Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – حياة القديسين صورة لحياة المسيح

قال الربّ يسوع: “أنا نور العالم، من يتبعني لا يخبط في الظلام، بل يكون به نور الحياة” (يو8: 12، أنظر12: 46). وفي الرسالة إلى العبرانيين يوصف المسيح بأنه “شعاع مجد الله وصورة جوهره” (عب1: 3).

والإنسان الذي يستنير بالأفعال الإلهية غير المخلوقة “تشرق في قلبه معرفة مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه المسيح” (2كو4: 6) ويغدو “مشاركاً للمجد الإلهي” (يو17: 22) و”مساهماً في قداسة الله” (عب2: 10) وفي “نور العالم” (متى5: 14) و”مجد المسيح” (2كو8: 23). أو كما يقول بولس الرسول: “نحن جميعاً نعكس صورة مجد الربّ بوجوه مكشوفة كأنها مرآة، فنتحول إلى تلك الصورة، وهي تزداد مجداً على مجد” (2 كو3: 18).

فالمسيحي الذي يحيا في نعمة الله يغدو “عضو جسد المسيح” (أف3: 6)، أي جزءاً من جسد الإله المتأنس، فيحيا حياة المسيح نفسها (غلا2: 20) ويشع بالنور الإلهي (2كو4: 6). ويقول بولس الرسول أيضاً: “افعلوا كل ما تفعلون من غير تذمرّ ولا خصام لتكونوا بمنجاة من اللوم والكدر وأبناء الله بلا عيب في جيل ضال فاسد تضيئون فيه ضياء النيرات في الكون” (فيل2: 14-15، أنظر عب13: 21).

ولقد تجاوب قدِّيسو كنيستنا مع هذه الدعوة فعاشوا حياة المسيح، عاملين بقول الرسول: “فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ. وإذا كانت لي حياة بشرية، فإنها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وضحّى بنفسه من أجلي” (غلا 2: 20)، و”اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح” (1 كو11: 1). وهكذا صاروا “شهداء المسيح المؤمنين” (رؤ2: 13) ووقفوا “أمام العرش وأمام الحمل” (رؤ7: 9).

وحياة هؤلاء القديسين هي حياة المسيح التي يعيشها كل منهم بطريقة مختلفة. ولكنهم جميعاً عاشوا “بالروح” وساروا “حسب الروح” (غلا5: 25)، وكانوا “رسالة المسيح التي لم تُكتب بمداد، بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر بل في ألواح من لحم ودم، أي في قلوبكم” (2 كو3: 3).

وعندما نتأمل حياة القديسين سنرى أن عقائد كنيستنا ليست حقائق ذهنيّة، بل هي حياة الإنسان الحقيقيّة ونبع الحياة الأبديّة. فقد اتَّحد هؤلاء القديسون بالمسيح وغمرهم نور الروح القدس، فكانت حياتهم صورة مصغَّرة لحياة المسيح نفسه. أمّا أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم فكانت أفكار المسيح وأقواله وأعماله، لأن حياتهم كلها هي ثمرة عمل الروح القدس في داخلهم. وهكذا صاروا “خليقة جديدة في المسيح” (2 كو5: 17)، أي خليقة الله الجديدة الدالة على عمل الله في حياة الإنسان الروحية. فقد تجاوبوا مع الطبيعة البشرية كما خلقها الله، فاستطاعوا أن يرشدونا إلى حقيقة الإنسان وكيف ينبغي أن يحيا.

ب – نور المسيح في حياة القديسين

يُعبِّر الكتاب عن مجد الله بالنور الإلهي غير المخلوق، الذي يعلن حضور الله المثلَّث الأقانيم في العالم وعمله فيه. فهذا المجد هو “لهيب النار” المرسل من عرش الله (دا7: 9)، ونور “العلّيقة الملتهبة” (خر3: 2، أع7: 30- 33)، أي النار التي شاهدها موسى، لأن أحداً لا يمكنه النظر إلى وجه الله (خر24: 29-30، 2 كو3: 7).

وهذا المجد نفسه هو الذي تسربل به النبي إيليا لمّا ارتقى إلى السموات (في عاصفة من النار على مركبة خيل نارية) (حكمة سيراخ48: 9، الملوك الرابع2: 11)، وهو يُسربل أيضاً جميع شعب الله (أش60: 19-20). إنه النور غير المخلوق الذي “أشرق” فيما بعد على رعاة بيت لحم (لو2: 9)، وعلى تلاميذ المسيح في جبل التجلّي فأعطاهم لباس المسيح (لو9: 29، متى17: 2)، وظهر لأول الشهداء استيفانوس (أع7: 55)، ولبولس الرسول (أع9: 3، 22: 6-11). وهو يُعطي لكل مؤمن بالمسيح (متى5: 14، يو17: 22، 2كو3: 18).

ومجد الله “نراه اليوم في مرآة رُؤيةٍ مُلتبسة”، أي أنه غير واضح تماماً. إلاّ أن رجال الله سيعاينون في الحياة المقبلة كامل عظمة المجد الإلهي، لأنهم سيرون الله “وجهاً لوجه” (1كو13: 12) و”كما هو” (1 يو3: 2)، و”سيضيئون كالشمس)” (متى13: 43، أنظر رؤ21: 9، 22: 5، أش60: 19-20).

والمسيحي يتذوّق هذا المجد مسبقاً في حياته الحاضرة، كما أكَّدا بولس الرسول لأهل فليبي: “إن المخلِّص يسوع المسيح سيبدل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد” (3: 21)، أي مشابهاً لجسده نفسه. ويحثُّ الكورنثيين على تمجيد الله حتى “في أجسادهم” (1كو6: 20). وقد اختبر قدّيسو كنيستنا هذه الحقيقة سواء في حياتهم على الأرض أو بعد رقادهم بالربّ. فإنه “متى ظهر راعي الرعاة تنالون إكليلاً من المجد لا يذوي” (1 بط5: 4)، ولكننا لا نعلم عن هذا الإكليل سوى أنه انعكاس لنور ذلك المجد الإلهي: “أمّا سبيل الصدّيقين فمثل النور المتلألئ الذي يندرج في إنارته إلى قائم النهار” (أمثال4: 18).

ويتحدث السنكسار “كتاب سيَرْ القديسين” مراراً عن النور الذي أشعّ من القدّيسين أثناء حياتهم وكان يراه لأطفال الأبرياء وأناس آخرون. والمقصود بهذا النور أفعال الله، أو كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس: “النور غير المخلوق الذي يحوّل كل شيء في حياة القديسين”.

ففي سيرة القديس أرسانيوس نقرأ: “إن شيخاً أتى إلى هذا البار لينتفع بأقواله. ورأى نافذة قلايته مغلقة فلم يقرع الباب لئلّا يزعجه، ولكنه نظر من ثقب، فشاهد البار محاطاً بالنار. وقد بقي على هذه الحال مدة طويلة وهو يرتعش”. ونقرأ في سيرة القديس نكتاريوس أن “راهبة جاءت إليه لتشكو من شلل في الرأس فوجدته يقيم سرّ الشكر. وعندما حانت لحظة تناوله الجسد الإلهي رأته يلتهب بالنار، فخافت أن تقترب منه”.

عندما تمتلئ نفس الإنسان بروح الله، أي عندما يصبح بالحقيقة “مسكناً لله بالروح” (أف2: 22) يغدو كل شيء حوله منيراً، حتى جسده ولباسه، لأن كل شيء فيه يشترك بمجد الله ويصبح ينبوعاً للبركات.

لقد ارتقى إيليا النبيّ (في مركبة نارية) مغموراً بالنور غير المخلوق، وصار وشاحه الذي تركه لأليشع ينبوع بركة حقيقية (4 ملوك2: 11-…). وفي حوار موتوفيلوف والقديس سيرافيم ساروفسكي الذي كان النور يحيط به وينتقل إلى محدِّثه، نقرأ: “سألت الأب سيرافيم: كيف يمكنني أن أعرف ما إذا كنت أنا أيضاً في نعمة الروح القدس؟ فأجابني: هذا أمر بسيط جداً يا محب الله. فقد قال الربّ أن كل شيء مستطاع عند من يحصلون على المعرفة. وقد بقي الرسل في هذه المعرفة لذلك كانوا يعلمون دائماً ما إذا كان روح الله فيهم أم لا.كانوا ممتلئين من روح الله ومعاينين مرافقته لهم. وكانوا يكرزون وهم يَعْلَمون أن عملهم مُقدّس كله ومُرْضٍ لله. وهذا الأمر يفسِّر لماذا كتب الرسل: “لقد رأى الروح القدس ونحن” (أع15: 28). فقد استندوا إلى هذه القاعدة واعتبروا أن رسالتهم تحمل الحقيقة التامة التي تساعد جميع المؤمنين. لقد كان الرسل القديسون يشعرون في أعماق قلوبهم بحضور الروح القدس الإلهي ويلمسونه لمس اليد. فهل رأيت أن هذا بسيط يا محب الله؟ فسألته: على رغم ذلك فإنني لا أفهم كيف أستطيع الآن أن أتأكد بالكلّية أنني “في الروح القدس”، وكيف أستطيع أن أميزّ في داخلي حضوره الحقيقي؟ فأجلب الأب سيرافيم: قلت لك يا محب الله أن هذا بسيط جداً، وسردت لك كيف يستطيع الناس أن يكونوا في الروح القدس، وبأية طريقة نستطيع الشعور بحضوره في داخلنا. فماذا تريد إذن يا ولدي؟ فقلت: أريد أن أفهم بصورة أفضل. فأمسكني من كتفي بقوة وقال: يا ولدي، إننا الآن في روح الله القدوس، فلماذا لا تنظر إلى وجهي؟ فأجبته: لا أستطيع أن أنظر إليك يا أبتِ، فإن لهيباً يشعّ من عينيك، ومحّياك مضيء أكثر من الشمس، وعينايّ تؤلماني! فقال: لا تخف يا محب الله، فأنت تضيء مثلي، وأنت أيضاً في ملء الروح القدس، وإلاّ لما كنت تستطيع رؤيتي هكذا…) (1)

ج – فضيلة القديسين تنتقل إلى الطبيعة غير الناطقة

“إذا أطعت أمر الربّ إلهك، حافظاً جميع وصاياه التي أنا آمرك بها اليوم وعملت بها، يجعلك الرب إلهك فوق جميع أمم الأرض، وتحل عليك البركات وتشملك إذا أطعت أوامر الرب إلهك، فتبارَك في المدينة وتبارَك في الصحراء، ويبارَك ثمر بطنك وثمر أرضك وثمر بهائمك، ونتاج بقرك وقطعان غنمك، ويبارَك سلّتك ومعجنك” (تث28: 1-5).

عندما يبقى المرء أميناً على محبة الله، ومعبِّراً عنها بمحبته الشخصية، أي بتطبيق الوصايا، فإنّ نعمة الله تبقى فيه، وتفيض على محيطه كله وتجعله مباركاً. فيشعر حينئذ بعمق علاقة المحبة مع الخليقة بأسرها، ويعبّر عن هذه العلاقة بطرق مختلفة.

يقول القديس اسحق السرياني أن الإنسان الرؤوف “يصلّي في كل لحظة بدموع من أجل الطبيعة غير الناطقة أيضاً، ومن أجل أعداء الحق ومن أجل الذين يؤذونه، لكي يُحفظوا ويُغفر لهم. ويصلّي أيضاً من أجل الزواحف لأن الرأفة العظمى تتحرك في قلبه بدون حدود أو قياس، فيشابه الله في ذلك”.

القديسون يشعرون أنهم متّحدون بالعالم أجمع ويحسّون بمسؤولية شخصية عن الخليقة كلها، فيصلّون من أجل استعادة كل شيء وتجديده، أي إعادته إلى وحدته وانسجامه الأوَلين (أنظر أيوب5: 22-23).

يقول القديس اسحق: “يقترب الإنسان المتواضع من الوحوش المفترسة الكاسرة، فما أن تراه حتى تهدأ ثائرتها وتدنو إليه كأنه سيّدٌ لها وتهزّ رأسها وتمسح يديه ورجليه، لأنها تشمّ فيه ذلك الأريج الذي كان يفوح من آدم قبل المعصية ثم نُزع منّا. إلاّ أن يسوع المسيح أعاده إلينا مجدَّداً بحضوره إلى الأرض، فعطر بالطيب الجنس البشري كله، حتى أن الشياطين بالرغم من شراستها وغطرستها، إذا اقتربت منه تغدو كالتراب ويزول كل خبثها ولا يعود لحبائلها ومكرها أية قوة”.

والحقيقة أن أمثلة القدّيسين الذين عاشوا علاقة الوحدة والمحبة، حتى مع الوحوش الضارية، مؤثِّرة جداً. فقد أرسل مَلِك كبادوكية بعض فرسانه ليلقوا القبض على القديس ماما. ولكن القديس علم مسبقاً بحضورهم، بواسطة نعمة الله، فخرج لاستقبالهم. فلما وصل إليه الجنود لم يعرفوه، وسألوه عن مكان إقامة القديس ماما. فقال لهم الشهيد: “أيها الأصدقاء، يجب أن تستريحوا الآن، فترجّلوا وتعالوا معي لنأكل، ثم أرشدكم إلى ماما.

واستضافهم القديس بكرم، فتناولوا الخبز والجبن بشهيّة كبيرة. وفيما هم يأكلون أتت بعض الوحوش المفترسة فداعبها القديس كعادته. إلّا أن الجنود ارتاعوا كثيراً لمرآها، فتركوا الطعام مُلتجئين إلى الشهيد ليساعدهم. فأخذ يشجِّعهم. ثم أراد أن يحررهم من كل همٍّ فقال لهم: “أنا هو ماما الذي تطلبون. فأرجوكم أن تعودوا إلى قيصرية وسأتبعكم سريعاً”.

ويروى أيضاً أن القديس جيراسيموس أوكل إلى أحد الأسود التي كانت تتردد إليه، الاهتمام بحماره.

ونرى في الكتاب المقدّس كثيراً من هذه الأمثلة. فإن داود لما كان في سن الشباب “لاعب الأسود ملاعبته الجداء، وكأنها حملان الضأن” (حكمة سيراخ47: 3، أنظر1 ملوك17: 34-37). أمّا دانيال الذي أُلقي في جب الأسود فإنه بقي سالماً طوال الليلة ولم تؤذه الأسود، لكنها للحال افترست المتآمرين عليه وحتى قبل وصولهم إلى قعر البئر. ويصف العهد القديم هذه الحادثة كما يلي: “اجتمع الوزراء والأقطاب عند الملك وقالوا له: أيها الملك داريوس حييت إلى الأبد. إن جميع وزراء المملكة والولاة والأقطاب والعظماء والحكام قد ائتمروا في أن يصدر حكم ملكي بأن كل من سأل سؤالاً من إله أو إنسان إلى ثلاثين يوماً إلاّ منك أيها الملك، يُلقى في جب الأسود. فالآن أيها الملك أصدر الأمر وارسم الكتابة بحيث لا يقع تغيير، كما هي شريعة ماداي وفارس التي لا تنسخ. فرسم الملك داريوس الكتابة والأمر. فلمّا علم دانيال برسم الكتابة انطلق إلى بيته وكانت كواه مفتوحة في غرفته جهة أورشليم، فكان يجثو على ركبتيه ثلاث مرّات في اليوم ويصلّي ويعترف لله كما كان يفعل من قبل… فاجتمع أولئك الرجال لدى الملك وأخبروه بما حصل. وقالوا اعلم أيها الملك أن شريعة ماداي وفارس أن كل أمر وحكم يحكمه الملك لا يغيّر. حينئذ أمر الملك فأُتي بدانيال وأُلقي في جب الأسود. فأجاب الملك وقال لدانيال: أن إلهك الذي أنت مواظب على عبادته هو ينقذك. وأُتي بحجر فوضع على فم الجب وختمه الملك بخاتمه وخاتم عظمائه لئلا يتغيّر القصد من دانيال. ثم مضى الملك إلى قصره وبات صائماً ولم تدخل عليه سراريه ونفر النوم عنه. وفي الغداة قام الملك عند الفجر وبادر فانطلق إلى جب الأسود. ولمّا اقترب الملك من الجب نادى دانيال بصوت حزين وخاطبه قائلاً: يا دانيال عبد الله الحيّ لعل إلهك الذي أنت مواظب على عبادته استطاع أن ينقذك من الأسود. فأجاب دانيال الملك: أيها الملك حييت إلى الأبد. أن إلهي أرسل ملائكته فسدت أفواه الأسود فلم تؤذني لأنني وجدت ذكياً أمامه. وأمامك أيضاً أيها الملك لم أصنع سؤاً. ففرح الملك فرحاً عظيماً وأمر أن يخرج دانيال من الجب، فأُخرج ولم يوجد فيه أذى لأنه آمن بإلهه.

ثم أمر الملك فأُتي بأولئك الرجال الذين وشوا بدانيال وأُلقوا في جب الأسود هم وبنوهم ونساؤهم، فلم يبلغوا إلى أرض الجب حتى بطشت بهم الأسود وسحقت جميع عظامهم (دا6: 6-24).

تُظهر هذه الأمثلة من حياة القديسين أن فضيلة أبناء الله ومحبتهم تؤثران في محيطهم بكامله، حتى في الوحوش المفترسة. فيعيشون في هذه الحياة المصالحة مع الخليقة بأجمعها. وهذه الوحدة ستكتمل في الأزمنة الأخيرة حينما “يرعى الذئب والحمل معاً. والأسد كبقر يأكل التين. أمّا الحية فالتراب يكون طعامها. لا يضرون ولا يفسدون في جبال قدسي كله، قال الربّ” (أش65: 25).

د – الحالة المضادة في حياة الأشرار

لقي أعداء دانيال الذين افترستهم الأسود عقاباً نموذجياً يتلاءم تماماً مع روح العهد القديم: “وإن لم تطع كلام الرب إلهك، حافظاً وصاياه ورسومه التي أنا آمرك بها اليوم، ولم تعمل بها، تأتي عليك هذه اللعنات كلها وتدركك. فتكون ملعوناً في المدينة وملعوناً في الصحراء. ويكون ملعوناً سلًك ومعجنك. وملعوناً ثمر بطنك وثمر أرضك ونتاج بقرك وقطعان غنمك” (تث28: 15-18، أنظر أش24: 3-7، إرم7: 20).

ينقل الأشرار خبثهم وشرهم إلى محيطهم كله، حتى إلى الجمادات (يهوذا23). فعندما ثار قورح ضد المصف الكهنوتي الذي أقامه الله، تلقّى الإسرائيليون أمراً من الله نفسه بالابتعاد عن أخبية المتمرّدين وأغراضهم لئلا يمحقوا. وخاطب موسى الجماعة قائلاً: “تباعدوا عن مساكن القوم البغاة ولا تمسّوا شيئاً ممّا لهم لكي لا تنقرضوا بجميع خطاياهم” (عدد16: 26).

ونقرأ في سيرة القديس إيلاريون الكبير أن رجلاً محباً للمال نقل خبثه إلى نتاج بستانه. وكان يبتغي الصفح من القديس فطلب وساطة تلاميذه ولا سيما إيسيشيوس أقربهم إليه. ثم أعرب عن رغبته بأن أحضر إليهم بعض الحمّص بمثابة هديّة وعربون صداقة. فأخذه إيسيشيوس ووضعه على المائدة دون أن يخبر القديس بالأمر. ولكن القديس الذي يحمل في قلبه المسيح كاشف الخفايا، عرف بالأمر. فنظر إلى إيسيشيوس بقسوة قائلاً: ألم تشمّ رائحة محبة المال الفائحة من هذا الحمّص حتى وضعته على المائدة؟ فرد إيسيشيوس بتواضع: إنني لا أشمّ أيّة رائحة أيها الأب الكريم. فقال له البار: أعطه إلى البقر تعرف أنني لا أكذب. فما أن وضعه أمام البقر حتى أمالت وجهها عنه كأنها ترى شيئاً مخيفاً.

هـ – صلوات القديسين

“كيف أعاملك يا افرائيم وأصنع بك يا إسرائيل. أجعلك كأدمة وأصيرك كصبوئيم. قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت مراحمي. لا أنفذ غضبي ولا أهم بعد بتدمير افرائيم لأنني أنا الله لا إنسان، وفيك قديس فلا أدخل المدينة” (هوشع11: 8-9).

نرى في أقوال الله هذه المحبة الإلهية التي تحيط بالقديسين وتخلِّص مدينة بكاملها (أنظر أيضاً تك18: 23-32، يهوديت 8: 31)، أي أن المدينة وسكانها كلّهم يخلصون بواسطة المحبة الأخوية التي للقديسين. وهذه المحبة “لا تسقط أبداً” (1 كو13: 8)، بل تربطنا “مع جميع القديسين” بكامل الكنيسة الظافرة. ويقول بولس الرسول: “وهؤلاء كلهم تلقوا شهادة حسنة بإيمانهم، ولكنهم لم يحصلوا على الموعد، لأن الله دبَّر لنا تدبيراً أفضل فلم يشأ أن يدركوا الكمال إلاّ معنا” (عب11: 39-40). وفي رؤيا يوحنا نجد صورة جميلة تظهر العلاقة الوثيقة بين القديسين وأعضاء الكنيسة المجاهدة: “رأيت تحت المذبح نفوس الذين سُفكت دماؤهم في سبيل كلام الله والشهادة التي شهدوها. فصرخوا بأعلى صوتهم: إلى متى، يا أيها القدوس الحق، ترجىء الاقتناص والانتقام لدمائنا من أهل الدنيا؟ فأُعطي كل منهم حلّة بيضاء وأُمروا بأن يصبروا قليلاً إلى أن يتمّ عدد إخوتهم وأصحابهم الذين سيُقتلون مثلهم” (رؤ6: 9-11).

هذه الصورة الجميلة تُظهر اتحاد القديسين بنا ومشاركتهم لنا في الفرح والحزن (أنظر أيضاً لو15: 7)، وشفاعتهم بنا أمام عرش الله.

ويقول أحد اللاهوتيين المعاصرين أن كل مسيحي أرثوذكسي يستطيع أن يتوجّه في صلواته الخاصة إلى أي عضو في كنيسة السماء، سواء أكان معترفاً به كقديس أم لا. وإنه لأمر طبيعي أن لا يطلب الولد اليتيم شفاعة والدة الإله وحسب، بل شفاعة أهله الراقدين. أمّا في العبادة المشتركة فإن الكنيسة تتوسّل إلى أولئك الذين أُعترف بأنهم قديسون.

و – هل يستمع الله إلى صلوات القديسين؟

في الكتاب المقدّس إشارات واضحة إلى رأفة الله ومحبته للقديسين ووقوفه على آراء أبنائه الذين كرّسوا حياتهم له. فنرى مثلاً أن إبراهيم يفاوض الله من أجل خلاص سدوم وعمورة، ويتجاسر أن يكرِّر اقتراحاته أمام الله، ونرى أن الله قد قبلها (تك18: 22-33). ويخاطب الله موسى قائلاً: “والآن دعني أقوِّض هؤلاء بغضبي العادل، وأجع منك ومن نسلك أمة عظيمة”، فيجيبه موسى ببساطة ودالّة: “يا رب لمَ يضطرم غضبك على شعبك الذين أخرجتهم من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟” (خر32: 9-11). ويذكر الكتاب المقدس أن الله استجاب إلى توسّل موسى ولم يعاقب الشعب (خر32: 14، أنظر أيضاً مز105: 23)، لأن مشيئة “خائفيه” ستتم و”طلباتهم تستجاب” (مز144: 23، أنظر أيضاً أيوب42: 7-8، تك20: 17). ويذكر سفر إرميا أن الله سيغفر لمدينة أورشليم كلها إذا وجد فيها صدّيق واحد “يقول الربّ: طوفوا في شوارع أورشليم وأنظروا وتفرّسوا وفتّشوا في ساحاتها. هل تجدون إنساناً؟هل يوجد مَن يجري الحكم ويطلب الحق فأعفو عنها؟” (إرم5: 1، أنظرحز22: 30).

ولكن هل يستمع الله إلى صلوات القديسين أبان وجودهم على الأرض وحسب؟ يعلّمنا الكتاب أن القديسين الذين في السماء يصلّون من أجل إخوتهم، فيجترح هؤلاء العجائب. فإن أليشع، بالرغم من نيله “نعمة مزدوجة” (4 مل 2: 14) لم يتمكن من فصل مياه الأردن عندما رماها بوشاح إيليا، إلا أن الماء انقسم لما ضربه مستدعياً اسم إيليا (2ملوك 2: 14). أمّا أونيا رئيس الكهنة فقد رأى في حلمه يهوذا المكابي رافعاً يديه إلى السماء ومصلياً بحرارة من أجل بني جنسه. ثم يظهر له في حلم آخر شيخ مهيب الطلعة يقول عنه أونيا: “هذا هو إرميا نبي الله، محب الإخوة، المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدسة” (2 مكا15: 12-14).

وهذه الأمثال لا توجد في العهد القديم وحسب. فإن يوحنا الرسول يرى صلوات القديسين وكأنها كؤوس من ذهب ممتلئة بخوراً (رؤ5: 8)، أي كأشياء ثمينة جداً في عين الله. ويرى أيضاً أن الله يحفظ وعده للقديسين ويستمع لطلباتهم من أجل إخوتهم: “وجاء ملاك آخر ووقف عمد المذبح ومعه مجمرة من ذهب، فأُعطي بخوراً كثيراً ليقدِّم صلوات القديسين كلهم على مذبح الذهب الذي أمام العرش. فصعد دخان البخور من صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله. وأخذ الملاك المجمرة وملأها من نار المذبح وألقاها على الأرض فحدثت رعود وبروق وزلزلة) (رؤ8: 3-5).

بصلوات القديسين يأتي الجواب للحال من المذبح وعرش الله، فيعاقب الشر ويعيد نظام الله إلى العالم. ويمكن القول أن مصير العالم بأسره في أيدي القديسين، وكذلك خلاص الكنيسة المجاهدة على هذا الكوكب (أنظر متى19: 28، 1كو6: 2). فالملائكة تنقل صلوات القديسين إلى عرش الله وتقرِّبها ذبيحة روحية على المذبح السماوي (طو12: 12-15، زك1: 12).

قد يلاقي بعض الناس صعوبة في إدراك هذا الأمر، فينكرون شفاعات قدّيسي كنيستنا، ويتساءلون: كيف يمكن أن يسمعنا القديسون؟ وهل موجودون في كل مكان؟ إننا لا نعلم الطريقة التي بها يعرف القديسون أحداث حياتنا، ولكننا متأكدون أنمهم يصلّون لأجلنا وأن صلواتهم تبلغ عرش الله. وإذا تأملنا ما ورد في سفر الرؤيا نستطيع القول أن القديس يوحنا قد استعمل تعابير إنسانية إذ قال أن الله يشعر بعاطفة خاصة نحو صلوات القديسين، وإننا متّحدون في جسد المسيح الواحد “مع جميع القديسين”، وأن كلاً منا هو خليّة حيّة في جسده، وأن الواحد يخص الآخر، وعليه ن يعبِّر بطرق مختلفة عن هذه الرابطة الأخوية. وهذا الأمر لا يمكن تحقيه إلاّ في حياة الكنيسة وخاصة في القداس الإلهي حيث تتم الوحدة الحقيقية. ولذلك يقول الكاهن بعد تقديس القرابين المكرَّمة: “وأيضاً نقرِّب هذه العبادة الناطقة من أجل الكنيسة المقدّسة الجامعة الرسولية”، ويضيف في مكان آخر: “…بعد ذكرنا جميع القديسين لنودِع أنفسنا وذواتنا وبعضنا بعضاً للمسيح الإله”.

ز – أعياد القديسين

“يا ربّ، أن الخلقة كلها تعيّد في ذكرى قدّيسيك. السموات تفرح مع الملائكة، والأرض تبتهج مع البشر.

ينال القديسون يوم رقادهم نصيباً “في القيامة الأولى”، ولا يعود هناك “سلطان للموت الثاني عليهم”، ولذا يوصفون بـ “المطوبين والقديسين” (رؤ20: 6). فرقاد القديسين عظيم جداً، لذلك لا يعيد له البشر وحدهم بل الملائكة و”الخليقة كلها”.

وتشبّه كنيستنا، منذ القرون الأولى، رقاد القديس بـ “يوم ميلاده” وتعيّد لذكراه “بفرح وابتهاج”، “لتذكار الذين جاهدوا قبلنا وتهيئة الذين سيجاهدون في المستقبل” (من كتاب استشهاد القديس بوليكاربوس +156). وقد احتفظت الكنيسة الأرثوذكسية حتى اليوم بهذا التقليد المسيحي الأول، فأقامت دائماً الأعياد والاحتفالات لتكريم ذكرى القديسين أو ذكرى أحداث معيّنة من حياتهم تمَّت بفضل نعمة الله (نقل رفاتهم، ذكرى عجائبهم الخ…).

ح – المسيح هو المخلِّص الوحيد

إن تكريمنا القديسين وطلبنا منهم أن يتوسّلوا إلى الله من أجلنا، كما لو كنّا نتوجّه إلى أحد إخوتنا الأحياء (كول 4: 3، 1 تس5: 25، 2 تس3: 1، عب13: 18) لا يعني أننا نقف خلاصنا عليهم. فالمسيح “الناهض من بين الأموات”، الإله الحقيقي الصالح والمحب البشر هو الذي يرحم الإنسان ويخلِّصه. ووالدة الإله الكلّية القداسة والملائكة وجميع القديسين لا يخلِّصون الإنسان، بل “يتشفّعون” به و”يؤازرونه” و”يحفظونه” ويرفعون إلى الله توسّلات من أجل إخوتهم ومشاركيهم في العبادة.

الإيمان الأرثوذكسي هو إيمان بالمسيح المخلِّص الوحيد، وبمحبة البشر له وللقديسين الذين هم أيقونات حيّة للمسيح وللثالوث القدوس. وهذا ما تعبِّر عنه صلاة الكنيسة: “أيها المسيح إلهنا الحقيقي الذي قام من بين الأموات، بشفاعات أمك الكلّية الطهارة والبريئة من العيب، وبقوة الصليب الكريم المحيي، وبطلبات القوات السماويين المكرَّمين العادمي الأجساد، وتوسّلات النبي الكريم السابق المجيد يوحنا المعمدان وجميع القديسين، ارحمنا وخلصنا، بما أنك صالح ورحوم ومحب للبشر”.

ط – الملائكة القديسون

“بصليبك أيها المسيح صار الملائكة والبشر رعيّة واحدة، وكنيسة واحدة. السماء والأرض تبتهجان، فيا أيها الربّ المجد لك”.

هذا النشيد من إينوس الأربعاء للّحن الأول يظهر وحدة الملائكة مع البشر المؤسَّسة في جسد الربّ. فالملائكة القدّيسون أعضاء في عائلتنا الخاصة “في المسيح”. وقد ثبتوا في الفضيلة بذبيحة الربّ على الصليب، ولبثوا أمناء على الصليب، ولبثوا أمناء على رسالتهم الأولى، أي التمجيد والخدمة (أش6: 3، لو2: 14 الخ…).

ويوضح الرسول بولس: “إنهم كلهم أرواح مسخَّرون يُرسلون من أجل الذين يرثون الخلاص” (عب1: 14). فالملائكة الذين يشتركون في جسد الربّ الواحد ويسخَّرون للخدمة، يكونون على صلة وثيقة بنا ويفرحون كلَّما عاد إنسان ما إلى المسيح وعاش حياة التقوى (لو15: 10).

ويقول نشيد الإثنين للّحن الثالث: “ترسل أيها المخلِّص للذين سيؤمنون بك في العالم، الملائكة الأطهار كحرّاس للخلاص تحيط بعبيدك”. ويخبرنا الكتاب المقدّس أن لكل مسيحي ملاكه الحارس (تك48: 16، خر23: 20، طوبيا5: 4، مز33: 8، دا10: 13-20، متى18: 10، أع12: 15)، ويمكنه أن يتوسّل إليه في صلاته قائلاً “أيها الملاك القديس، الملازم نفسي الشقيّة وحياتي الذليلة، لا تهملني أنا الخاطئ، ولا تبتعد عني لأجل إسرافي…”.


(1) “سيرافيم ساروفسكي” سلسلة القديسون”، منشورات النور ( الناشر )

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى