Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

“المخطوطات بالنسبة إليّ هو يسوع المسيح، المخطوطات هي صليبه وموته وقيامته والإيمان الذي من عنده” (القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ).

واو العطف، الظاهرة في عنوان هذا المقال، لا يراد بها أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تعتقد بمصدرين للإيمان، بل بمصدر واحد بعضه مكتوب، أي مسجّل في الكتب المقدّسة، وبعضه الآخر منقول شفاهًا، ووصل إلينا بالتتابع (أنظر: قوانين القدّيس باسيليوس الكبير، القانون 92).

طبعًا، هذا التعريف يغيظ المعمدانيّين الذين يفخرون بأنّه قيل عنهم “إنّهم أهل الكتاب” (هيرشل هوبس، عقيدة المعمدانيّين ورسالتهم، صفحة 25). ومن قرأ كتبهم، يعرف أنّهم لا يتورّعون عن اتّهام الكنيسة المقدّسة بأنّها انحرفت، منذ عهد الأوّلين، عن “سلطة الكتاب المقدّس كالمصدر الوحيد للتعليم والممارسة” (الموقف الكتابيّ، العدد 5). فالكتاب المقدّس وحده Sola Scriptura من دون غيره، يجب، برأيهم، “أن يكون مصدر تعليم الكنيسة المسيحيّة الحيّة وممارستها”، وألاّ يزاحمه “على سلطانه وتأثيره في الكنيسة وفي نفوس المؤمنين”، لا “التقليد”، ولا “تعليم الكنيسة”، ولا “المجامع المسكونيّة”، ولا “الهرميّة الإداريّة”، ولا “الممارسات الطقسيّة المستهجنة”، ولا غيرها (الموقف الكتابيّ، الأعداد 6 و14 و16؛ روبرت أ. بايكر، سير المعمدانيّين في التاريخ، صفحة 10- 12). ويضحكنا “بايكر”، في كتابه المذكور هنا، بقوله: “ومن العقائد التي تحدّت المسيحيّة عقيدة العارفين (Gnostics) الذين ادّعوا أنّ لهم تقليدًا أو معرفة منقولة غير مكتوبة أنشئت في أيّام الرسل. وقد قاوم إيريناوس هذه البدعة محاربًا النار بالنار قائلاً: نحن أيضًا لنا سلسلة كنائس ورعاة ترجع بتاريخها إلى أيّام الرسل عينهم. ويبرهن هذا التتابع الواضح أنّنا نحن ذوو الحقّ تسلّمناه من الرسل، وأنّ العارفين وتتابعهم غير الواضح لم يتسلّموا ذلك الحقّ. ومن وقت عبارة إيريناوس ولعنة التقاليد والخلافات تقلق الكنيسة” (صفحة 11).

لم أقلْ يضحكنا بايكر استهزاءً. فالمعمدانيون، في هذا الموقف، يريدون أن يوهموا أتباعهم بأنّ التقليد الحيّ، الذي لعنه صاحبنا، ظهر في زمن القدّيس إيريناوس أسقف ليون، أو هو مصدره. وهذا هو المضحك. والواقع، الذي لا يذكره المعمدانيّون، أنّ القدّيس إيريناوس، استلهم ما هو موجود قبله، وهو أنّ “الكنيسة الواحدة المنتشرة في أصقاع العالم تتكلّم بصوت واحد، وتحفظ، في كلّ موضع، الإيمان ذاته كما سلّمه الرسل وحفظه تعاقب الشهود”. وهذا لم يعنِ، يومًا، أنّ المسيحيّين الأوّلين أضافوا شيئًا إلى سلطان الكتاب المقدّس، أو قبلوا أن يزاحمه شيء. فالمسيحيّون، منذ البدء، وعوا أنّ الكتاب لا يفهم، بطريقة صحيحة، إلاّ على “قاعدة التفسير الكنسيّ الجامع”. وهذا كان، عندهم، الوسيلة الوحيدة لمعرفة معنى الكتاب وكشفه. والمعروف أنّ تفسير الكنيسة للكتاب المقدّس كان المنهج اللاهوتيّ الأهمّ لصدّ الهرطقات التي انتشرت في القرون الأولى، والتي كان روّادها يحتكمون إلى الكتاب (أنظر: 2 بطرس 3: 16 و17). وأكّد آباؤنا المدافعون أنّ الكتاب المقدّس ينتمي إلى الكنيسة، ولا يُفهم فهمًا وافيًا، أو يفسّر بطريقة موافقة، إلاّ ضمن جماعة الإيمان القويم المتأصّل في بشارة الرسل وكرازتهم. وإذا رجعنا إلى تعليم القدّيس إيريناوس الذي استهزأ به “بايكر”، لا نشكّ في أنّ التتابع، أو التعاقب الكنسيّ الآتي من الرسل، هو، عنده، الذي يحفظ الإيمان سالمًا، ويفسّر الكتاب من دون خطر. وأنّ التقليد، في مفهومه، لم يكن مجرّد نقل عقائد متوارثة، بل الحياة المستمرّة في الحقيقة.

هذا يؤكّد مكانة التقليد الحيّ، في حياة الكنيسة، منذ البدء. غير أنّه يفترض سؤالاً يناسب المعمدانيّين، وهو: هل يتطلّب فهم الكتاب استعارات خارجيّة، أو أنّه هو يفسّر ذاته بذاته؟ في سياق الجواب، لا بدّ من التأكيد أنّ آباء الكنيسة أدركوا أنّ الهراطقة، في تقديمهم تعاليمهم، كانوا يلعبون على آيات الكتاب، ويقتطعون قولاً من هنا وأقوالاً من هناك، ويجمعونها، ليؤكّدوا انحرافهم. وهذا، بالطبع، يشوّه “نموذج الكتاب وبنيته الداخليّة وتآلفه”. ولذلك كان رأي آبائنا أنّ “قانون الإيمان”، الذي يتلوه المؤمن في معموديّته، هو المرشد إلى قراءة الكتب المقدّسة، أو المفتاح الوحيد لفهم معانيه. هذا ما شدّد عليه، في مبحثه الشهير، “معارضة الهراطقة”، العلاّمة ترتليانوس الذي رفض رفضًا قاطعًا أن يقرأ الكتاب مع الهراطقة، أو أن يباحثهم في المواضيع الإيمانية التي لا يتّفقون مع الكنيسة حولها، لأنّ الكتاب، برأيه، “لا يخصّهم”. ثمة ضوابط يعوزها تفسير الكتاب حتّى لا تتشتّت الجماعة الواحدة، وحتّى لا يصيبها ما أصاب المعمدانيّين أنفسهم الذين تفرّقوا فِرَقًا عدّة، وحاولوا أن يغطّوا انقساماتهم بمعاداتهم الكنيسة المستقيمة وبأفكار غريبة يحسبون أنّها الحقّ.

يبقى أن ندلّ من يهوى الحقيقة على بعض الآيات التي تثبت وجود تقليد حيّ كان، وما يزال، ذاكرة الكنيسة الحيّة التي حفظت فيها رسالة الخلاص الواحدة (ومنها: يوحنّا 20: 30 و31؛ 21: 25؛ 1كورنثوس 11: 2 و34؛ 2كورنثوس 3: 3- 6؛ 2تيموثاوس 1: 13؛ 2: 1 و2؛ 2يوحنّا 12؛ 3يوحنّا 13 و14). وهذه الآيات، وغيرها، تؤكّد، بما لا يقبل جدلاً، أنّ الكرازة الرسوليّة قامت، دائمًا، على أساس هذه الذاكرة المقدّسة التي تحفظ وحدة إيمانها عبر الدهور، وفق مشيئة الربّ (يوحنّا 17: 20 و21)، وأنّ كلمة الله الحيّة باقية أبدًا داخل الكنيسة وموجّهة إلى كلّ إنسان، في كلّ زمان ومكان، بغية إحيائه.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى