Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

يُعتبر الملك سليمان نموذج للملك الحقيقي في كثير من النواحي. ويتكلم الكتاب المقدس عنه مشيرًا إلى أعماله الحسنة في كثير من النواحي. ويعني اسم سليمان “السلام” وهو الذي بنى المعبد وكانت حكمته عظيمة لا تقاس، وحَكم إسرائيل وكان عادلاً بين الناس وهو من نسل داود، وزارته ملكة أثيوبيا. تشير هذه وأمثلة أخرى مشابهة رمزيًا إلى سليمان، وتصوَّر مقدمًا قوّة الإنجيل ومَنْ عنده السلام؛ الذي حطم العدو، وسمره على الصليب، ونحن كنا أعداؤه غير أنه، صالح كل العالم لنفسه، “جعل البعير قريبين بدمه، ولأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقص حائط السياج المتوسط، أي العداوة مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا” (أف 2: 13-15).

من هو باني المعبد، الذي وضع أساساته على الجبل المقدس، أي على الأنبياء والرسل؟ هو بناه كما يقول الرسول (أف 2: 20) على أساس الرسل والأنبياء، وهم أحجاره الحية. وينسجم محيط الحجارة الدائري مع الجدران حسب ما يقوله النبي ذكريا (زك 9: 16). وتوضع بترتيب خاص يجعلها وحدة كوحدة الإيمان وبنموهم في رابطة السلام قد يكوِّنوا معبدًا مقدسًا، مسكنًا للرب في الروح. يشير سليمان في حكمته إلى الحكمة الحقيقية ولا يعارض أي شخص يدرس التاريخ والحق هذه حقيقة. يشهد التاريخ أن سليمان فاق حدود الحكمة البشرية. حيث حفظ المعرفة لكل الأشياء في قلبه. فسبق جميع من عاشوا قبله ولم يماثله أي واحد ممن عاشوا بعده. إلا أن الله هو أصل القوة والحق والحكمة ويقول داود: “ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صُنعت” (مز 104: 24). ويفسر الرسول المزمور السابق قائلاً: “الكل به وله قد خُلق” (كو 1: 16) أي أنها خلقت من خلال حكمة الله.

شهد أعداء الرب يسوع المسيح أنه هو الملك، ملك إسرائيل، حيث كتبوا فوق رأسه على الصليب “هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت 37: 27). ونحن نقبل هذه الشهادة حتى ولو يُفهم منها أنها تُضعف شمول قوته وتحدّ من أُلوهيته على الإسرائيليين. يحمل العنوان المكتوب على الصليب شهادة بألوهية المسيح، ليس على اليهود فقط، بل على جميع الناس. هو ملك على كل الأرض ويحكم على كل أجزائها.

يشير حب سليمان وحماسه المتدفق نحو الحق والعدل إلى العدل الحقيقي لكل الأرض: “لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن” (يو 5: 22)، ثم “أنا لا أقدر أن أعمل من نفسي شيئًا. كما أسمع أدين ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني” (يو 5: 30). هذا أدق تعبير للإدانة (للحساب): فلا يخضع في حكمته لفكرة طارئة أو خيالية ولا لميول عاطفية، ولكن يسمع أولاً لمن سيحاكمون ثم يحكم. وإلا سوف لا تكون لقوة الله تأثيرها، لأن الحق لا يسمح بالظلم أو بتغيير مسار المحاكمة نحو العدل. لقد أنبأ سليمان عن المسيح الذي جاء من نسل داود حسب الجسد كما أشار الكتاب بذلك (رو 9: 5).

زارت ملكة أثيوبيا سليمان بعد ما سمعت عن حكمته، وقدمت له هدايا من الذهب والأحجار الكريمة والعطور (1 مل 10: 1-3)، ويتضح سرّ هذه الزيارة من دراسة عجائب الإنجيل. لأنه من لا يعرف أن الكنيسة جاءت من مجتمع الظلمة بين الأمم عابدي الأصنام، الذين عاشوا بعيدًا عن معرفة الله وكانوا منفصلين عنه بخليج الجهل العظيم. ولكن عندما أضاءت نعمة الله وحكمته، وأرسل النور الحقيقي أشعته إلى من كانوا في الظلمة وظلال الموت. أغمضت إسرائيل عيونها للنور، ورفضت أية مشاركة في الخير. لكن الأثيوبيين أسرعوا إلى الإيمان من بين الأمم، والذين كانوا بعيدون اقتربوا بعدما غسلوا أنفسهم من الظلمة بالمياه المقدسة. لقد اقتادهم الروح القدس إلى الله وقدموا هدايا للملك: بخور النسك والعبادة وذهبًا لمعرفة الله الملك وأحجارًا كريمة للوصايا وعمل الفضيلة.

ساَبتدئ الآن بفحص كلمات النشيد كالآتي: “الملك سليمان عمل لنفسه تختًا من خشب لبنان. عمل أعمدته فضية وروافده ذهبًا ومقعده أرجوانًا ووسطه مرصوفًا محبة من بنات أورشليم” [ع9-10]. كما توقع سليمان سرّ الله فإنه يُظهر اِهتمامه بنا عندما يقودنا في العربة التي تجرها الخيول: يظهر الله في قديسيه بطرق عديدة على حسب مقدرة كل واحد منهم واِستحقاقه. ويمكن اِعتبار مكان معين أنه لله: فأحد الأشخاص يكون منزلاً، وشخص آخر عرشًا، وثالث كرسيًا للقدم. لنجعل شخصًا عربة تجرها الخيول أو حصانًا ممتازًا مدربًا لكي يستقبل هذا الراكب (الله). وبينما هو يكمل طريقه يقوده الله أثناء سيره إلى الأمام.

نعرف الآن شيئًا عن العربة التي تجرها الخيول، والمصنوعة حسب حكمة سليمان من خشب لبنان، ومزينة بدقة في كل أجزائها بالذهب والفضة والأرجوان والأحجار الكريمة وحب الصانع. لا يتمكن أن يصل كل واحد إلى المقدرة على الحب، إلاّ إذا عرف في حياته على أنه إحدى بنات أورشليم اللآتي ذُكرن سابقًا، وهم أحرار. يتضح مما سقناه سابقًا أن الشخص الذي يسكن فيه الله، هو أريكة يجلس عليها الله. ومثل هذا الشخص لا يعيش لنفسه بعد ذلك، بل المسيح يعيش فيه، ويعطي برهانًا أن المسيح يتكلم من خلاله، حسب قول الرسول الطاهر بولس (2 كو 13: 3). فيسمى هذ ا الشخص بجدار أريكة مولودة من المسيح ويحملها المسيح.

ولكن ذلك ليس موضوع دراستنا، ولكن مهمتنا هي المثابرة في فحص المواد التي ذُكرت، وكيفية تجميع الخشب مع الذهب والفضة والأرجوان والحجارة الكريمة لكي نبني العربة التي تجرها الخيول. فحتى بولس المهندس الحكيم يضع الخشب مع العشب والبوص على أنها عديمة القيمة في بناء البيت (1كو 3: 12)، لأنها تفنى بقوة النار المدمرة التي تختبر المواد. نحن نعلم أن الخشب لا يحتمل ولكن قد يتغير إلى الذهب، فضة أو أي شيء آخر ذات قيمة ويقول القديس بولس: “ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضًا، وتلك للكرامة وذلك للهوان” (2 تي 2: 20). تُشير الآنية الذهبية والفضية إلى الخليقة الغير جسدية الروحية بينما ترمز الآنية الخشبية والخزفية إلى ما أنتجه العصيان من آنية طينية، فالخطية أدت إلى خلقنا من آنية خشبية بدلاً من آنية ذهبية. يتحدد الغرض من استعمال الآنية تبعًا لقيمة المادة المصنوعة منها، فبينما تُستعمل الأواني المصنوعة من مواد ذات قيمة غالية وأغراض سامية، توضع المصنوعة من مواد رخيصة جانبًا للأغراض العادية. ولكن ماذا يقول بولس عن هذه الأمور؟ تملك الأواني القدرة حسب إرادتها الحرة على أن من الخشب إلى الذهب ومن طين إلى فضة. “فإن طهّر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد مستعدًا لكل عمل صالح” (2 تي 2: 21). تساعدنا هذه الكلمات على اكتساب القدرة على فهم الكتاب المقدس.

يُشير جبل لبنان في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس إلى قوة عدوانية، كما يقول النبي “صوت الرب مُكسِّر الأرز، ويكسر الرب أرز لبنان. ويمرحها مثل عجل لبنان، وسريون مثل فرير البقر الوحشي” (مز 29: 5-6). كسَّر موسى تمثال العجل الذهبي إلى أجزاء صغيرة في البرية وأصبحت المياه صالحة للشرب للإسرائيليين بعد أن تحطم التمثال إلى قطع صغيرة (خر 32: 20). يتضح، كما يقول النبي أن الشرور لا تنتج فقط بواسطة قوة العدو، فهذه بسيطة إذا قورنت بجذور الشر الأولية، جبل لبنان، التي تغذي خشب أشجار الأرز. ففي وقت من الأوقات كنا جميعًا مثل أشجار أرز لبنان لأن جذورنا كانت مرتبطة بها حياة الشر وخداع الوثنية. ولكن بعد أن انفصلنا منها بواسطة البلطة الروحية وأصبحنا في أيادي الخالق المبدع شكلنا الله على هيئة أريكة. وحوَّل الخشب الذي قد كنا مصنوعين منه بواسطة الميلاد الجديد إلى فضة وذهب، وأرجوان وأحجار كريمة لامعة. لذلك يقول الرسول: “قسم الله لكل واحد مقدار من الإيمان” (رو 12: 3). وتعطي الروح القدس قدرة التبوء بنسبة ما عنده من الإيمان، ولشخص آخر تمنحه شيئًا آخر حسب طبيعته وقدرته على اِستقبال النعمة كعين لجسم الكنيسة، أو يد أو كدعامة بدلاً من القدم. لذلك فيوجد في تركيب العربة التي تجرها الخيول، شخص يمثل عامودًا، وآخر درجة سلم، وثالث وسادة لراحة الرأس، بينما آخرون مكلفون بما في داخل الأريكة.

لم يقصد المهندس أن كل العناصر التي تستخدم في التجميل تخدم غرض واحد، ولكن كل الأجزاء تُزيّن حسب الذوق بحيث يكون جمال كل جزء مختلف عن الأجزاء الأخرى، ولكن في انسجام. لذلك تُصنع أعمدة الأريكة من فضة وقاعدتها بنفسجية بينما الرأس من ذهب. وعليها يسند العريس رأسه. أما داخل الأريكة فمزين بأحجار كريمة. لذلك تُفهم الأعمدة على أنها تتبع الكنيسة ويتكلم النشيد عن الأعمدة على أنها نقية وأن الذهب المصنوعة منه عولج بالنار لتنقيته، وأنها ارتفعت إلى علو المملكة. (إن ألفة؟؟ المميزة للمملكة هو الأرجوان). والعنصر الرئيسي حيث يسند من صنع الأريكة رأسه، هو ذهب التعاليم النقية. أما الأجزاء المخفية والغير ظاهرة فتزيّن بضمير نقي من أحجار كريمة، التي يرتبها مع بعضها الحب بواسطة بنات أورشليم. وتتطابق هذه الأريكة مع الكنيسة التي على الأرض ويمكن تقسيم أجزاءها بين أشخاص حسب وظائفهم المختلفة. كما قلنا سابقًا أن أجزاء العربة التي تجرها الخيول يمكن مقابلتها إلى كل نظام بالكنيسة. (لذلك يقول الرسول: “فوضَع الله أُناسًا في الكنيسة أولاً رسلاً ثانيًا أنبياء ثالثًا معلمين ثم قوَّات وبعد ذلك مواهب شفاء أعوانًا تدابير وأنواع ألسنة” (1 كو 12: 28).

إن أسماء هذه الأجزاء التي تدخل في تركيب الأريكة ترمز إلى القسوس والمعلمين وحالة الطهارة والنقاء والبكورية التي تستحق الاحترام، والتي تشع بنور الأحجار الكريمة بداخل الأريكة بواسطة نقاء الفضائل.

يكفي هذا لوصف الأريكة ويحتوي ما يلي من النص على تشجيع العروس لبنات وشليم. لقد قدم بولس العظيم نفسه للإدانة إذا لم يشارك في عمل كل الخير. لذلك يقول للشعب: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح” (1 كو 11: 1). لذلك فالعروس المحبة أصبحت مستحقة للأسرار المقدسة التي لعريسها. وعندما رأت السرير أي تَخْت الملك صرخت إلى رفيقاتها – اللآتي قد يمثلن أنفس الُمخلصين – إلى متى تمكثن محبوسين في كهف هذه الحياة؟ اِذهبن خارج ستارة (حاجز) الطبيعة البشرية لكي تروا الملك الذي وضعته له أمه حسب قول النبي: “لأنَّك تتقدمه ببركات خير. وضعت على رأسه تاجًا من إبريز” (مز 21: 3).

لا يمكن لأي شخص أن يفهم بالكامل التعبيرات التي تخص الله، مثلاً كلمة “أم” تُذكر في النشيد بدلاً من كلمة “الأب” وكلاهما لهما معنى واحدًا، لأنه لا يوجد مذكر أو مؤنث لكلمة الله – لأنه لا يمكن لأي شيء مؤقت مثل هذا أن يُنسب لله – ولكن عندما نكون واحدًًا في المسيح فنحن نبتعد عن علامات هذا الاختلاف الذي للإنسان العتيق، لذلك يشير كل اسم إلى طبيعة الله التي لا يمكن التعبير عنها، لا ذكر ولا أنثى يمكن أن تفسد طبيعة الله النقية. لأجل هذا قال السيد المسيح مثل تشبيه ملكوت السموات بالمَلك الذي صنع عرسًا لابنه وأرسل عبيده ليدعوا المدعويين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا (مت 22: 2). ويقول النبي عن الله “لأنك تتقدمه ببركات خير. وضعت على رأسه تاجًا من إبريز” (مز 21: 3). لذلك يقول النشيد أن تاجًا وُضع على رأس العريس بواسطة أمه. بما أن العروس والعريس واحدًا، أم واحدة وضعت التاج على رأس العريس. لا يوجد اختلاف كبير إذا سمينا ابن الله الابن الوحيد أو ابنه المحبوب. حسب رأي بولس أن كل اسم له القدرة على أن يكون من مرافقي الشرف للعروس والذي يؤدي إلى أن يسكن العريس فينا. “اذهبن إذن” قالت العروس لرفيقاتها “وأصبحن بنات صهيون من القمة العليا (لأن كلمة صهيون تعني القمة العليا) وستتمكنّ من رؤية هذا المنظر الرائع، وهو عريس مُزيّن بتاجه”. وتاجه هو الكنيسة محوطة رأسه بأحجار حيه، الحب هو الشريط الذي يّزيّن هذا التاج، لأنه لايُخطئ من يُسميه “أم” أو “حب” الله محبة كما يقول القديس يوحنا (1يوحنا 8:4).

تقول العروس أن عريسها يفرح ويبتهج بتاج العرس المزين، لأن العريس يفرح عندما يأخد الكنيسة كمسكن له متوّج بفضيلة أعضائها المميّزين. قد يكون من المفضل أن نطبق هذه الكلمات المقدسة على النحو الآتي: ” أخرجن يا بنات صهيون وأنظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجه به أمه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه” (نش 11:3). لذلك اِستقبل كلمة الله حب عروسه، لأنها كلآب ترغب أن كل الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي4:2). أُعلان جمالها يبدو أكثر قداسة وأكد عليه النشيد بوضوح لأن مدح جمال العروس لايرتبط بها فقط ولكن يشمل جميع الأعضاء. لذلك يقول النشيد: “هاأنت جميلة يا حبيبتي هاأنت جميلة ” (نشيد 1:4). لأن العروس قلدت حب الله لجميع البشر، وأمرت شابة صغيرة لكي تخرج خارجا مثل إبراهيم- كل شابة من موطنها وعائلتها بحسب الحواس – حتى ترى العريس الطاهر متوجًا مع الكنيسة. أصبحت العروس بحق رفيقة لجمال الله لأنها اقتربت من الله من خلال الحب. لذلك يقول لها النص أنت جميلة بقربك من الجمال بأرادتك النبيلة. يوضح تكرار المديح هنا صدق شهادة العريس. لأنه حسبل الوصية المقدسة شهادة شخصيين تُؤكد الحق. لذلك يقول النشيد: “ها أنت جميلة يا حبيبتي. هاأنت جميلة “

الكنيسة التي على الأرض هي جسد للمسيح الواحد (1كو 12:12-27)، إلا أنه يوجد أعضاء كثيرين في هذا الجسد الواحد. ولكل واحد وظيفته، إذ خلق الله شخصًا لكي يكون عيون الجسد وآخر الأذنين. والبعض يقوم بعمل اليدين وآخرين ليحملوا ما تحمله الأقدام. أما قدرات الذوق والشم والحواس الأخرى بالجسم فتوجد في جميع أعضاء جسم الكنيسة على وجه العموم: الشفاه، الأسنان، اللسان، الصدور، المعدة، والبلعوم. كما يقول بولس: “وأعضاء الجسد التي تحسب أنها بلا كرامة يعطيها كرامة أفضل. والأعضاء القبيحة فينا لها جمال أفضل” (1كو 23:12). لذلك يمدح من يتعرف على الجمال كل من يتميز به من أعضاء جسم الكنيسة.

يجب الآن أن نتناول بالبحث المديح الذي يُخصص للأطراف. ما هو أكثر قيمة وشرفًا من العيون في أعضاء جسمنا؟ فمن خلالها نستقبل النور، وبواسطتها نتعرف على الأصدقاء والأعداء، ونميّز بين ما هو لنا وما يخص الآخرين. والعيون هي المدربين والمعلمين لكل غرض كما أنها تعمل كمساعدين عطوفين لا يمكن الأستغناء عنهم لرحلة آمنه في الحياة. كما أن موضعها فوق أعضاء الحس الأخرين يوضح دورها الأكثر سموا في حياتنا أنه واضح لمستمعى لأي طرف من أطراف الكنيسة يُوجد هذا المديح للعيون: كانت عين صمؤئيل حارسة ومراقبة (ولذلك سُمى بالمراقب)، رتب الله عين حزقيال لكي تحرس سلامة كل من آمنوا به. وكلف الله عين ميخا الحارسة وعين موسى الفاحصة التي سميت “الله” لكي تقود الشعب إلى الفضيلة. لذلك أطلق عليهم اسم الرجال أصحاب الرؤية. ولذلك يصح تسميتهم “عيون” لكي يُنفذوا هذه الوظيفة في جسد الكنيسة إذا وجهوا نظرهم مباشرة إلى الشمس البر (ملاخى2:4)، ولم يصبحوا عميانا بأعمال الظلمة. فإذا تفهموا الفرق بين ما يخصهم والعناصر الغريبة عنهم وعلموا أن كل شيء مرتبط بطبيعتنا هو ظاهرى ومؤقت بينما ما يُقدم لنا خلال الرجاء يثبت إلى الأبد.

وتعمل عيوننا على التمييز الصديق من العدو حتى نحب الصديق الحقيقي بكل قلوبنا ونفوسنا وقوتنا (تث 5:6) ونظهر كراهيتنا إلى أعدائنا. ولكن تقودنا العين أيضًا في نشاطنا، بحفظ أعماله صحيحة، وتكون كقائد في رحلتنا إلى الله. إن وظيفة العين النقية السليمة روحيا، مثل العين الجسمية، تظهر بوضوح إلى الأعضاء الآخرين بواسطة سموّها في الحياة. من أجل هذا يبتدئ النص (النشيد) في مدح جمال العروس بقوله “عيناك حمامتان” (نش 1:4). يتعرف العريس على بساطة ونقاء الأشخاص في الحياة برؤية نقاء عيونهم من الشر وسماهم “حمامتان” لأن النقاء صفة للحمام بينما يمدح النشيد عيونه.

عندما تنفذ صوّر الأجسام الحقيقية من خلال نقاء إنسان العين فإن يؤدي إلى رؤية هذه الأجسام، أي أن الشكل يطيع نفسه على العين مثل المرآة “عندما يملك الشخص قوة الإبصار هذه في الكنيسة، فإنه لا يرى أبدًا ما هو مادي أو جسدي لأن الحياة الروحية الغير مادية تمتلك مشاعره، وتتشكل حياته بواسطة نعمة الروح القدس. لذلك فإن أحسن مدح توصف به العيون عندما تتوافق حياتهم مع نعمة الروح القدس، لأن الروح القدس هو الحمامة، فمدح كلا العينين ينطبق على الشخص كله ظاهريًا وروحيًا. ويضيف العريس مدحًا عظيمًا آخر: “غير أنك ساكتة” [ع1]. تتضح الحياة الطيبة ظاهريًا لكل واحد، أما ما هو مخفي أو سرِّي فعلمه عند الله فقط. يتضح للشخص الذي ينظر إلى الغير مخلوق، ويبحث فيما هو مخفي أن السكوت يستحق الثناء أكثر من أي شيء خارجي. يقول النص “عيناك حمامتان غير أنك ساكتة” امتدح جمال العروس الخارجي بالاندهاش منه دون كلام.

يتلو ذلك مدح جمال العروس: “شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد” [ع1]. من المناسب أولاً أن نبحث طبيعة الشِعر حتى نتمكن من فهم المدح الذي أضفي على العروس في هذا المجال. يقول بولس: “وأما المرأة إن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها، لأن الشعر قد أُعطيَ لها عِوض بُرقع” (1 كو 11: 15). أي أن الاحترام والتواضع قد يُصبحا كبرقع للمرأة. ويقول بولس أيضًا: “كذلك النساء يُزيِّن ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقل لا بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن” (1 تي 2: 9). الاحترام والتواضع (أي الشعر) الذي يلزم لقداسة الله. إذًا لم يكن للنفس شعر فرأسها يكون مجالاً للعار، كما يقول الرسول.

إذا كان الرسول يُعلم هذه الأشياء عن الشعر، فقد تطبق أفكاره لمدح الكنيسة. يقول النشيد “شعرك كقطيع معز على جبل جلعاد” يقدم النص طريقة ممتازة للحياة هنا، ولكنه يُضيف أن الشعر خال تمامًا من الإحساس الحي. ولا تزيد هذه الفقرة في مدح العروس لأن الشعر ينقصه الإحساس باللذة والألم. يشعر الشعر النامي من الجسم بالألم إذا جُذب بشدة لإخراجه من جذوره، ولكنه لا يحس إذا قُص أو جُعد بالحرارة أو صُفف باحتراس. إن عدم الإحساس هو علامة على الموت. لذلك، فالشخص الذي لا يشعر بقيمة هذه الدنيا لا ينتفخ بالمجد أو الشرف ولا يحزن بالإصابة أو الفضيحة، ولكنه يحمي نفسه عندما يُجابه بأي من هؤلاء الخصوم. هذا هو المديح النبيل لشعر العروس. يُظهر نفسه أنه ميت تمامًا ولا يتحرك بأي شيء في هذه الدنيا في أي ظرف من الظروف.

يُقارن الشعر الكثيف بقطيع المعز الذي يظهر من جلعاد. هذه فقرة غير واضحة ويجب أن لا نتركها دون تفسير. نحن نظن أنه كما عمل الملك سريرًا لنفسه بواسطة تغيير أشجار لبنان إلى ذهب وفضة وأرجوان وأحجار كريمة فإن الراعي الصالح لقطيع المعز يعرف كيف يُغيّر القطيع على جبل جلعاد ويكتشف اسم هذا الجبل المعجزة الخاصة بالأمم. فهؤلاء الذين يتبعون الراعي الصالح من الأمم يأخذون نصيبًا في جمال شعر العروس الذي يشير إلى الطهارة والتواضع والامتناع عن الأكل والشراب والملذات والتحكم في شهوات الجسد. وقد يرتبط إيليا بدراستنا عن المعز عندما مارس حياة نكران الملذات والتأمل لمدة طويلة على جبل جلعاد. عاش إيليا حياة التقشف والزهد بطريقة مدهشة ولبس عباءة من شعر المعز بدلاً من جلباب ناعم من جلد المعز. لذلك فالأشخاص الذين يأخذون النبي لهم مثالاً في حياتهم يُصبحون زينة للكنيسة متمسكين بطريقة فلسفية في حياتهم. إنهم يتجمعون في قطعان لكي يسلكوا حسب الفضيلة. إن رؤية هذه القطعان من جلعاد تزيد مدحهم لأنهم تغيَّروا من أسلوب الأمم إلى حياة فلسفية نسبة إلى الله. لم ينصح جبل صهيون الطاهر بممارسة مثل هذا النوع من الحياة ولكن الأمم ولو أنهم كانوا مكرسين للأصنام فقد تأقلموا عليها لكي يزينوا رأس العروس بفضيلتها السامية.

يضع النشيد أمامنا أسنان العروس مع ذكر جمال فمها وشفتيها وتستحق هذه الحقيقة دراستها. لماذا يمدح أسنانها قبل شفتيها؟ قد يكون السبب أنه عندما يشير إلى شكل الأسنان التي تظهر في الفم عند الابتسام ولكني أنظر إليها من ناحية أخرى، وهي أنه يمكن أن نمدح جمال الأسنان دون ذكر الفم. ولقد مدح العريس شفتيّ العروس بقوله: “شفتاك كسِلكة من القرمز وفمك حلو”.

ماذا نفهم من ذلك؟ أحسن طريقة هي أن نتعلم أولاً ثم نتكلم. قال أفلاطون إن التعليم هو غذاء الروح ولا يحيد عن الحق. ويشبه في ذلك الغذاء المادي الذي يُطحن في الفم إلى أجزاء صغيرة قبل أن يصل إلى المعدة، وللنفس أيضًا القدرة على تجزئة التعاليم حتى يمكن فهمها. ويقارن النشيد الأسنان رمزيًا بالمدرسين الذين يوضِّحون ويقسمون المعلومات حتى نتمكن من فهمها. لهذا السبب يُضفي المدح جمالاً على الأسنان إذا اِرتبط معها جمال الشفتين، فلا تتمكن الشفتان من أن تُظهر جمالها في المديح بدون أن تضفي الأسنان جمالاً عليها أثناء الكلام. وسوف نفحص جمال الأسنان بالمديح الذي يتبع في الفقرة التالية.

والآن نفحص الجمال الذي يظهر في أسنان غنم الجزائر: “أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متمِّم وليس فيهن عقم” [ع2]. إذا تأملنا في المعنى اللفظي لهذه الآية لا نفهم كيف يقارن الأسنان بالأغنام المولودة. تُمدح الأسنان لترتيبها ووضعها على اللثة. كان القطيع منتشرًا في الوادي والآن تجمع القطيع للاستحمام. أنها تصف جمال أسنان العروس ولكننا لا نفهم بسهولة كيف يكون ذلك. تصطف أسنانها في صفوف بينما القطيع مبعثرًا يبحث عن المرعى. ولكن لا يُقارن حيوان يكسو جسمه الصوف كالغنم وأسنانها مُعرَّاه أن نبحث كيف ينسجم جمال الأسنان مع قطيع الغنم الذي تم غسل صوفه وقصه وتَحمِل إناثه توائم.

ماذا يمكن فهمه من هذه الكلمات؟ والأشخاص الذين يُجزئون الأسرار الإلهية إلى أجزاء صغيرة حتى يمكن فهم النص يصنعون غذاءً روحيًا مقبولاً لجسد الكنيسة. إنهم يقومون بعمل الأسنان في اِستقبال خبز النص الكثيف السميك في الفم، ويجعلون كذاقه مقبولاً بواسطة التأمل والتفكير العميق فيه. يمكن فهم هذه الكلمات بالأمثلة الآتية: يقدم لنا القديس المبارك بولس ببساطة وبدون تعقيد جزء من الشريعة “لأنه مكتوب في ناموس موسى لا تَكُمّ ثورًا دارسًا” ( 1كو 9:9). ثم يعدل بولس معنى القانون لكي يجعله مقبولاً: “ألعل الله تهمُّه الثيران، أم يقول مُطلقًا من أجلنا. أنه من أجلنا مكتوب” (1 كو 9: 9-10). وأيضًا: “فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة” (غلا 4: 22). هذا الخبز ليس جاهزًا لنا. ولكن كيف نقسمه إلى أجزاء صغيرة لكي نأكله؟ أنه ينقل القصة إلى العهدين، “لكن الذي من الجارية وُلد حسب الجسد ولكن الذي من الحرة فبالموعد” (غلا 4: 23)، لذلك فلقد فسر بولس القانون بتخفيف كثافته إلى قطع صغيرة وجعله روحيًا بواسطة التفكير العميق. “فإننا نعلم أن الناموس روحي” (رو 7: 14). نفهم من كلام بولس حاجة الكنيسة إلى الأسنان لكي توضح تعاليمها بواسطة تجزئتها إلى أجزاء صغيرة. نحن نقول هذا متمثلين ببولس الذي يوضح لنا أسرار الكتاب المقدس. لذلك تجعل أسنان الكنيسة عشب الكلمات المقدسة الخام مجهزًا بسيطًا وخفيفًا لأجلنا. ويصف القديس بولس حياة الذين يتوقون إلى المركز السامي للأسقفية (1 تي 3: 1-7). ويتكلم عن الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الأسقف. تشمل نعمة التعليم مع بقية المواهب. لذلك يرغب النشيد في الذين يودون أن يخدموا الكنيسة أن تكون أسنانهم عارية من أي حمل مادي. وعندما يُصبح ضميرهم نظيفًا من أي تلوث جسمي أو روحي، فإنهم يرتفعون باستمرار ويتقدمون ولا يتراجعون مرة أخرى إلى الأعماق التي أتوا فيها. ثم يُقدمون على إنهم يحملون توائم من الخير، أي إنهم يتصفون بكل فضيلة ويثمرون في كل الأعمال الحسنة. ويرمز حمل التوائم إلى سمعتنا الحسنة حتى نكون مثل هذه الأسنان التي تحمل التوائم، والتي تُقدم ضبطه النفس، والنبل في حياتنا.

يضف النص مدح مناسب لشفتيّ العروس بمقارنة جمالها “كسِلكة من القرمز” ويؤدي تفسيره إلى زينة حديثها الطلي. لقد تكلمنا على هذه الفقرة عندما ذكرنا أن جمال الشفتين تزينه ترتيب الأسنان، لأن فم الكنيسة يتكلم من خلال الأسنان. لذلك فالأسنان أولاً عارية ومغسولة ليست عقيمة وتحمل توائم، ثم تتزين شفتيّ العروس باللون القرمزي، بينما يوجد للكنيسة شفة واحدة وصوت واحد في اِنسجام مع الخير. يشمل جمال العروس ناحيتين: شفتا العروس تشبه سلكًا رفيعًا، وأيضًا لها لون الزهرة الجميل. وكلا الصفتان السلك الرفيع واللون القرمزي يحتفظان بجمالهما ووظيفتهما عند يُزينان فم الكنيسة. ويعلمنا مثال السلك أو الخيط الرفيع أن نكون على فكر واحد أي حبل واحد مكوَّن من خيوط عديدة. ويذكرنا اللون القرمزي بالدم الذي خلصنا، وأن نعترف دائمًا بأفواهنا بأن الدم هو الذي فدانا. تملأ الجاذبية شفاة الكنيسة عندما ينير إيمان اعترافنا ويمتزج إيماننا بالحب.

نقدم الملاحظات الآتية لكي يزداد فهمنا للتشبيه السابق فالإيمان هو السلك القرمزي الذي يتكون من الحب لأن اللون القرمزي يرمز إلى الإيمان ويُفسر السلك بالحب. يشهد الحق بأن شفتيّ العروس تتزينان بهذان العنصران. ولا تحتاج شفتيها الجميلتان شرحًا إضافيًا لأن الرسول أوضح ما يرمزان إليه بقوهل أن هذا الكلام هو ما نعلنه عن الإيمان: “لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت. لأن القلب يؤمن به للبرّ والفم يعترف به للخلاص” (روم 1: 9-10). هذا هو الكلام البديع الذي يُزيّن الشفاه الكنيسة بالسلك القرمزي.

يفرح العريس بجمال فم عروسه واِحمرار خديها. ويُطلق على هذا الجزء من الوجه بالتفاحة نظرًا للتشابه لذلك، يقارن العريس تفاحة خدود العروس بقشرة الرمانة كالآتي: “خدك كفلفلة رمانة تحت نقابك” [ع4]. يمكن فهم مدح تواضع العروس بسهولة من سياق النص. أصاغ الفضائل على كل عضو بواسطة وصف جمال الوجه ثم يمدح فضيلة المثابرة بواسطة اللون الأحمر الذي يعلو وجه العروس ويزّينها مثل الرمان. هذه الفاكهة تشبه الكعكة وجلدها رقيق لذلك فعمل المثابرة يشارك التفكير العميق، وكما يغذي ويحمي جلد ثمرة الرمان، الذي يشبه الجزء الخارجي من الكعكة المذاق الحلو لما بداخله، لأنه يحيطها تمامًا، لذلك فهو حارس خشن ومنضبط من أجل المثابرة. لذلك فمدح هذه الفضيلة له وجهان: المظهر الخارجي لحياة منضبطة مرتبة، وعمل صادق للنفس خال من الانفعال، كما يقول الرسول: “وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس بل من الله” (رو 2: 29). ينير التواضع هؤلاء الناس ويكسب سلوكهم الخارجي مديح الآخرين، ولكن بعيدًا عن كونك ساكنة “تحت نقابك” [ع1] فإن العجب المختفي تراه عين الله الوحيدة التي ترى الأشياء المختفية.

نتعلم من الأمثلة الآتية أن كل شيء يعمله القديسون الذين يوحي لهم الله يصبح نموذجًا ودرسًا للأشخاص الذين يسلكون حسب الفضيلة. ويصوِّر الزواج والهجرة والحروب وأدوات البناء على ما سيحدث في الحياة للأجيال الآتية. “وهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكُتبت لإنذارنا نحن الذين اِنتهت إلينا أواخر الدهور” (1 كو 10: 11). نستفيد من الحرب ضد الأعداء بأن نكون أقوياء ضد الغرباء، وشوقنا العميق للرهبنة يوضح سر حياة الفضيلة. كما توضح الهجرة الأساس في حياة الفضيلة، يحفزنا الاِهتمام بإقامة المباني بأن نُظهر مسئوليتنا في بناء بيتنا بواسطة الفضائل. لذلك يظهر لي أن البرج الذي يمكن رؤيتهمن كل ناحية والذي أسسه داود واختار له الغنائم النفيسة أنبأ عن الكنيسة وصوّر هؤلاء الذين يسعون إلى الفضيلة. وعندما أُخضعت القبائل الغريبة للعبودية ارتفع مركز الملك بممتلكات القبائل الأخرى، لذلك أظهر الملك بواسطة حكمته الحياة البشرية الطيبة التي تنبأ بها داود من خلال بناء البرج الذي يرمز لحياتنا المستقبله. سيتعظم جمال جسد الكنيسة في كل عضو من أعضائها حسب عمله وموقعه في المجتمع. فمثلاً يصف النص الذين يأخذون مكان الرقبة بين الناس، بذكر برج داود الذي يُعرف بأسواره وتسمى هذه الأسوار “ثالبياث”.

عُنقك كبرج داود المبني للأسلحة. ألف مِجَن علق عليه، كلها أتراس الجبابرة” [ع4] أقام داود هذا البرج الكبير في موقع ممتاز بحيث يتمكن المشاهد أن يراه من جميع الجهات. وقد علق عليه ألف من الأتراس والحراب. والآن نودّ أن نفهم الغرض المقدس من هذا النص. لماذا يُقارن الرقبة – وهو عضو في الكنيسة – بهذا البرج؟ سنفحص أولاً هذا الجزء من جسمنا وهو الرقبة ثم نطبق ما يصل إليه على اسم عضو الكنيسة المسمى بالرقبة. تحمل الرقبة الرأس إلى أعلى وتعمل كقاعدة لها وتتثبَّت بين الكتفين، وتتدعم بعظام الفقرات العنقية التي تتمكن من الحركة في مجال واسع لعدم اِرتباطها بعظام القفص الصدري. تختلف عظام فقرات الرقبة عن العظام المدعمة للذراع أو الرجل، فهي مقسمة إلى فقرات تحمي ما بداخلها من النخاع الشوكي، وعليها ثقوب تخرج منها الأعصاب. ترتبط الفقرات بعضها ببعض بأربطة مرنة تسمح لها الحركة. وتوجد بالرقبة من الأمام القصبة الهوائية التي تمر بها هواء الشهيق حاملاً الأكسجين اللآزم لأكسدة المواد الغذائية، وإنتاج الطاقة اللآزمة للجسم. كما يمر بها هواء الزفير الذي يحمل بعض المواد التالفة الناتجة من أكسدة المواد الغذائية. ويوجد بالرقبة البلعوم وجزء من المريء، وهي قنوات تحمل الغذاء من الفم إلى المعدة. وتوجد بالرقبة الحنجرة وهي صندوق الصوت وتحتوي الأحبال الصوتية التي تهتز نتيجة لحركة الهواء في الحنجرة والقصبة الهوائية فتصدر الصوت. لذلك يسهل فهم رقبة جسم الكنيسة بعدما عرفنا بعض المعلومات عن التركيب التشريحي للرقبة، والتي يقارنها النشيد ببرج داود.

إذا حمل أي شخص الرأس الحقيقية لكل الخليقة، وهو المسيح: “ذاك الذي هو الرأس المسيح. الذي منه كل الجسد مركبًا معًا ومقترنًا بمؤزارة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة” (أف 4: 15-16). لذلك فإنه بحق يستحق أن يطلق عليه اسم رقبة. فإذا فهمت قلوبنا هذه المعلومات فإن الروح تُدفئها كالنار إذا انسجمت مع كلمته، عند سماع صوته يشكل الله الصوت الإنساني ليكون أداة لتحريك كلمته إلى القلب. تقوم الرقبة بوظيفة تغذية، أعني التعليم، الذي يعطي قوة لكل أعضاء جسد الكنيسة. إن الحصول المستمر على الطعام هو الذي يحفظ بقاء الجسم، وبدونه يضعف الجسد ويضمحل.

لنجعل شخصًا يمثل عمل فقرات الرقبة المنسجم، والذي يظهر كأن كل فقرة تمثل شخصًا، وكلهم مرتبطين مع بعضهم برباط السلام لكي يكوّنوا عضوًا واحدًا متماسكًا وقائمًا، ويتمكن من الحركة بسهولة من جانب إلى جانب الآخر. كان بولس هذه الرقبة. فإذا اتبع أي شخص مثال بولس وأصبح إناءًا مختارًا حاملاً اسم الله (أع 9: 15) ووحدت رأسه جميع أطراف جسد الكنيسة في انسجام، فإذا تكلم مثل هذا الشخص فإنه لا يتكلم من نفسه بل يتكلم كأنه الرأس، فالمسيح هو الذي يتكلم كما أوضح بولس (2 كو 13: 3). لذلك تربط القصبة الهوائية والحنجرة كلمة الحق مع صوت الروح القدس العذب الشجي. وتُجمل القصبة الهوائية بالكلام المقدس، وتغذي كل أعضاء الجسد بهذه التعاليم المحببة. تعمل الفقرات بانسجام الجسد بواسطة رابطة السلام والحب. من يعلِّم الرقبة أن تنحني في تواضع، إنها تتمكن من الحركة إلى اليمين واليسار، وإلى أعلى لكي نرى الأشياء العليا كما يمكنها أن تدور بعيدًا برشاقة وتحترس من جميع حيل الشيطان. داود قد أقام هذه الرقبة.

جهز الملك الذي جاء من نسل داود الإنسان ليكون القلعة الآمنة من السقوط. بناها داود بالنعمة وحصنها بالأتراس الكثيرة، حتى لا يتمكن العدو من الاقتراب منها بسهولة. والأتراس معلقة وليست على الأرض ويمكن رؤيتها معلقة في الهواء، ويوجد معها الحراب التي تُثير الفزع في العدو حتى لا يحاول الهجوم على البرج. إني أفكر فى أن هذا البرج بما عليه من أتراس وحراب يشير إلى الحرس الملائكي. لا يذكر النشيد ببساطة الحراب، ولكنه يضيف الرجال الأقوياء يحاربون إلى جانبنا فيغلب النشيد بكلمات المزمور: “ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز 33: 8). لا يمثل لي بدقة رقم الألف رقم مائة مضروبًا في عشرة، ولكنه يُشير إلى أن العدد كبير. ويُشير الكتاب في العادة إلى الأعداد الكبيرة بالرقم ألف. كما يقول داود: “مركبًات الله ربوات ألوف الرب في وسطها فصار جبل صهيون مماثلاً لجبل سينا في القداسة” (مز 67: 18). ثم “شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة” (مز 118: 72).

علمنا أن الجزء السفلي من الرقبة يرتكز على الكتفين، ويتميزان بالقوة اللازمة لذراعينا اللذين يجلبا الخلاص. يتمكن الذي يتأمل بدقة ترتيب كلمات نشيد الأناشيد من فهم نمو النفوس في الفضيلة نحو الله. فهو يعلم أن العروس قُورنت في المرحلة الأولى التي أحبها فيها العريس بالحصان الذي حارب طغاة المصريين، وكانت له رقبة جميلة مزينة بالسلاسل وحلي الرقبة، ولكنها تُلقب بالبرج لعظمتها. ويُشاهد البرج من كل الاِتجاهات ومن على مسافة كبيرة نظرًا لهندسته الرائعة المرتفعة إلى أعلى وموقعه فوق المنطقة المجاورة. وعندما يحصل هذا البرج على المركز المشترك العالي في السماء، فإنه يوضح صدق كلام الله: “لا تخفى مدينة موضوعة على جبل” (مت 5: 14).

دعنا الآن نتأمل في “خشفتي ظبية” بالقرب من قلب العروس والتي تسمى بالثديين “ثدياك كخشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن” [ع5]. يقع القلب بين الثديين ولا يوجد عنده عشب أو أشواك للرعي ولكن السوسن يبقى مزدهرًا طيلة مدة الرعي كلها. ولا تتكون للسوسن أزهارًا ولا يذبل في أوقات معينة، ولكنه يعطي طعامًا للخشفات حتى لا تسيطر ظلال الخطية على هذه الحياة. بدلاً من ذلك ينير الضوء كل مكان وتظهر كل الأشياء في النهار وتتنفس النور أينما رغبت. لأن النشيد يقول: “إلى أن يفتح النهار وتنهزم الظلال” [ع6]. أنتم تعرفون من الإنجيل أن الروح القدس يحلّ حسبما يريد، وينير لهؤلاء الذين من أين يأتي وإلى أين يذهب (يو 3: 8). يقول النشيد: “ثدياك كخشفتيّ ظبية، توأمين يرعيان بين السوسن إلى أن يفتح النهار وتنهزم الظلال”. ولكن “النهار” يشير إلى الروح القدس الذي يبث النور في كل من يحصل عليه. يجب أن لا نشك في معنى هذه الكلمات. إذا كان الروح القدس يُنتج أبناء النور والنهار أفلا يجب علينا أن نعرف أنه هو النور والنهار الذي يطرد الباطل والظلال؟ عندما تظهر الشمس لا تبقى الظلال بل تنسحب وتبتعد. إن الفرصة مواتية لكي نضيف لدراستنا للنص سرّ خشفتيّ الظبي التي تحمل توائم والتي تتغذى على السوسن في المرعى الجيد الخصيب. أن مكان المرعى هو القلب حسب المثل الذي تكل به السيد المسيح (مت 13: 3)، يزدهر كل الذين يرعون ويحصدون منه أفكار نقية. تجذب الرائحة الذكية واللون الجميل لزهور النرجس من يقطفها فرؤيتها متعة للعيون ورائحتها تُدخل البهجة للنفوس لأنها تمتلئ برائحة المسيح الذكية، بينما منظرها يوحي بالنقاء والطهر.

زال الآن غموض النص وأصبح واضحًا لنا، فعندما يفحص شخصان المعنى اللفظي والروحي للنص كل على انفراد، ثم يسيران سويًا في الحياة فإن كلا منهما يولد ميلادًا له ناحيتان: فلا تأتي الروح قبل الجسد، ولا يُخلق الجسد قبل الروح، ولكن كلاهما يُخلقان في نفس الوقت. وغذاؤهما هو النقاوة والرائحة الزكية وكل ما تجلبه الفضائل بوفرة. ولكن يوجد من يرغبون في الهدم أكثر من البناء، وهؤلاء لم ينموا على الفضيلة بل وجدوا مسرتهم في الأشواك. سمعنا عن المثل: “من ثمارهم يُعرفون. هل يجنون من الشوك عنبًاء أو من الحسك تينا” (مت 7: 16). وهو يسمي الخطية ما أنتجته لعنة الحيّة من حسك وأشواك. نحتاج إلى عين مُميزة لكي نقارن بدقة بين النرجس والأشواك حتى نختار كل ما هو للخلاص ونرفض ما هو فاسد. ويصير الشخص الذي له مثل هذه العين الفاحصة صدرًا حنونًا لكل الأطفال. كما كان بولس العظيم (1 كو 3: 1-6)، ويغذي أطفال الكنيسة المولودين حديث باللبن. لقد ذكر النشيد ثديّ العروس التوأم المولودان سويًا اللذان قارنهما. بخشفتيّ ظبي، ليؤكد أهمية وسمو هذا العضو للكنيسة. يقود كل ثدي الشخص إلى مرعى النرجس النقي بواسطة الحكم الصحيح والتمييز بين ما هو مغذي وما لايحتوي على غذاء كالأشواك. ويقوده في ذلك المبدأ المسيطر الذي يُرمز إليه بالقلب الذي يغذي الثديين. لا يبخل الثدي عن إعطاء النعمة بداخله ولكنه بعطي حلمة الكلمة لكل من هم في حاجة إليه، وهكذا يوفر الغذاء لكل أطفاله (أنظر تس 2: 7).

والآن تم مدح أعضاء جسد الكنيسة وسنخصص المدح في الكلمات الآتية إلى كل أعضاء الجسد بعد الموت، فالمسيح أبطل قوة الموت (عب 2: 14). عندما صعد إلى مجد ألوهيته الذي كان قبل إنشاء العالم. لأن العريس يقول: “أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان” [ع6]. يوضح النشيد مجد الله من خلال تعب المر والبخور ويضيف الكلمات الآتية: “كُلُّك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيب” [ع7]. تعلمنا هذه الكلمات أنه لا يتمكن لأحد أن يأخذ حياتك منك. المسيح فقط له سلطان أن يضعها أو يرفعها (يو 10: 18). أنه يذهب إلى “جبل المر”، ليس بقوّته حتى يفتخر بذلك ولكن بما كسب من نعمة، بعد ما ذاق المسيح الموت عن الخطاة (رو 5: 8). خلصت الطبيعة البشرية ومن وصمة الخطية بعد أن رفع حمل الله خطية العالم وحطم الإثم (يو 1: 29). لذلك يقول النشيد “كُلُّك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيب” ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. إن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال المجد معه (رو 8: 17) وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل، ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيب بغيض بواسطة المسيح، ومن خلال المسيح تنفصل عن الخطية. أنه مات وقام من الأموات لأجلنا، وله المجد والقوة الآن وإلى الأبد آمين.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى