لماذا القسم هنا؟
رتب الله الأسرار في الشريعة خلال موسى، وأكمل كل الناموس والأنبياء بنفسه. كما يقول: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الآنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل” مت17:5. فحّرم القتل بالنهي عن الغضب، وحّرم خطية الزنى بإبعاد الشهوة. وأزال لعنة الحنث في القسم: “أيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لاِتحنث بل أوف للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسى الله. ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء. بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا. ومازاد على ذلك فهو من الشرير” متى 5: 33-37.
تشهد النفس للكمال في نشيد الأناشيد، فقد أُزيل غطاء رأسها بنزع الجلد القديم وإزاحة البرقع عن وجهها، الذي يشير إلى التفكير المتردد أو المتشكك. بذلك تتمكن النفس من الاِتجاه مباشرة وباستقامة إلى الحق. تحَّلف العروس بنات أورشليم لا باسم عرش الله ولا بأسماء ملوك الله الذين يحملون اسم أورشليم، ولا بشرف رأس أي شخص التي تحمل الشعر الذي لا تتمكن من تحويل لونه إلى أبيض أو أسود، بل تنقل العروس قسمها إلى “الحقل” طالبة من وصيفاتها أن يقسمن “بقوته” “أحلفكن يا بنات أورشليم بالقوات وفضائل الحقل“5: 8. تقول العروس أنها جميلة بالتمام ونظيفة من كل عيب وأنها لا تتكلم في غير المفيد، لأن ذلك يكون من الشيطان – ولكن تتبع مثال ميخا (زكريا 9: 17)، فتتكلم العروس كلمة الله. فإذا كان أمر الله الذي أشير إليه سابقًا ذا قيمة كبيرة، يكون لقسم العروس في النشيد أهمية كبيرة. لأنها خالية من أي ارتباط أو موانع للقسم، كما أنها لم تسمح لوصيفاتها أن يقسمن بأسم المدينة الملكية أو بعرش الملك العظيم. (نتعلم هنا أن نمتنع عن التسرع في القسم الذي نعمله لله لأنه ليس في إمكاننا أن نضمن عرش أو مدينة في القسم).
يُحفظ شرف الرأس – الذي يوصف فيما بعد أنه يتكوّن من ذهب – والذي لايتحول الشعر فيه إلى أبيض أو أسود (كيف يصير الذهب أسوّد وكيف يتحول إلى اللون الأبيض؟) قدمت العروس هذا القسم للعذارى، الأمر الذي لم تمنعه الشريعة بل يجعله فرصة للمديح كما يقول النبي: “أما الملك فيفرح بالله ويفتخر كل من يحلف به” مز 63: 11. وحتى يكون معنى هذه الكلمات في حدود كلمت “نعم” و”لا” اللتين يحددهما الإنجيل لكي يؤكد الحق، يقول: “بل ليكن كلامكم نعم “مت 5: 37. لذلك فإذا كان هناك منعًا لأن نقسم بعرش الملك أو مدينة حكمة أو بالرأس الحقيقية فإن كلمت نعم ولا، هما وحدهما المسموح بهما، ومن خلالهما يمكن رؤية الحق في كلمة “نعم”، واضح أن القسم الذي أمرت به العروس وصيفاتها يحتوي معنى كلمة “نعم” عندما يكون من الضروري أن نؤكد ارتفاع نفوسنا: “أحلفكن يابنات أورشليم بالقوة وفضائل الحقل“:إذا وجدتن حبيبي، ماذا تخبرنه؟ “أني مريضة حبًا“.
لقد فسرنا هذه الكلمات حسب ما يشير إليه تتابع الأفكار. وسنلخص الآن المعنى المُتضمن في النص. يقول الرسول أن القسم الذي يؤكد الحق لا يمكن تغييره، أنه يضع حدًا لكل خلاف لأنه يحسم الأمور. “فإن الناس يقسمون بالأعظم ونهاية كل خلاف عندهم لأجل التثبيت هي القسم” (عبرانيين 6: 16). لذلك أمرت العروس وصيفاتها بقسم حتى يحفظه بدقة. ولذلك لكي أن يؤكد بصورة قاطعة لوارثى وعده، أن قراره لايتغير أبدًا وذلك بالقسم. فاستنادا إلى وعد الله وقسمه، وهما أمران ثابتان لا يتغيَّران ويستحيل أن يكذب الله فيها، نحصل على تشجيع قوى، بعدما التجأنا إلى التمسك بالرجاء الموضوع أمامنا (عبرانيين 6: 17-18). (لايقول احد قسمًا ما أقل من مستواه وشرفه). ويلزم الآن أن نفحص علوّ القسم الذي فرضته العروس على الوصيفات.
قالت العروس: “أحلفكن يا بنات أورشليم بالقوات وفضائل الحقل” ماذا تعني لنا هذه الكلمات عندما تحفزنا؟ نحن نفهم بالتأكيد أن كلمة الحقل ترمز إلى العالم كما يشرحها السيد المسيح (مت 13: 38). ماهي إذن “قوى”و”فضائل” العالم الكثيرة التي يُشير إليها القسم؟ يجب أن نفهم أن هذه القوى والفضائل أعلى من أنفسنا حتى يمكن للقسم أن يؤكدنا في الحق لهذه القوى والفضائل العظمى. لذلك يلزم أن نقدم تفسيرًا آخر للكلمات من أجل توضيحها: “أحلفكن يابنات أورشليم بالظباء وذكور الغزلان الحمراء في الحقول“5: 8. تعلمنا هذه الكلمات قوة العالم التي تؤكد صدق القسم.
يتحد الإنسان بالله بطريقتين:
- 1- أن لا يعتقد في أفكار خاطئة عن الحق مثل المعتقدات الغير صائبة كمعتقدات عأبدي الأصنام والهرطقة. في الحقيقة هذه هي “نعم”.
- 2- يلزم أن يكون للشخص عقل نقي يرفض كل اهواء النفس. لاتعارض بين هذه وكلمة “نعم”. .
عندما نتمسك بالفكرتين السابقتين، نتمكن من التفكير بعمق في الكائن بحق وأن نبعد كل الأهواء التي تضر نفوسنا. ترمز الظباء وذكور الغزلان الحمر إلى “القوة”. فالذي يختبر هذه الرموز بصدق يمتلك قوة هذه الحيوانات البرية المستهلكة والمخربة. توصى العروس وصيفاتها بهذه الكلمات “نعم”: فيلزم أن ينظرن بإيمان نحو الله ويجعلن حياتهن خالية من الأهواء. وعندما يتحقق هذا تتأكد فينا كلمة “نعم” التي لا يمكن تغيرها. هذا هو القسم الذي يقوى الحق في الإيمان ويُمجد كل واحد يتمسك به، كما يقول النبي (مز 63: 12). عندما ينظر الشخص بثبات إلى الحق ويعيش فيه بعد أن يغسل نفسه من كل تلوث بالشر، فإنه يبني تأكيد الإيمان بداخله. هذا الشخص الذي يحلف قسمًا لله، (مز 132: 3، 4) لن يدخل بيت سكناه، ولن يعلو فراشه، ولن يعطى عينيه نومًا، ولا أجفانه نعاسًا، حتى يبني بيتًا لتابوت الرب ومسكنًا لإله يعقوب القدير.
دعونا نستمع إلى تعاليم العروس ونرى ماذا ترغب، إذا كنا أيضًا أبناء أورشليم السمائية. ماذا تقول العروس؟ إذا وضعنا أنفسنا تحت القسم إلى “قوى” ذكور الغزلان الصافية العيون وإلى “الفضائل” ذكور الغزلان الحمراء التي تحطم الشر، فإننا نتمكن من رؤية العريس النقي وضارب سهام الحب. وستقول كل نفس له ” أني مريضة حبًا”
جروح الحب
جروح الحب جميلة، كما نتعلم من الأمثال: “أمينة هي جروح المحب وغاشة هي قبلات العدو” أمثال6:27. من هو الصديق الذي يسبب جروحا أفضل من قبلات العدوّ؟ تتضح الأجابة لكل من يعرف أسرار الخلاص. لأن الصديق الحقيقي الدائم لايتوقف حبه لنا حتى ولوكنا أعداءه، أما العدو فهو متوحش وغير أمين. لأنه يسبب لنا الموت بالرغم من أننا لم نؤذِه. أصاب الجرح الإنسان الأول نتيجة عصيانه الوصية التي تأمر بالبعد عن الشر (ويعتبر هذا الجرح انفصالاً عن ما هو طيب) بينما القبلة هي أمر لما هو ممتع وجميل. ولكن توضح التجارب أن جراح الصديق تُعتبر شرفًا وتقدر أكثر من قبلة العدو. لذلك أثبت الله لنا محبته، إذ ونحن بعد خطاه مات المسيح عنا رومية 8:5. التهبت العروس بالحب واظهرت أن سهم الحب يوجد عميقًا بداخل قلبها، وهذا يمَّثل الشركة مع الله لأن الله محبة (1 يوحنا 8:4)، تنفذ إلى داخل القلب بواسطة شوكة الإيمان، فنقول مع بولس: ” الإيمان العامل بالمحبة” غلاطية 5: 6.
ما حبيبك من جيب؟
لندع القارئ يفهم النص قدرما يستطيع بينما ندرس موضوع العذارى مع مُدرّستهن: “ما حبيبك من حبيب أيتها الجميلة بين النساء؟ ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا” 9:5. تشبه هذه الآية ما فسرناه سابقًا. رأت العذارى ما أثار اندهاشهن من نفس العروس عندما خاطبت الكلمة قائلة: ” نفسي خرجت على كلمته. ” لقد عرفن أنه بعد ما خرجت العروس، بحثت عن الذي لا يمكن تمييزه بأية علامة ونادت بصوت عال على من لا يمكن تلقيبه بأي اسم. لذلك قالت العذارى كيف نعرفه الذي لا يمكن مناداته بأي اسم ؟ أنه لا يجيب عندما ننادى، ولانجده عندما نبحث عنه. انزعى البراقع من على عيوننا كما فعل معك حراس المدينة، حتى نتمكن من معرفة أين نبحث عنه. احكي لنا عن حبيبك وطبيعته. أوصفي لنا، أيتها الجميلة بين النساء، الطريقة لمعرفته. أشيرى لنا على الواحد الذي تبحثين عنه، واذكرى لنا ما هي العلامات التي يمكن بواسطتها معرفة هذا الحبيب الغير مرئى، حتى معرفته بواسطة سهم الحب الذي جرح قلبك وزاد من رغبتك له من خلال الألم العذب.
انه الخالق المتجسد!
دعونا نعيد هذه الآية حتى نستفيد مما سقناه ونجعله يتمشى مع كلمات الوصيفات: “ما حبيبك من حبيب، أيتها الجميلة بين النساء؟ ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا؟“
دعينا نستمع بانتباه بعدما رُفعت براقعنا ونلتفت إلى الحق بعيون نفوسنا.
كيف تصف العروس لوصيفاتها ذاك الذي تبحث عنه؟
كيف تصف العروس في كلمات هيئة من ترغبه؟
كيف تُحضر العذارى من لا يعرفونه؟ المسيح غير مخلوق وأيضًا مخلوق: ونعلم أن الغير مخلوق هو أبدي وموجود قبل إنشاء العالم، وهو خالق الكل. وعلى الجانب الآخر يرشدنا الجزء المخلوق، لأنه تكوّن حسب جسدنا الوضيع (في 21:3). ويمكننا فهم الكلمات بطريقة أفضل إذا فحصناها حسب ما جاء بالكتاب المقدس. نحن نعرف أنه في البدء كان الكلمة وأنه كان دائمًا مع الله وأن الكلمة لم يُخلق، وبدونه لم يكن شيء مما كان (يو 3:1). والكلمة كان مع الله وكان الكلمة الله، وبه كان كل شيء. وُلد المسيح أي أنه أخذ جسدًا وحلّ بيننا. وأظهر تجسده عظمته بوضوح، أنه الله، الابن الوحيد لله الذي هو في حضن الآب، ظهر في الجسد، وقال عنه يوحنا: “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا” (يو 14:1).
بتجسده يقدس البشرية
لما كان السيد المسيح غير مخلوق وكان موجودًا قبل كل العصور فهو أبدي غير مُدرك وعظيم جدًا لا يمكن التعبير عنه، هو الذي ظهر في الجسد وسمح لنا أن نعرف بعضًا من صفاته.
تبحث الكنيسة هذه الناحية في المسيح وتعلمنا وتصفها بقدر ما تستطيع لكل السامعين. أني أتكلم الآن على أعظم سرّ في ديانتنا (1 تي16:3) وهو أن المسيح ظهر في الجسد، وعاش مع الناس على شكل عبد ولما أخذ طبيعة الجسد المائت من خلال العذراء غير الفاسدة، اِستمر المسيح في تقديس جموع البشر بتوحيدها معه في شركة سريّة. وغذى جسده أي الكنيسة ورتب بانسجام أعضاءها بالإيمان لكي تكوّن العين والفم والأيدى وجميع الأعضاء. هكذا يقول بولس “فإن الجسد أيضًا ليس عضوًا واحدًا بل أعضاء كثيرة” 1 كو 14:12.
لكل عضو وظيفة معينة، لكن لا تحتقر العين اليد ولا ترفض اليد الرجل بل يرتبط الجسم بواسطة اطرافه حتى تعمل جميع الأعضاء في انسجام مع الجسم كله. يقول بولس إن الله رتب لكل واحد في الكنيسة عمله: “وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين. لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملئ المسيح” أف11:4-13.
يقول بولس أيضًا: ” ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح الذي منه يستمد الجسد كله تماسكه وترابطه بمساندة كل مفصل وفقا لمقدار العمل المخصص لكل جزء لينشيء نموًا يؤول إلى بنيان الجسد بنيانًا في المحبة” أف15:4-16.
من يرى الكنيسة يتمكن من رؤية المسيح الذي يبنيها وينميها بانضمام المؤمنين المُخلصين إليها. ترى العروس بعيونها النقية، بعد ازاحة برقعها، الجمال المتناهي في العظمة والذي لا يمكن التعبير عنه لعريسها، ثم جُرحت بسهم روحي نادى، فإن الحب الثائر فيها يُدعى شهده. وليس في ذلك خجل أو عار لأن السهم ليس من جسد ولكن من الله. وتفتخر العروس بجرحها عندما تضع شهوتها الروحية في أعماق قلبها. وتخبر وصيفاتها بذلك قائلة: ” أني مريضة حبًا”.
خبرة الكنيسة مع عريسه
تتقدم العروس في الكمال، وكان عليها أن تُعلن لوصيفاتها جمال عريسها. ولم تتكلم عن ذلك منذ البداية (لأنها كانت غير قادرة على إظهار الجمال المقدس المتناهي في العظمة والذي لا يمكن التعبير عنه)، ولكنها تقود العذارى إلى الله المتجسد. (عمل يوحنا العظيم نفس الشيء (1 يوحنا1:1) بأن بقى صامتًا على من كان منذ البدء. غير أنه دوّن بدقة مارآه وسمعه ولمسته يداه بخصوص كلمة الحق). لذلك قالت العروس لوصيفاتها: “حبيبي أبيض وأحمر. مُختار بين ربوّة. رأسه ذهب إبريز. قصصه فضة fur حالكة كالغراب. عيناه كالحمام على مجارى المياه مغسولتان باللبن جالستان على مياة وفيرة. خدّاه كخميلة يسكنان عطورًا شفتاه زنابق تقطران مرًا مختارًا يداه كخاتمين من ذهبب مرصعّين بحجر كريم من ترشيش. بطنه عاج أبيض مُغلف بالياقوت الأزرق. ساقاه عمودًا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز. طلعته كلبنان. مختار كالأرز. حلقه حلاوة وكله مشتهيات هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم” 10:5-16.
تكوّن كل هذه الصفات عناصر جمال العريس،ذُكرت لمنفعتنا، لكنها لا تُظهر لنا جماله الغير مُدرك. لقد جاء إلى الأرض. رأيناه وتكلم مع بني البشر، ولبس الطبيعة البشرية كما يقول الرسول (رو20:1). وجعل الغير منظور مرئيًا بالأعمال وشهدت له الكنيسة.
إن تأسيس الكنيسة هو خلق جديد للعالم وحسب ما قال إشعياء النبي(إش17:65) هي خلق سماء جديدة (وكما قال بولس (كولوس5:2: إيمانكم في المسيح هو القوة).
خُلقت أرض جديدة تشرب المطر النازل عليها، وخُلق إنسان آخر تجدد حسب صورة خالقه بالميلاد الجديد من أعلى. وُوجد نور جديد يقول عنه المسيح: “أنتم نور العالم” مت14:5، “تضيئون بينهم كأنوار في العالم” فيلبى15:2،: لذلك تضيء كواكب كثيرة في قوة الإيمان. ليست الأعداد الكبيرة من الكوامب التي سماها الله هي العجائب الوحيدة في الخليقة. إن أسماءهم، يقول كلمة الله، مكتوبه في السماء (لقد سمعت خالق العالم الجديد يقول لكواكبه: “افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات” (لو20:10). وبالإضافة إلى هذه الكواكب التي خلقها السيد المسيح توجد شموس تُنير أعمالها الطيبة العالم. ويقول صانع هذه الشموس: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” مت16:5. ثم “حينئذ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” مت43:13. لذلك يمكن لمن يتأمل إلى ما هو منظور في الدنيا ويفهم الحكمة التي تُشير إليها جمال المخلوقات، أن يعمل مقابلة بين الجمال المنظور والجمال المعنوي الخفي أي ينبوع الجمال الذي نبعت منه جميع الأحياء الموجودة. وشبيه بذلك فالذي يرى هذا الخلق الجديد في الكنيسة يرى فيه أنه الكل في الكل. ومثل هذا الشخص يُقاد بالإيمان خلال ما هو محدود ومفهوم إلى معرفة الله الغير محدود. لهذا السبب تقترب العذارى من النفس التي ترتفع إلى الكمال حتى تُعرفّهم بحبيبها. وتشرح لهم بواسطة عمل الخلاص بعض صفات من تبحث عنه. وأوضحت أن الكنيسة بكاملها جسم واحد للعريس وعيّنت أهمية كل عضو من أعضائه، ولا يكمل الجسم إلاّ باِتحاد كل عضو من الأعضاء.
يهدف الكتاب المقدس إلى تعليمنا وقد مهدنا فيما سبق لهذا الهدف النبيل. ويبتدئ نشيد الأناشيد تعاليمه بجسم الإنسان، كما يبتدى متى بسلسة النسب من إبراهيم إلى داود (مت 2:1-17)، ويصف كلا السفرين أسرار الله حسب الجسد. وعلى الجانب الآخر يتكلم يوحنا العظيم على بداءات هذا السر الذي توجد جذوره في الأبدية، ويعلن أن كلمة الله كان موجودًا منذ البدء. وتحفز العروس وصيفاتها بمعتقدات مشابهة، لأن عقولنا لاتتمكن من تصور طبيعة الله الغير منظورة والغير مُدركة إلاّ إذا آمنا بالمرئى أو بالجسد من خلال الإيمان.
وتقول العروس: “حبيبي أبيض وأحمر” 10:5. ويصف الاختلاط بين هذين اللونين الرابطة الصحيحة للجسد. قد مررنا على هذا التعبير في السابق عندما شبهت العروس عريسها بتفاحة لونها هو خليط من الأحمر والأبيض. فالتفاحة لونها أبيض وتصبح حمراء كرمز للدم.
يولد كل جسد نتيجة للزواج، ولكن الشخص الذي يولد بالجسد خارج نطاق هذا السر، لا يخضع لنوازع الطبيعة البشرية ولا للأهواء الصادرة من العقل. وهو يعلم أن ولادة الجسد تنتمى إلى كل جنس البشر. تقول العروس أن الذي يشارك في الجسد والدم لونه أبيض وأحمر. على أة الاحوال باشارتها إلى طبيعة الجسد بهذين اللونين لم تقل إن المسيح يشاركنا في طريقة ميلاده ما يخص باقى البشر. بل بالحري أخذ الله طبيعتنا البشرية من جموع البشر التي ولدها. من خلال الأجيال المتعاقبة. ولكن المسيح وحده دخل إلى العالم بطريقة جديدة في ميلاده، فلم تتدخل الطبيعة في هذا الميلاد بل خدمته. لذلك تقول العروس أن عريسها أبيض وأحمر، أي أنه، يسكن في هذه الحياة الحاضرة باللحم والدم بينما ولد من نقاوة بتولية. الحبل به عذراوى، ولادته دون دنس أو آلام، وحجال عرسه هي القوة “الأعظم علواً” التي ظللت على العذراء كسحابة. هو المصباح في بهاء الروح القدس، ويتحرر فراشه من الهوى وزواجه من الفساد.
مُختاريين ربوة
يُسمى بحق، العريس المولود تحت مثل هذه الظروف “المختار من بين ربوات”، فقد كان خاليًا من الميلاد الناتج عن زواج، لأن وجوده لم يكن نتيجة لزواج لا توجد تسمية ترتبط بميلاد البشر يمكن أن نطبقها على ميلاد المسيح الذي لم يلوثه فساد والذي تم دون آلام حيث أن البتولية وميلاد الطفل لا يمكن تطبيقها على العريس في نفس الوقت. أُعطينا الابن بدون أب، فقد وُهب لنا الطفل بدون ميلاد. ولم تعرف العذراء كيف نشأ الجسم الإلهي داخل جسمها ولم تلده بالالآم كما يقول إشعياء النبي: “قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكرًا” إشعياء7:66. لذلك كان المسيح مختارًا، وكانت ظروف ميلاده مختلفة عن ظروف ميلاد أي بشر، وحياته على الأرض التي انتهت بالموت لم تبتدئ بالسرور، ولم تأتِ من خلال آلام الوضع. وحدث ذلك حسب ترتيب وتوقيت معيَّن.
لقد ادينت المرأة لتحبل بالأوجاع وتلد بالآلآم (تك16:3)، لأنها جلبت الموت على الطبيعة البشرية من خلال الخطية. لقد كان من الضروري أن تحمل “أم الحياة” طفلها بالفرح وتكمل حملها وولادته بالفرح.
لقد بشرها رئيس الملائكة جبرائيل “أيتها المملتئة نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء” لوقا28:1. ازالت رسالة الملاك الحزن لميلاد الأطفال في الخطية والذي ورثناه منذ البدء. لذلك هذا هو الطفل الذي أُعطيناه بطريقة خاصة للميلاد البتولى من بين ربوات الأطفال الذين ولدوا في الخطية، فحق أن يطلق عليه التعبير: “أبيض وأحمر” لأن لحمه ودمه مختاران من “بين ربوات البشر” بسبب عدم فساده وحريّته من آلام الوضع. لذلك فميلاده واضح ومختلف عن أي ميلاد آخر. تطبق العروس هذه الكلمات على عريسها بسبب طبيعة ميلاده المختلفة. أنت تعلم بالحقيقة أن كثيرين ولدوا من جديد وكان هو بكرًا بينهم (رو 29:8)، “هو البداءه بكر من الأموات”(كو 18:1)، هو الذي هزم ضربة الموت ورتب الميلاد من الأموات بقيامته (أع 24:2). كان المسيح أب لكل هذه الولادات رغم أنه لم يعاين هو نفسه من الآم الولادة. فلم يُجرب الولادة بالماء أو الولادة من الموت أو الولادة كأول مولود من هذا الخلق المقدس بل كانت ولادته خالية من الألم. لهذا السبب تقول العروس “مُختار بين ربوه”.
رأسه ذهب ابريز
دعونا نتأمل في جمال العريس الذي يُمدح في كل اجزاء جسمه: “رأسه ذهب إبريز” 11:5 وتعني كلمة “إبريز” ذهب نقي من كل شائبة. ويتبين لي أن الذين ترجموا كلمة إبريز من العبرية إلى اليونانية لم يجدوا أي كلمة تعادلها في المعنى. غير أننا نعلم أنها تعني النقاوة التي لا تختلط بأي شيء ردئ. ولقد سبق القول أن هذه الآية تشير إلى السيد المسيح رأس جسد الكنيسة (كو 18:1). نحن نعلم أن هذه الكلمة لا تشير إلى لاهوت المسيح السرمدى بل إليه كإنسان. لقد رأيناه على الأرض، وتكلم مع البشر، لقد كان ابنا للعذراء حيث خل لاهوته في جسده الذي أخذه منها. وكان أول ثمرة من الكتلة العامة لعجين البشر، حيث أخذ كلمة الله طبيعتنا، وأعادها إلى نقائها، وطهرها من كل عيب موروث. ويقول عنه النبي: “على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” إشعياء 9:53. “وهو مُجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية” عبرانيين15:4. لذلك فهو الرأس لجسد الكنيسة وأول ثمرة لطبيعتنا البشرية، خالٍ، من الشر ويتكون من ذهب نقي.
خصلات العريس
إن خصلات شعر العريس سوداء وداكنة مثل الغراب ( أني أذكر الغراب الذي يُقَّود العين المستهزئة [أمثال17:30]. أنه يستعمل هذه العين المستهزئة كغذاء لصغاره). إن خصلات شعر العريس هي أشجار السماء العالية التي ترتفع من الأرض إلى السماء. أنها تضيف إلى جمال العريس، لأنها ثابتة على رأسه الإلهية. وفي الحقيقة يعلم القارئ وظيفة الخصلات التي تعلمنا عن العريس ما سبق أن ذكرناه. “خصلات شعر مليئة بندى الليل” ويسمى الآنبياء هذه الخصلات المحملة بالندى “السحب”، ومنها يأتي مطر التعاليم التي تروى الأرض الجدباء، وتجعل حقول الله خصيبة.
يرمز السيد المسيح للرسل بكلمة “خصلة شعر”. كانت حياتهم الأولى سوداء مثل جابى الضرائب والسارق والمضطهد وأي شيء آخر وآكل لحوم مثل الغراب الذي يقور العيون. أني أتكلم عن رئيس سلطان الهواء لقوى الظلمة (أف2:2). وبنفس الطريقة تحول بولس من غراب إلى شجرة صنوبر دائمة الخضرة وأصبح “خصلة شعر” على الرأس الإلهية. كان بولس قبلاً مُجدفا ومُفتريا ومضطهدا (1 تي13:1)، أي كان غرابًا. ثم تحول إلى خصلة شعر ممتلئة بالندى السماوي من أجل أعضاء جسم (الكنيسة)، وأفرز اسرار كلمة الله الغامضة والخفية. لذلك أضافت خصلات الشعر الذهبية المدلاة من الرأس، لجمال العريس، وكأنها تتحرك بنسيم الروح القدس. وتحولت هذه الخصلات إلى تيجان لتجميل رأس العريس النقية. وتوضح لي الكلمات الآتية معنى خصلات الشعر: “وضعت على رأسه تاجًا من إبريز ” مز 3:21. لذلك فخصلات الشعر هذه تشبه أحجارًا كريمة تزين رأس العريس.
دعونا الآن نفحص ما يقوله النشيد عن عينى العريس: “عيناه كالحمام على مجارى المياه، مغسولتان باللبن” لايُفهم المعنى الكامل لهذه الكلمات (لأن ما نفهمه منها، في رأيى لايفيه حقه)، ولكني أقدم التفسير بعد الفحص الدقيق. يقول القديس بولس: “لاتقدر العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك” 1 كو 21:12. يعلمنا بهذا لأنه يلزم لجسد الكنيسة أن يستعمل كلا من العيون والأيادي حتى يعمل بكفاءة. فالتفكير العميق وحدة لا يبلغ النفس إلى الكمال إلا إذا كان مصحوبًا بالأعمال التي تقود إلى حياة طيبة من الناحية الأخلاقية. كذلك لا تكفي الحياة النشيطة إلا إذا كانت تحت قيادة متفانية في الواجبات الدينية الروحية. لذلك لأبد أن تعمل العيون مع الأيدي. قد يشير النشيد إلى معنى العيون ولذلك نعرف لماذا يمدحها وسنناقش أهمية يدي العريس في فقرة مقبلة.
عيناه كالحمام على مجارى المياه
الرؤية هي الوظيفة الطبيعية للعين، ولهذا السبب فموضعها يقع أعلى جميع الحواس. ولذلك فهي مؤهلة بالطبيعة لقيادة كل جسد. نسمع عن بعض الأشخاص يذكرهم الكتاب المقدس، ويقودنا إلى الحق مثل “الرائي” 1صموئيل11:9، و”الناظر” و”الرقيب” حزقيال17:3، يُسمى الآنبياء هؤلاء الأشخاص “عيونًا” ويمثلون هؤلاء الذين يُكلفون بالمراقبة والملاحظة والانتباه. ونعرف صفاتهم بمقارنة جمالهم بشيء أحسن. تقول العروس “عيناه كالحمام”، تمدح العروس عيون العريس لأنها تعمل حسب ارشاد الروح القدس وفهي بريئة ونقية.
يُعبر النص عن الحياة الروحية النقية بالحمام، الذي شاهد شبيهها يوحنا عندما حلَّ الروح القدس على المياه (يو 32:1)، لذلك فإن الذي يُعيّن بواسطة الله كعيون لجسد الكنيسة يجب عليه أن يغسل أي شيء يعوق بصره، لكي يقوم بوظيفة المراقبة والرؤية كما يجب. يقول الله أنه لا يوجد نوع واحد من المياه لغسل عيوننا، بل توجد أنواع كثيرة. فتوجد فضائل عديدة تمثل عدة ينابيع لتنقية المياه التي نغسل بها عيوننا لكي تُصبح نقية. والأمثلة على هذه الينابيع لتنقية المياه هي: المثابرة والعمل الدءوب، والتواضع، والصدق، والبر، والحزم والشجاعة، والرغبة في عمل الخير، والبعد عن الشر. تفيض أنواع هذه المياه وغيرها من نبع واحد وهو يضم مجاريها في مجرى واحد وبواسطتها تتنقي العيون من أي إفرازات للانفعالات.
وتُقارن العيون بالحمام “عندما تمتلئ بالمياه” وذلك لبساطة وبراءة هذه الطيور. ويقول كلمة الله: “مغسولتان باللبن”. لا يعكس اللبن أي صورة. بينما كل السوائل الأخرى تشبه المرآة، لها سطح ناعم يعكس صورة من يحملق فيها، إلاّ أن اللبن ليست له هذه الخاصية. هذه، إذن أحسن صفة لتمجيد عيون الكنيسة: أنها لا تعكس الصوِّر الغاشة المعتمة للأشياء غير الموجودة والخاطئة، الباطلة أو المضادة للطبيعة الصادقة للحق. إنهم ينظرون فقط إلى الواقع نفسه ولا يعكسون الرؤى الكاذبة وأوهام الحياة. لذلك تغسل النفس الكاملة عيونها في اللبن لكي تحفظ نقاءها.
يقدم النشيد الآن شيئًا يجعلهم يبذلون مجهودًا كبيرًا، العيون “الجالسة بجوار المياه الوفيرة”. يطلب منا كلمة الله أن نطبق تعاليم الله بدقة وباِستمرار وبانتباه، حتى تُمتدح عيوننا بالنقاء. وتُعلمنا أننا يمكن أن نتمتع بجمال العريس نفسه بالجلوس باِستمرار بالقرب من ” المياه الوفيرة”. وفي الحقيقة أن كثير من الذين أُشير إليهم كعيون أعلنوا توقفهم عن المثابرة في عمل الخير وبدلاً من ذلك جلسوا بالقرب من أنهار بابل وأدانهم الله نفسه: “تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينفروا لأنفسهم آبارًا مشققة لا تضبط ماء” إرميا13:2. لذلك لا بد للعين أن تصبح جميلة وتناسب رأس العريس المذهبة، أي أنها ستكون نقية مثل الحمام، وصادقة ليس بها غش مثل اللبن، ولا تخدع أبدًا بالأوهام الخيالية. فيلزم أن نجلس متحلين بالصبر بالقرب من المياه المقدسة الوفيرة مثل شجرة ثابتة نامية بالقرب من المياه الجارية. وهكذا تثمر في الوقت المناسب وتبقى الفروع خضراء مزدانة بألوان أوراقها الجميلة (مز 3:1).
يجعل الكثير من الأشخاص عيونهم الروحية تُهمل هذه المياه ولا يُعيرون كلمة الله ألا انتباها ضئيلاً. بل يحفرون لأنفسهم بئرًا للطمع لكي تخدم مجدهم الباطل، ويعملون آبارًا للكبرياء ويحفرون آبارًا للخداع التي لا تبقى فيها المياه التي يريدونها على الدوام. لذلك فهم يمجدون القوة والعظمة التي يحاولون تجميعها ولكنها تتسرب فجأة إلى الخارج ولا يبقى أي أثر لمجهودهم الباطل للأشخاص الذين غرروا بهم. يرغب كلمة الله من هؤلاء الأوصياء والذين يقومون بوظيفة الحراسة أن يقيموا حائطا للحماية (جفون عيونهم) بتأكيد تعاليم الله. ويلزم أن يخفوا نقاء وبهاء حياتهم بضبط النفس ويخبئونها بجفون عيونهم حسب القول حتى لا يسقط شعاع الغرور على عيونهم. وسنفحص أعضاء العريس الأخرى إذا وهبنا الله الوقت بنعمة ربنا يسوع المسيح له المجد إلى الأبد آمين.