23. الكلمات والأفعال
“ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات” [ع21]
لماذا لم يقل “الذي يفعل إرادتي؟”. لأنه في الوقت الراهن كان قبولهم حتى هذا القول يُعد ربحًا عظيمًا بسبب ضعفهم. وفي نفس الوقت فإن الرب يحببهم في الوصية الأولى بواسطة الثانية. ويجب أن نذكر أن مشيئة الابن هي نفسها مشيئة الآب. ويبدو لي هنا أن السيد الرب ينتقد اليهود بصفة خاصة، الذين وضعوا كل ثقلهم على التعاليم دون الاهتمام بالممارسة، ولهذا يوبخهم بولس الرسول قائلاً: “هوذا أنتَ تُسمى يهوديًا وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته” (رو 2: 17-18).
لكنك لا تجني شيئًا من وراء ذلك، طالما أن شيئًا من العطاء لا يظهر في حياتك وأعمالك، لكن السيد الرب لم يقف عند هذا الحد، بل قال ما هو أكثر من ذلك.
“كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟” ويقول السيد: “لا يكفي الإنسان أن يكون مؤمنًا فقط، بينما حياته مهملة، فإنه يُطرد من السماوات، حتى وإن صنع معجزات كثيرة، ولكنه لم يصنع شيئًا صالحًا، فإن هذا الإنسان أيضًا يُطرد من الموضع المقدس.
“كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب. يا رب أليس باسمك تنبأنا؟” انظروا كيف يعود السيد الرب إلى نفسه سريًا ويشير ضمنًا إلى نفسه بأنه الديَّان؟ ولم يقل علانية أنا هو الديَّان. بل “كثيرون سيقولون لي” للدلالة على نفس الأمر. لأنه لو لم يكن الديَّان لما قال لهم: فحينئذٍ أُصرِّح لهم، “إني لم أعرفكم قط” [ع23]. وكأنه يقول: “إني لم أعرفكم قط، لا في زمن الدينونة فقط، بل حتى عندما كنتم تصنعون المعجزات”. لهذا قال أيضًا لتلاميذه: “لا تفرحوا بهذا إن الشياطين تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات” (لو 10: 20). ويأمرنا في كل موضع أن نبذل قصارى جهدنا لنهتم اهتمامًا كبيرًا بأسلوب حياتنا.
فليس من المكن لإنسان يعيش حياة صالحة، وهو متحرر من الأهواء والشهوات، أن يكون مهملاً تمامًا، لكنه حتى إن تصادف وكان على خطأ، فإن الله سرعان ما يجذبه إلى الحق. لكن هناك البعض يقولون: لقد أكدوا هذا بشكل زائف، وهذا هو تقديرهم لسبب عدم خلاص هؤلاء الناس. كلا! وإلا كانت نتيجة عمل هذا الشخص عكس ما أراده الرب. لأن قصد الرب يقينًا أن يجعل هذا الإيمان بلا قيمة بدون الأعمال. لهذا إذ يخص الرب على الأعمال الصالحة – يضيف المعجزات أيضًا – موضحًا أن ليس الإيمان وحده، بل حتى صنع المعجزات لا يفيد شيئًا بدون الصلاح. وإن لم يكونوا قد صنعوا العجائب، كيف كان من الممكن أن يؤكد الأمر هنا؟. وأيضًا هم لا يتجاسرون إذا ما جاء يوم الدينونة أن يقولوا هذا الكلام في مواجهة الرب، ولا حتى الجواب نفسه. وتساؤلهم هذا يتضمن أنهم صنعوا عجائب، ولكن إذ يرون النهاية تأتي عكس توقعاتهم وبعد أن كانوا هنا محل إعجاب الجميع بسبب ما صنعوه من معجزات، ها هم يرونهم هناك كلا شيء، مع عقاب ينتظرهم. فتصيبهم الدهشة وتعقد الصدمة ألسنتهم، فيقولون:
“يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟” فكيف تبتعد عنا الآن؟ وما معنى هذه النهاية الغريبة التي لم نكن ننتظرها منك؟.
2. لكن إن كانوا يتعجبون أنهم يُعاقبون بعد أن صنعوا مثل هذه المعجزات – فلا تتعجبوا أنتم مثلهم – ذلك أن النعمة كانت عطية مجانية من الذي أعطاها لنا. لكنهم من جانبهم لم يشاركوا بشيء، لهذا يحق عقابهم بعدل؛ إذ هم غير شاكرين وعديمو الشعور نحو الرب الذي كرمهم كثيرًا، إذ أسبغ عليهم نعمته وهم غير مستحقين.
ورُبّ قائل وماذا إذن؟ هل يفعلون هذا وهم يمارسون الإثم؟ يقول البعض إنهم لم يصنعوا معجزات وهم يرتكبون الآثام، ولكنهم تغيروا بعد ذلك ومارسوا الإثم، لكن لو كان الأمر كذلك، لما أفلح معهم أيّ زمن آخر يعمل فيه الرب معهم؛ فلا الإيمان ولا صنع المعجزات يمكن أن يثمرا دون أعمال.
ولهذا يقول بولس الرسول أيضًا: “إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئًا” (1 كو 13: 2).
وتسألون، إذن من هم هؤلاء الرجال؟، إن كثيرًا من المؤمنين قد نالوا مواهب؛ مثل طرد الأرواح” (مز 9: 38، لو 9: 49). ولم يكن مع السيد، هكذا يهوذا؛ إذ كان حائزًا على موهبة مع أنه كان شريرًا. ونرى في العهد القديم نفس الأمر، أن النعمة عملت في أُناس غير مستحقين، بحيث تصنع الخير للآخرين. لهذا لما كان الناس لا يناسبهم هذا الأمر، بل يحيا بعضهم حياة الطهر، ولم يكن لديهم هذا الإيمان العظيم، بينما كان آخرون على النقيض تمامًا، فإن الرب بهذه الأقوال يحث على إظهار مزيدٍ من الإيمان، وإذ يعطى البعض عطايا تفوق الوصف ليصيروا أفضل، فإنه يكمل لهم نعمته بكل سخاء، لأنه مكتوب “صنعنا عجائب كثيرة” ولكنه “يصرِّح لهم أني لا أعرفكم” لأنهم يظنون أنهم أصدقائي الآن حقًا، لكنهم سيعرفون حينئذٍ، إني لم أمنحهم كأصدقاء.
ولماذا تتعجبون إن كان السيد الرب يعطي عطايا للمؤمنين باسمه، رغم أن حياتهم لم تكن تليق بإيمانهم، بل كان يعمل حتى مع الذين حادوا عن الطريق وعن الحياة اللائقة والإيمان، ومع ذلك عملت فيهم النعمة لخدمة الآخرين. وفرعون أيضًا كان من نفس النوع، ومع ذلك فقد دله الرب على الأمور العتيدة، وكان نبوخذ نصر رجلاً كثير الآثام، ومع ذلك كشف له الرب ما سيحدث بعد أجيال كثيرة (د 3). وأيضًا ابن هذا الأخير، رغم أنه فاق أباه في الإثم، فقد تنبأ بأمور مستقبلية، آمرًا بحدث جليل وعجيب (دا 5).
ولأن بديات الإنجيل كانت تُجرى آنذاك، وكان تجلي قوته ظاهرًا بشكل واضح للجميع، فإن كثيرين حتى من غير المستحقين نالوا مواهب. وبالرغم من كل تلك المعجزات، لم تنشأ منها أية فائدة، بل بالحري عوقبوا بالأكثر. لهذا قال لهم السيد الرب هذا القول الرهيب، “إني لا أعرفكم”. وكان هناك كثيرون قد بدأ غضب الرب يظهر ضدهم، وتحول عنهم وتركهم، حتى قبل الدينونة.
لهذا لنخف أيها الأحباء ونرتعد، ولنهتم بحياتنا أعظم اهتمام، ولا نحسب أنفسنا أسوأ حالاً، لأننا لا نصنع المعجزات الآن، لأن ذلك لن يمنحنا أية مزايا، ومثلما لا يسيء إلينا أننا لا نصنع معجزات، إذا كان اهتمامنا منصبًا على الفضائل، لأننا مدينون بأنفسنا للمعجزات، لكننا مدينون لله بحياتنا وأفعالنا.
24. الأساسان
3. بعد أن أنهى السيد الرب الحديث عن كل شيء، تحدث إليهم بدقة عن الفضائل وأشار إلى المتظاهرين بها، من كل نوع وصنف. بخصوص تظاهرهم بالصوم والصلاة، والذين يأتوننا في ثياب حملان، والذين يدوسون المواهب ويدْعوَّن أيضًا بالخنازير والكلاب.
ثم يتقدم ليشير لا إلى كيفية عظم الربح الذي يأتي من وراء الفضيلة هنا على الأرض، ويبين فداحة الشر بقوله: “كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أُشبهه برجل عاقل” [ع24].
ويعني هذا: قد سمعتم ما يمكن أن يعاينه أولئك الذين لا يسمعون ولا يعملون بما يسمعوه رغم أنهم يصنعون معجزات، ويجب أن توتوا أيضًا ما يتمتع به كل من يسمع هذه الأقوال كلها – لا في الدهر الآتي فقط، بل هنا أيضًا – “فكل من يسمع” كما يقول السيد الرب، هذه الأقوال ويعمل بها، أشبه برجل بنى بيته على الصخر. أترون كيف ينوع في حديثه؟، ففي مرة يقول “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب”. ثم يكشف عن نفسه في مرة أخرى. “بل الذي يفعل إرادة أبي” ومرة أخرى يعلن نفسه “ديَّانًا”، “كثيرون يقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب. أليس باسمك تنبأنا”، “فحينئذ أُصرِّح لهم إني لم أعرفكم قط” ويشير هنا أيضًا إلى سلطانه على الجميع. لهذا يقول “كل من يسمع أقوالي”. وبينما يلمس حديثه المستقبل من الملكوت، والمكافأة والتعزية التي لا يُنطق بهما. وما شابه ذلك، فإن إرادته، أيضًا بالنسبة لأمور هذا العالم هو أن يعطيهم ثمارًا، وأن يشير إلى عظم هذه الفضيلة، حتى في الحياة الحاضرة. فما هي قوة الفضيلة؟.
أن نعيش في أمان، وألا يتسلط علينا أيّ رعب، من جانب الذين يحتقروننا. فأي شيء يعادل هذا الحال؟ لأنه حتى الذي يرتدي وشاح الملك لا يقدر أن يوفر لنفسه ذلك، أما من يمارس الفضيلة، فهو يملك كل شيء في وفرة، ويستمتع بهدوء عظيم في غمرة آلام الزمان الحاضر. والعجيب أن يتمتع بهذا في شدة العاصف، وفي ثقل الضيقة. وباستمرار التجارب، لا يهتز ولو قليلاً. إذ يقول السيد المسيح:
“ينزل المطر وتجيء الأنهار وتهب الرياح وتقع على ذلك البيت فلا يسقط، لأنه مؤسس على الصخر” [ع25].
ويشير الرب رمزيًا إلى الضيقات بألفاظ مثل “المطر” و”الفيضان” و”الرياح” وهي ضيقات مثل الإدانات والمؤامرات وفقدان الأحباء والأخصاء والأصدقاء، والميتات والقلاقل من الغرباء، وكل ما يمكن أن يحل بالإنسان من ضربات ويقول الرب أن النفس المؤسسة على الصخر. وهي الكلمة التي تشير إلى الثبات في تعاليم المسيح، لأن وصاياه في الحقيقة أقوى من الصخر وتضع الإنسان أعلى من الأمواج الهادرة والحياة العاتية. لأن من يحفظ وصاياه في ثبات، لن يتهاوى إذا اضطهده الآخرون، بالعكس فإنه سينتفع من وراء المؤامرات المحاكة ضده. وليس في هذا فخر زائف، فإن أيوب شاهدنا على ذلك، فهو ذلك الرجل الذي تلقى كل ضربات الشيطان، وكان مكروهًا من الجميع. والرسل أيضًا هم شهودنا، لأنهم حين ضربتهم كل أمواج العالم، ووقفت ضدهم كل الأمم والحكام، وشعبهم أيضًا والغرباء، والأرواح الشريرة والشيطان، وكل آلة تتحرك، وقفوا راسخين أقوى من الصخرة، فبددوا كل الاضطرابات. وكانت حياتهم أسعد من حياة الآخرين. فلا الثروة ولا قوة البدن ولا المجد ولا السلطان ولا أيّ شيء آخر، يمكنه أن يوفر لنا الأمان، إنما الذي يوفره هو امتلاك الفضيلة. لأنه ما من حياة أبدًا تخلو من كل الشرور، إلا هذه الحياة التي نحياها هنا، وأنتم شهود وترون المؤامرات في قصور الملك، والضيقات والمتاعب في بيوت الأغنياء، لكن شيئًا من هذا لا تجدونه بين الرسل. ماذا إذن؟ ألم يعانوا هم من شرور على أيدي الناس؟. بلى، لقد عانوا من أبشع المؤامرات وواجهوا أعثر العواصف التي انفجرت في وجوههم، لكن أرواحهم لم تنهزم أبًدا، ولا أصابهم يأس، بل صارعوا بأجساد عارية وانتشرت كرازتهم وانتصروا. وكذلك أنتم بالمثل، إن أردتم تحقيق هذه الأمور، فسوف تضحكون على كل المتاعب وتزدرون بها. أجل، لأنكم إن تقوَّمتم فقط بهذه الفلسفة لن يؤذيكم شيء، ولن يقدر عليكم من يحيك ضدكم المؤامرات.
هل سيسلب أحد أموالكم؟ حسنًا، لكن قبل أن يهددكم فإن الرب أمركم أن تحتقروا المال، وأن تتعففوا عنه تمامًا. وفي نفس الوقت لا تظنوا أن هذا الأمر من تدبير ربكم.
فهل يرمونكم في السجن؟ ألم يأمركم أن تحيوا هكذا؛ أن تُصلبوا عن العالم، فهل يتكلمون عنكم بالشر؟ كلا، فقد خلصكم المسيح من هذا الألم أيضًا، بوعده لكم بمكافآت عظيمة دون تعب إذا احتملتم الشر. وقد حرركم من الغضب والاضطراب الناجم منه، وهو الذي يوصيكم أن تصلوا أن يخلصكم الله منه.
فهل ينفيكم أحد ويسبب لكم متاعب جمة؟ حسنًا، فإن الرب يجعل إكليلكم أكثر مجدًا. فهل يدمركم ويقتلكم؟ حتى وإن فعل هذا فإنه ينفعكم نفعًا كبيرًا؛ إذ تنهال عليكم أكاليل الشهادة، وتبلغون السماء في منتهى السرعة بلا تعب، وتتوفر لكم أعظم فرص المجازاة الوفيرة والغنى. ويسمح لكم أن تستفيدوا من أكبر عقوبة تحل بالشر وهي الموت. والأمر الأكثر عجبًا من كل ما سبق، أن كل المتآمرين ضدكم، إذ لا يقدرون إلحاق الضرر بكم، بل بالحري يجعلون من أنفسهم موضع ازدراء.
فما الذي يمكن مقارنته بمثل هذا النمط من الحياة، وإذ يدعو الرب الطريق كربًا وضيقًا ليخفف من أتعابنا من هذه الجهة أيضًا، فإنه يشير إلى الأمان العتيد والعظيم جدًا، وإلى المسرة البالغة. مهما كان حجم الضيق والألم.
ومثلما اعتبر الرب الفضيلة أمرًا له ثماره الصالحة من بين كل الأشياء هنا، فقد أظهر العواقب المُرة للرذيلة أيضًا. وأكرر ما سبق أن قلته مثلا، أن الرب يأتينا في كلا الطريقين بالخلاص لكل من يسمع أقواله. بالغيرة على عمل الصلاح (الفضيلة) من جهة، ومن جهة أخرى بكراهية الرذيلة. وإذا وُجد البعض من الذين يعجبون بما قاله الرب، بينما لا تدل أعمالهم على أنهم تأثروا بما سمعوه، فإن الرب يثير مخاوفهم، فالسمع وحده ليس كافيًا لتوفير الأمان مهما كان ما سمعوه صالحًا، بل هناك الحاجة أيضًا إلى الطاعة التي تظهر بالأعمال – والاستجابة الفعلية – وينهي عظته وحديثه بأن يبلغ بالخوف إلى قمة ذروته فيهم. ومثلما تحدث عن مجازاة الفضيلة بالملكوت والسماء والمجازاة التي لا يُنطق بها، والتعزية والراحة والصالحات والخيرات التي لا تُعد ولا تُحصى. هكذا تحدث أيضًا عن أمور الحياة الحاضرة الدالة على ثبات الصخرة ورسوخها الذي لا يتزعزع. ولا يثير مخاوفهم من خلال أمور منتظرة فقط. كما هو الحال مع الشجرة التي قُطع أصلها، والنار التي لا تُطفأ، والذين لا يدخلون الملكوت. ومن قوله إني لا أعرفكم، ولكن أيضًا من الأمور الحاضرة مثل سقوط البيت.
4. لهذا السبب يوضح كلامه بالأكثر، فإنه يُظهر قوته في مَثَل، وهو لا يكرر كلامه، فقوله “الصالح أكثر ثباتً، لكن الشرير يسهل سقوطه” لا يعد نفس الشيء. ومثلما يقارن بين الصخرة والبيت، والأنهار والأمطار والرياح وما شابه.
ويقول السيد الرب أن كل “من يسمع هذه الأقوال ولا يعمل بها أُشبهه برجل جاهل، يبنى بيته على الرمل” [ع26]. وحسنًا وصف مثل هذا الرجل بالجاهل. لأنه أيّ غباء أكثر من بناء بيت على الرمل، فالجاهل يتعب إذ يعمل العمل بيديه لكنه يحرم نفسه من الثمر ومن التعزية، بل وينال عقابًا، والذين يسلكون في الشر يُتعِبون أنفسهم، وهم ظاهرون لكل واحد، فمنهم المرابي والزاني والمتهم بالباطل، وكلهم يتعبون أنفسهم ويكدون كثيرًا لجلب شرورهم وجعلها مؤثرة. لكنهم لا يجنون أبدًا ثمار أتعابهم بل بالعكس يصيبون أنفسهم بخسارة بالغة. وقد أشار بولس أيضًا إلى هذا حين قال “من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا” (غل 6: 8). ويشبهون من يبني بيته على الرمل بالذين يسلمون أجسادهم للزنا، والدعارة والخمر والغضب، وكل شر آخر.
مثل آخاب، ولكن ليس مثل إيليا، لأننا حين نضع الفضيلة في مقابل الرذيلة سندرك على الفور الفارق بينهما. لأن واحد بنى على الصخر والآخر على الرمل، ورغم أنه كان ملكًا، خاف وارتعب عند مقابلته لنبي، ارتعب من إنسان لا يملك إلا جلد غنم. وهكذا كان اليهود وليس الرسل فرغم أنهم – أيّ الرسل – كانوا قليلي العدد وفي سلاسل، فقد أظهروا رسوخًا كالصخر، أما أولئك فعلى الرغم من كثرة عددهم وتسليحهم إذ كان عددهم ضعف عدد الرمال، لأنهم هكذا قالوا “ماذا نفعل بهذين الرجلين” (أع 4: 16).
هل رأيتم كيف أن الذين أُمسكوا بالقيود والسلاسل كانوا حيارى؟ بينما المقيدون ليسوا كذلك. فهل تسلطتم على الآخرين؟ هل أنتم في ضيقة وكرب؟ إن كان كذلك فهذا أمر طبيعي. بقدر ما بنوا على الرمل كانوا أضعف من الجميع. ولهذا أيضًا قالوا “تريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان” (أع 5: 28). فماذا نقول؟ هل تجلد وأنت خائف؟ هل تعامل الناس باحتقار وتشعر باليأس؟ أم هل تدين ومع ذلك ترتعب؟ لأن الشر هكذا دائمًا واهن وضعيف – لكن الرسل ليسوا كذلك – إذ يقولون “نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع 4: 20).
أرأيتم روحًا بهذا النبل، وصخرة تسخر من الأمواج وتحتقرها؟ أرأيتم بيتًا لا يتزعزع؟ إنهم لا يهتزون أمام المؤامرات المدبرة ضدهم، بل بالحري يتشجعون بالأكثر، ويلقون بالآخرين في مزيد من الارتباك والقلق.
هكذا الذي يضرب بصلابة، ومن يضرب حجرًا صلبًا ترتد الضربة إليه هو، ومن يركل حجرًا ترتد الركلة إليه هو، أما من يثخن الآخرين بالجراح، والذي يثير المؤامرات ضد الأتقياء، هو الذي يقع في الورطة. لأن الشر دائمًا ما يكون هو الأضعف، كلما نظم نفسه ضد الفضيلة. وكالإنسان الذي يحتضن النار في ثوبٍ، لا يُطفئ اللهب بل يحرق الثوب. هكذا كل من يضرب الفضلاء ويقهرهم ويقيدهم، يجعلهم أكثر مجدًا، ويدمر هو نفسه. وكلما زادت عليك الآلام وأنت تحيا حياة البرّ، كلما صرت أقوى. لأنه كلما كرمنا ضبط النفس أكثر، كلما قلّ احتياجنا لأي شيء. وكلما قل احتياجنا لأي شيء كلما صرنا أقوى وفوق كل شيء.
هكذا كان يوحنا المعمدان، الذي كان واحد من هؤلاء. لهذا لم يؤلمه أحد. لكنه تسبب في إلحاق الألم بهيرودس. لهذا كان الذي لا يملك شيئًا قادر على مقاومة الذي يحكم. والذي يرتدي وشاح المُلك والأرجوان والصولجان ويملك قوة لا تنتهي، يرتعد ويخاف من الذي لا يملك شيئًا، بل خاف الملك حتى من الرأس المقطوعة. حتى أنه بعد موت يوحنا ظل هيرودس يرتعد منه بقوة شديدة، اسمعوا ما يقوله “هذا هو يوحنا الذي قَطعت رأسه” (مت 14: 2، لو 9: 9).
يقصد هذا هو الذي قطعت أنا رأسه أو ذبحته، وهو ليس حديث إنسان يتباهى بما فعل، بل يرتعد ويريد أن يسكن من روعه، ويهدئ نفسه، إذ يتذكر ما فعله أنه هو نفسه قد ذبح يوحنا المعمدان.
حقًا ما أعظم قوة الفضيلة، فهي تُصيِّر صاحبها بعد موته أقوى مما كان في حياته. ولهذا حين كان الذين لديهم ثروات كبيرة كانوا يأتون عليه ويقولون: ماذا يجب أن نفعل؟ (كو 3: 10، 14).
فهل هذا هو حالكم؟ وهل تهتمون أن يتعلم من يحيا في رخاء كيف تحيون أنتم الذين لا يملكون شيئًا؟ هل يتعلم الأغنياء من الفقراء؟ والأثرياء من المعدمين؟
هكذا كان إيليا أيضًا، لهذا يتحدث إلى شعبه بكل حرية. ومثلما قال يوحنا المعمدان “يا أولاد الأفاعي” (مت 3: 7) هكذا إيليا قال لهم “حتى متى تُعرِّجون بين الفرقتين” (1 مل 18: 21). وبينما قال المعمدان “لا يحل لك أن تكون لك امرأة أخيك” (مر 6: 19)، هكذا قال إيليا “هل قتلت وورثت أيضًا” (1 مل 21: 19).
هل ترون الصخرة؟ أرأيتم الرمل، كيف يغوص بسهولة وكيف يتأثر بالمصائب بسهولة؟ وكيف ينهزم؟ ورغم أنه مدعم بالملكية والجماعة والنبلاء، لا يسقط هكذا وحسب، بل يكون سقوطه عظيمًا. إذ يقول “كان سقوطه عظيمًا”.
فالخطورة ليست في التوافه، بل في النفس، وخسارة السماء، وتلك البركات الخالدة. وحتى قبل الخسارة ليست هناك حياة أتعس من حياة إنسان يعيش هكذا، في شقاء دائم، وانزعاج واضطرابات وهموم. والذي تحدث عنه الحكيم مرة قائلاً: “الشرير يهرب ولا مُطارد” (أم 28: 1). لأن مثل هؤلاء الناس يرتعدون حتى من مجرد رؤية ظلالهم، ويرتابون في أصدقائهم، وأعدائهم وخدمهم. والذين يعرفونهم والذين لا يعرفونهم. ولذلك وقبل عقابهم النهائي، يعاقبون هنا بالعقاب الشديد؛ إذ يمتنعون عن تنفيذ الوصايا الطيبة الصالحة، مخدوعين بأمور الزمان الحاضر، بدلاً من هروبهم من حياة الرذيلة. وكان اللائق بهم أن يهربوا من الشر.
لأنه وعلى الرغم من أن النقاش كان حول الأمور العتيدة بشكل أوسع وأعم، فإنه من القوة أن نمتنع عن الأمور الأخطر هاربين من الشرور.
لهذا أنهي الموضوع بقولي إن الربح الذي يناله المداومون على الصلاح سيدوم فيهم، وإذ نعي نحن كل شيء الحاضر والعتيد، فلنهرب من الرذيلة ونحيا في الفضيلة، حتى لا تكون أعمالنا بلا ثمر، وبلا ترتيب بل نتمتع بالأمان هنا، ونشترك في المجد هناك، الذي يهبنا إياه الله بالنعمة والمحبة التي لنا نحن البشر، بربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى أبد الآبدين كلها. آمين.
انتهى.
ننصح بالعودة لكتاب
شرح إنجيل القديس متى
للقديس يوحنا الذهبي الفم على
ترجمة وتعليق: د. عدنان طرابلسي