“على الكنيسة أن تقرّر، وعليَّ أن أنفّذ” – الإمبراطور قسطنطين الكبير
“الكنيسة مؤسّسة سماويّة، وليست جمعيّة أرضيّة، ولا يحقّ لقادتها توريطها في متاهات السياسة”. بهذا الكلام يعلّل المعمدانيّون أحد مبادئهم الأساسيّة، ألا هو “فصل الكنيسة عن الدولة”. ومن أضاع وقته بقراءة ما كتبوه، لا يفوته أنّ بغيتهم، بهذا المبدأ المبني على تزوير التاريخ، انتقادُ الكنيسة وتشويهُ المسيحيّةِ ديانةِ التجسّد. فالظاهر أنّ كتّابهم يتّهمون الكنيسة (ولا سيّما الكاثوليكيّة) بأنّها سارت في ركاب الدولة منذ أن توقّف اضطهاد المسيحيّين في القرن الرابع، وبأنّ هذا هو سبب ظهورها (الموقف الكتابيّ، 14؛ روبرت أ. بايكر، سير المعمدانيّين في التاريخ، صفحة 141 و290؛ فنلي م. جراهم، اللاهوت النظاميّ، صفحة 290). والذي يقولونه عن مسيحيّي الغرب، ينسحب على المسيحيّين جميعاً (ج. م.، كارول، تاريخ الكنائس المعمدانيّة، صفحة 39).
لا بدّ من التأكيد، في سياق الردّ على المعمدانيّين، أنّ من تسنّى له أن يطّلع على التاريخ الكنسيّ، أو يقرأ أعمال المجامع المسكونيّة، لا يخفى عليه أنّ الكنيسة لم تثبّت قاعدة قانونيّة واحدة تعطي المسؤولين المدنيّين حقّ التدخّل في شؤون حياة الكنيسة الداخليّة، ولو أنّ بعض الأحداث التاريخيّة أظهر أنّ ثمّة أباطرة دعوا إلى عقد بعض المجامع المسكونيّة، وترأّسوها أحياناً. فهذا، برأي خيرة علماء الحقّ الكنسيّ، شواذّ عن القاعدة المدرجة في الكتب المقدّسة والقوانين الكنسيّة، ولا يمكن البناء عليه، أو تشريعه. فالعهد الجديد لم يجعل وحدة بين الكنيسة والدولة (متّى 22: 21؛ يوحنّا 18: 36، 19: 11؛ رومية 13: 1- 7؛ 1تيموثاوس 2: 1 و2؛ تيطس 3: 1 و2؛ 1بطرس 2: 13- 17). ولم تتبنَّ القوانين ما هو شاذّ، أو كان حدوثه نادراً. وخير ما سُمح به هو التعاون في سبيل ضبط بعض المخالفات وردع المخالفين والهراطقة، وتالياً مساعدة الفقراء والأرامل والمقهورين في الأرض (أنظر مثلاً: مجمع أنطاكية، العام 341، القانون 5 و12؛ مجمع سرديقية المكانيّ، العام 343 أو 344، القانون 7 و8؛ مجمع قرطاجة، العام 419، القانون 106؛ المجمع المسكونيّ الرابع، العام 451، القانون 12).
هذا كلّه لا يذكره المعمدانيّون في عرض مبدئهم. ونحن لا ننتظر منهم أن يبيّنوا الحقّ. والحقّ، الذي نضعه أمام عيني القارئ، أنّ مساهمة الأباطرة في الدعوة إلى المجامع المسكونيّة كانت لها أسباب وضعيّة عدّة، ومنها: مكانتهم العظمى في العالم القديم، واهتمامهم بوحدة شعوبهم (السياسيّة والعقائدية وغيرها)، وصعوبة الاتّصال أو التواصل بين أصقاع الأرض. وما قبول الكنيسة أن يترأّس أباطرة بعض مجامعها، سوى اعتراف بسلطتهم المدنيّة الرفيعة التي لم تعنِ، قطّ، سلطة في الكنيسة أو عليها، ولا حتّى صلة بها أحياناً. فما يعرفه المعمدانيون أنّ الإمبراطور قسطنطين الكبير، مثلاً، لم يكن مسيحيّاً لمّا دعا إلى انعقاد المجمع المسكونيّ الأوّل في نيقية (ج. م.، كارول، تاريخ الكنائس المعمدانيّة، صفحة 38 و39). وهذا، كما ذكرنا، لم يعنِ أنّ الكنيسة جعلت لهذا التصرّف شرعة قانونيّة، ولا أنّها تنازلت عن مصدر السلطة الكنسيّة الوحيد الثابت في تعليمها، وهو “الخلافة الرسوليّة المعطاة برسامة الأساقفة” التي ينبذها المعمدانيون باعتبارهم أنّها انتهت “بموت الرسل” (أنظر: المقدّمة التي وضعها كلارنس ووكر لكتاب ج. م. كارول، تاريخ الكنائس المعمدانيّة، صفحة 12).
غير أنّ تعليم المعمدانيّين يمنع منعاً باتا الاهتمام بالعمل السياسيّ. وهذه مخالفة ردّ عليها سيادة المتروبوليت جورج (خضر) في كلامه على علاقة الكنيسة والدولة في لبنان. ويحلو لنا، هنا، أن ننقل بعض ما قاله. يقول المطران جورج: “أمّا في لبنان، فنحن الأرثوذكس مع الدولة وإزاء الدولة بآنٍ واحد. نحن مع الدولة إلى أن تسود دولة الله السماء والأرض ومن بينهما. الملكوت، وحده، يلغي التركيبة السياسيّة. لذلك نحن، في التاريخ، سياسيّون. ولكن ليس لنا، بمقتضى الإنجيل، أو بوصفنا مسيحيّين، إيديولوجيّة معيّنة. المسيحيّة تنزع إلى أن تلتحم بأخلاق ومسلكيّة جماعيّة، وهي تستدعي معايشة الآخرين بمحبّة. ومن أجل هذا هي متوطّنة، ولكنّ الملكوت يجعلها في مسيرة. لذلك هي غريبة في أوطانها، وتطلب الوطن السماويّ مقرّاً أخيراً. فمع لزوم شؤون الأرض جميعاً، تبقى المسيحيّة حرّة من الإيديولوجيّة” (الكنيسة والدولة، صفحة 40). الواضح، في هذا الموقف الذي يبيّن الفارق الجوهريّ بين الكنيسة والدولة، أنّ قائله لا يرى أنّ ثمّة مانعاً يمنع المؤمن من أن يكون له دور في ما يجري في العالم الذي يحيا فيه، لا بل يطلب أن يكون له دور. من يحيَ لله في العالم، ويَتُقْ إلى حلول ملكوته كاملاً في اليوم الأخير، ويَسِرْ فيه ونحوه منذ الآن، يحضّه وعيه على أن يسعى إلى أن يشدّ الأرض إلى السماء، أي أن يساهم في جعلها سماويّة “الآن وهنا”. هذا أساسه إيماننا بأنّ ابن الله، الذي بتجسّده “ساكَنَ البشرَ”، لا تقبل محبّته استقالة في الدنيا، أو إهمالاً لشؤون الأرض وأهلها. فما دام هناك مظلومون ومقهورون وجياع يصرخون، لا يليق بأعضاء الكنيسة أن يصمّوا آذانهم، باعتبار أنّ وجع الأرض يعني غيرهم، ولا يعنيهم هم! وهذا، الذي لا يعني أنّ ثمّة تلاحماً بين ملكوت الله ومملكة قيصر، لا يعني، تالياً، أنّ ملكوت الله أمر يخصّ، بالكلّيّة، الدهر الآتي. فالإنجيل له متطلّباته على الصُعُد الاجتماعيّة. والمسيحيّ الحقيقيّ لا يجوز أن يجهل أنّ انتسابه إلى الملكوت يفترض، لزاماً، أن يتعهّد هذه الصعد كافّة.
إنّ مبدأ “فصل الكنيسة عن الدولة”، كما يرسمه المعمدانيّون، هو ترفّع عن المسيحيّة ديانة التجسّد. فالله، الذي هو إله العدل والحرّيّة والسلام، لا يقبل بأن نعبده في حدود جدران الكنيسة فحسب. فرغبته أن يسود العالم، ويتجلى فيه أيضاً. هذا هو شرط الانتساب إلى كنيسة الله الحرّة في العالم التي أُطلقت، “لتعلن ملكوت الله، وتعلّم، بكلّ جرأة، ما يختصّ بالربّ يسوع المسيح” (أعمال 28: 31).