حتى أن نهتم بالطعام بالضروري، قائلاً: “لا تهتموا لحياتكم ولنفوسكم، بما تأكلون”، ليس لأن النفس الحية لا تحتاج إلى طعام، فهي نفس غير جسدانية، بل يتكلم وفقًا للعادة الشائعة؛ فعلى الرغم من عدم احتياجها للأكل، لا يمكنها البقاء في جسد لا يتغذى بالطعام. والسيد لا يضع الأمر هكذا ببساطة، بل يناقشه بعدة طرق، بعضها وفقًا لما ذكرنا- قبلاً- وبعضها من أمثلة أخرى، مما هو لدينا بالفعل. فيقول “أليست النفس (الحياة) أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس”؟ [ع25]. فالذي يعطينا الأعظم، ألا يهبنا الأقل أيضًا؟ والذي خلق الجسد ليأكل كيف لا يمنحنا الطعام؟ لهذا لم يقل هكذا ببساطة “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون” أو “بما تلبسون” بل قال “لأجسادكم ولحياتكم” على أساس أنه قصد عرض النماذج بأسلوب المقارنة. فالنفس التي أعطاها مرة وإلى الأبد في الجسد، والتي تبقى كما هي، رغم ازدياد الجسد يوميا لهذا حين يشير السيد الرب إلى هذين الشيئين، أيّ إلى خلود النفس وضعف الجسد، يربط بينهما قائلاً: “ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًًا واحدة” (مت 6: 27).

 هكذا لا يذكر شيئًا عن النفس، لأنها لا تزيد في القامة، بل يتحدث عن الجسد فقط، موضحًا هذه النقطة أيضًا، أن الطعام وحده لا يزيد من حجم الجسد، بل هي عناية الله التي تفعل ذلك، وهذه يوضحها بولس الرسول بطرق أخرى قائلاً:

 “إذ ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي” (1 كو 3: 7). ومما توفر لدينا هنا، نراه يحثنا بهذه الطريقة، وأيضًا بواسطة أمثلة أخرى: “انظروا إلى طيور السماء” [ع26].

ولئلا يعترض أحد، نحن نفعل حسنًا باهتماماتنا تلك. فإن السيد الرب يثنيهم بالعدول عن أفعالهم: تارة بما أعظم وتارة بما هو أدنى: فبالأعظم أيّ النفس والجسد، بالأدنى: أيّ الطيور. لأنه إن كان يهتم أولاً بالأدنى جدًا من الأشياء اهتمامًا كبيرًا. فلماذا بالأكثر لا يهتم بالأعظم- مثلما يقول- وعلى نفس المنوال يتحدث إلى الجموع الغفيرة، لكن لم يكن الأمر هكذا مع الشيطان: كيف؟ “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت 4: 4). لكن هنا يذكر الطيور ويريد بها أن يخجلهم، وهو أمر في غاية الأهمية كأسلوب تحذير.

4. ومع ذلك، فقد وقع بعض غير الأتقياء في حفرة جنون عميقة جدًا، فراحوا يهاجمون الأمثلة التي جاء بها السيد الرب! زاعمين أنها لا تصلح كمبدأ لتقويم الأخلاق ودعمها، إذ يستخدم- حسب مزاعمهم- مزايا طبيعته كمحفزات لهذا الغرض. ثم يضيفون قائلين: إن هذه الأمور تخص الحيوانات بالطبيعة فما ردنا على مثل هؤلاء.

 حتى وإن كانت هذه الأمور تخصهم بالطبيعة، فمن المحتمل أيضًا أننا يمكن أن نكتسبها بالاختيار، لأن الرب لم يقل: “انظروا كيف تطير الطيور” وهو أمر مستحيل على الإنسان أن يفعله – وقد أثبته من أتممه في أعمالهم – لهذا يليق بنا أن نعجب باهتمام خالقنا واضع الناموس أشد الإعجاب. إذ أنه بدلاً من أن يأتي بأمثلة من بين البشر، وبينما كان ينبغي عليه أن يتحدث عن موسى وإيليا ويوحنا، وآخرين مثلهم لم يهتموا بشيء- ليؤثر في السامعين بسرعة- فإنه يذكر الكائنات غير العاقلة، لأنه لو كان قد تكلم عن أولئك الأبرار، لاستطاعوا أن يقولوا “لم نصبح مثلهم بعد”. لكن إذ يعبر عنهم في صمت- ويتحدث عن طيور السماء والهواء- فقد فوت عليهم كل حذر، مقتديًا بالناموس القديم. أجل فإن العهد القديم بالمثل يبعث بنصائحه إلى النحل والنمل” (أم 6: 6-8 س). وإلى السلحفاة والعصفور (السنونةُ) (إر 8: 7) وليس في هذا أية علامة دالة على تدني الكرامة ونحن باختيارنا نستطيع أن ننجز نفس الأمور التي تفعلها تلك الحيوانات بالطبيعة؛ فإن كان الرب يهتم بكائنات موجودة لأجلنا، فهو يهتم بالأكثر بنا. وإن كان يهتم بالعبيد، فأيضًا بالأحرار. لهذا يقول: “وانظروا إلى طيور السماء”، ولم يقل: لأنها لا ترتبك بأمور الحياة ولا تقيم أسواقًا للتجارة، لأنها من البديهي لا تحدث. لكن ماذا قال؟ إنها لا تزرع ولا تحصد.

ورُبّ قائل: ماذا إذن، ألا يجب علينا نحن أن نزرع؟ الرب لم يقل ذلك. ولا يحبنا أن نمتنع عن الزراعة، بل أن نمتنع عن الاهتمام. وهذا لا يعني أن نكف عن العمل، بل أن يكف المرء عن ضيق الأفق ويربك نفسه بالهموم. لأنه يأمرنا أيضًا أن نأكل، لكن دون “أن نهتم” وداود أيضًا منذ القديم يقول بشكل سري “تفتح يدك فتُشبع كل حي رضًى” (مز 145: 16). وأيضًا “المُعطي البهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تدعوه” (مز 147: 9).

 ورُبّ قائل: مَنْ إذن لم يفكر في الأمر؟ ألم تسمعوا بعدد الأبرار الذين تحدثت عنهم: ألم تروا فيهم يعقوب وقد رحل عن بيت أبيه وقد انتابه اليأس من كل شيء، ألم تسمعوه يصلَّى قائلاً: “أعطاني الرب خبزًا لآكُل، وثيابًا لألبس” (تك 28: 20). وهذا لم يكن دور شخص مهموم بل إنسان يبحث فقط عن الله. وهذا أيضًا ما ناله الرسول الذي ألقى عنه كل شيء- ولم يكن مهموما- وأيضًا “الخمسة آلاف” و “الثلاثة آلاف” (أع 4: 4، 2: 41).

5. لكنكم إن كنتم عند سماعكم تلك الكلمات السامية، لا تحتملون أن تحرروا أنفسكم من هذه القيود الخطيرة. فاعتبروا الخسران الذي يسببه هذا الأمر. وضعوا نهاية لاهتماماتكم، إذ يقول الرب: “من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة؟” (مت 6: 27).

 أترون كيف يعلن عن الغامض بكل ما هو واضح ومؤكد؟ إذ يقول: بالنسبة للجسد، مهما كان اهتمامك، لن تقدر أن تضيف شيئًا. ومهما كان ما تجمعه قليلاً، ومهما جمعت من طعام، لا تعتقد أنك فاعل شيئًا، واضح إذن أن الأمر لا يتعلق باجتهادنا الدؤوب، بل بعناية الله. مهما بدا علينا أننا نشطون، فلا شيء من أعمالنا بدون عناية الله يمكنه أن يؤثر. فإن تخلى الله عنا، فلا اهتمام ولا قلق ولا تعب ولا أيّ شيء آخر من جانبنا يصنع شيئًا، بل الكل يزول تمامًا.

 لهذا لا نفترض أن وصاياه مستحيلة- لأن هناك كثيرين ينفذونها حسنًا، وكما هي تمامًا- وإن كنت لا تعرف عنهم شيئًا، فليس هذا بعجيب. لأن إيليا أيضًا ظن أنه كان وحيدًا. لكن قيل له: “أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل” (1مل 19: 18، رو 11: 4) ومن الظاهر الآن أن كثيرين يحيون حياة حسب الآباء الرسل مثل “الثلاثة آلاف” و “الخمسة آلاف” (أع 2: 41، 4: 5). وإن كنا لا نؤمن بهذا، فليس بسبب عدم وجود من يصنعون الصلاح، بل لأننا نحن هم الذين لا يصنعون صلاحًا. تمامًا مثلما على السكير أن يصدق أن هناك أناسًا لا يتذوقون حتى الماء (وهو ما يحدث مع العديد من المتوحدين النساك بيننا).

والذي يقيم علاقات متعددة مع أكثر من امرأة، لا يصدق أنه من السهل أن يعيش الإنسان حياة البتولية. والذي يسلب خيرات الناس، لا يمكنه أن يتخلى بسهولة عن خيراته الخاصة. والذين ينصهرون يوميًا تحت وطيس القلق الكثير يصعب عليهم قبول الأمر.

ولما كانت الحقيقة أن كثيرين بلغوا تلك الحالة، وجب علينا أن نظهر ذلك من بين أولئك، الذين مارسوا إنكار الذات حتى في جيلنا. أما بالنسبة لكم، يكفي أن تتعلموا ألا تشتهوا ما للغير، وأن الصدقة أمر طيب. وأن تعرفوا كيف تعطوا ما لديكم. لأن هذه الأمور أيها الأحباء، إن كنتم تفعلونها في حينها، فإنها تنتقل بسرعة منكم إلى الآخرين.

6. وفي الوقت الراهن- فلندع جانبًا إسرافنا المفرط ونحيا باعتدال، وأن نتعلم كيف نكتسب كل ما لدينا بالعمل الأمين- فالطوباوي يوحنا المعمدان أيضًا، حينما كان يتحدث إلى أولئك الذين كانوا يتعاملون بالجزية من الجنود، أمرهم “أن يكتفوا بأجورهم” (لو 3: 14) وإذا اشتاق أن يقودهم إلى ضبط النفس على مستوى آخر وأكبر، وإذ كانوا في حالة لا تسمح لهم بذلك، تحدث عن الأمور الأخرى الأقل. لأنه لو ذكر لهم أمورًا أعلى منها، لفشلوا في تكييف أنفسهم معها، ولسقطوا عن إكمال الأصعب. ولهذا السبب عينه، فإننا ندربكم على الواجبات الأدنى.

نعم، لأننا نعلم أن الحِمل الطوعي ثقيل عليكم جدًا- في الوقت الراهن- وليست السماء بعيدة عن الأرض، مثلما أنتم بعيدون عن إنكار الذات. فنتمسك إذن ولو بالوصايا الأقل. لأن في التمسك بها تشجيع ليس بالقليل، فإن البعض، حتى من بين الأمم قد أتموا ذلك، وإن بغير الروح اللائق، وقد تجردوا من كل ممتلكاتهم. ومع ذلك، نحن قانعون في حالتكم أن أعطيتم صدقاتكم بسخاء، سرعان ما تنجزون باقي الواجبات الأخرى أيضًا، إن كنا نتقدم في هذا الطريق.

لكن إن كنا لم نحقق شيئًا يذكر بعد، فأية نعمة نستحقها؟ نحن الذين يحثنا الرب أن نتفوق على شعب الناموس القديم. ومع ذلك نظهر أدنى من الفلاسفة بين الأمم.

 ماذا نقول، إذ ونحن ملزمون أن نكون ملائكة وأبناء الله. لا نقدر حتى أن نظل على حالنا كبشر؟ لأن إفسادنا للحال واشتهاءنا ما للغير لا يصدران عن رقة البشر، بل عن غلظة الحيوانات المفترسة، بل أن مغتصبي حقوق جيرانهم لهم أسوأ حالاً من الحيوانات الضارية؛ لأن الحيوان المتوحش يفعل ذلك بدافع طبيعته. لكننا ونحن المكرمون بالعقل، إذ ننحرف عن هذه الوحشية غير الطبيعية، لا ننال مغفرة أبدية.

 فلنهتم بمعايير هذا الإرشاد الموضوع أمامنا- وعلى الأقل نصل إلى حالة وسط- فننجو من العقاب الآتي، ونتقدم بانتظام لنبلغ منتهى قمم الصالحات، التي نصل إليها بنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى