يعتقد بعض المعمدانيّين “أنّ المسيح بعد عودته سيملك على الأرض ألف سنة”. ويظنّون أنّ هذا الملك هو “امتداد لعصر الملكوت الذي كان قد توقّف، وانقطع بسبب عدم إيمان اليهود في زمن الرسل”. وطبيعة هذا الحكم، الذي “يبدأ بمجيء المسيح مع قدّيسيه”، “أنّ المسيح نفسه يكون ملكاً”، وأنّ “أورشليم هي عاصمة ملكه” (ولا يكون على الأرض، بل فوقها). أمّا الأحداث، التي سترافق انتهاء هذا الملك، فهي: “ارتداد وعصيان، إبادة الشيطان، الدينونة أمام العرش الأبيض العظيم، أرض جديدة وسماء جديدة” (هيرشل هوبس، عقيدة المعمدانيّين ورسالتهم، صفحة 175؛ فنلي. م. جراهم، اللاهوت النظاميّ، صفحة 314- 317؛ عوض سمعان، الكهنوت، صفحة 107، 152).
قبل الردّ على هذا الاعتقاد، لا بدّ من التذكير بأنّ نشرة “رعيّتي”، قد خصصت أيضاً في سياق الردّ على بدعة “السبتيّين”، مقالاً بعنوان “المملكة الألفيّة” (46/1999). ويقدر القارئ على أن يعود إليه، ليقف على بعض النقاط التي لن نتطرّق إليها هنا (1).
الاعتقاد بما نقلناه عن “الحكم الألفيّ” هو، في الواقع، قراءة مغلوطة لما جاء في رؤيا الرسول يوحنّا الذي هو، في جوهره، من أسفار الكتاب المقدّس الرمزيّة. ولذلك نجد أنّ نقل ما جاء فيه وتوضيح معناها بهدف دحض كلّ زعم غريب، هو أمر ضروريّ ونافع. يقول الرسول: “ورأيت ملاكاً هابطاً من السماء، بيده مفتاح الهاوية وسلسلة كبيرة، فأمسك التنين الحيّة القديمة، وهي إبليس والشيطان، فأوثقه لألف سنة وألقاه في الهاوية، ثمّ أقفل عليه وختم، لئلاّ يُضِلَّ الأُمم، حتّى تنقضي ألفُ السنة، ولا بدّ له بعد ذلك من أن يُطلَق قليلاً من الوقت. ورأيت عروشاً، فجلس أناس عليها، وعُهِدَ إليهم في القضاء. ورأيت نفوس الذين ضُرِبت أعناقهم من أجل شهادة يسوع وكلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته ولم يتلقّوا السِّمَةَ على جباههم ولا على أيديهم قد عادوا إلى الحياة، وملكوا مع المسيح ألف سنة. أمّا سائر الأموات، فلم يعودوا إلى الحياة قبل انقضاء ألف السنة. هذه هي القيامة الأولى. سعيدٌ وقدّيسٌ مَن كان له نصيب في القيامة الأولى، فعلى هؤلاء ليس للموت الثاني من سلطان، بل يكونون كهنة الله والمسيح، ويملكون معه ألف السنة” (20: 1- 6). ما يعرفه المطّلعون أنّ هذا المقطع عرف، في التاريخ، تفسيرات عدّة. وهذه سنختصرها باثنين:
1- الأوّل يدلّ على أنّه ستكون هناك حقبة في التاريخ توضع في ظلّ يسوع المسيح. فالله سيُظهر على الأرض كلّ البركات التي هيّأها للإنسان منذ البداءة. ومشايعو هذا التفسير رأوا إلى تتمّة أرضيّة لنبوءات العهد القديم، “تتمّة للتاريخ في التاريخ”، حيث يعرف تاريخُنا زمناً فيه يقرّ الكون كلّه بسيادة الله (وهذا التفسير رفضته الكنيسة).
2- والثاني (وقد قبلته الكنيسة) يرى، في الألف سنة، رمزاً إلى الحقبة التاريخيّة الحاضرة. ولقد اختيرت الألف سنة، وهي تدلّ على يوم الله (2بطرس 3: 8؛ مزمور 91: 4)، في سياق المقابلة بين آدم الأوّل وآدم الثاني (المسيح). ففي حين لم يعش آدم هذه المدّة (ألف سنة)، أي لم يكمل يوم الله مع الله، وسقط في الخطيئة ومات، جاء المسيح آدم الثاني، ليصحّح هذا السقوط والفشل، ويفتتح، بقيامته، يوم الله الأخير.
ما يذكره المعمدانيّون، يخالف تعليم الكنيسة المقدّسة. هذا، وحده، ردّ كامل. وإذا تأمّلنا في التفسير المرفوض الذي بيّناه أعلاه، فلا يخفى علينا أنّ المعمدانيّين، في غير أمر، ينقلون نقلاً ما نقضته الجماعة القويمة. يلملمون الخطأ المرميّ في سلّة مهملات التاريخ، ويقولونه على أنّه الصحيح! لا يعني هذا أنْ ليست لهم مسؤوليّة شخصيّة. فمن فتح القبور، تعلق به رائحة الموت! وفي الواقع، ثمّة، في هذا النقل، أمور عدّة يجب، ولو سريعاً، التوقّف عندها.
أوّلها ظنّهم أنّ هذا الحكم الألفيّ هو امتداد لعصر الملكوت الذي انقطع بسبب عدم إيمان اليهود في زمن الرسل. وهذه خربشة لا نعرف ما هو سندها الكتابيّ! فمن هو هذا الإله التافه الذي عدم تصديق اليهود يقطع له ملكوته؟!
وثانيهما، قولهم إنّ المسيح، في هذا الحكم، “يكون ملكاً”. وإذا جمعنا ما بين هذين الأمرين، فيجوز أن نطرح عليهم سؤالاً عن ملك المسيح ما بين زمن الرسل وزمن هذا الحكم. هل، برأيهم، المسيح ليس ملكاً في مسرى التاريخ؟ وما هو مستندهم؟ أيستندون إلى الكتب المقدّسة؟ هل قرأوا جيّداً هذا المقطع الذي اقتبسناه من سفر الرؤيا؟ فليدلّونا على الموقع الذي يدعم ما يقولونه؟ ألم ينتبهوا إلى أنّ الرسول يتكلّم على ملك الذين استشهدوا حبّاً بيسوع؟ المسيح هو الملك. هذا أمر لا يحتجزه زمن. ودعوة الرسول، المبيّنة في مقطع سفر الرؤيا، إنّما هي دعوة إلى الإخلاص، ليقدر المخْلصون على أن يملكوا مع المسيح الملك. أمّا إذا كان قصدهم بأنّ زماننا الحاضر يعجّ بالملوك، فيكون خطأهم المريع اعترافهم بملك غير مسيح الله!
وثالثها قولهم إنّ أورشليم “هي عاصمة ملكه” ولا “يكون على الأرض، بل فوقها”، فيفترض سؤالين. الأوّل هو عن أيّ أورشليم يتكلّمون: الأرضيّة أو السماويّة؟ وما معنى قولهم “بل فوقها”. في الحقيقة، لا شيء يضحك كما يضحك هذا الكلام. هم يعرفون أنّ “السماء والأرض تزولان”، ويتكلّمون، بطريقة مبهمة، على “عاصمة ملكه”! وهم، بهذا، يخالفون وضوح الكتاب الذي كشف أنّ مُلك المسيح إنّما يكون فيه (أفسس 2: 6). أي، وبكلام آخر، المسيح هو ذاته الملك والمملكة.
ورابعها عن ترتيب الأحداث التي سترافق انتهاء الملك. لن نكرّر ذكر هذه الأحداث. يكفي أن نبيّن أنّ المعمدانيّين لم يحسنوا فهم رمزيّة سفر رؤيا يوحنّا. في الواقع، لا تسمح الكتب المقدّسة بترتيب أحداث تسبق، أو ترافق، مجيء الربّ الأخير. فيوم الربّ سيأتي كلصّ. هذا ما يذكره الكتاب بوضوح. وشأن المؤمن أن يستعدّ لهذا المجيء دائماً (متّى 24: 43 و44)، وكفى.
لقد افتتح الربّ يسوع، بإتمامه تدبير الله، يومه الأخير. إننا، منذ الآن، مدعوّون إلى أن نحيا وفق هذه الحقيقة المخلّصة. كلّ انتظار لا يحمل هذا المعنى هو تشويه لما فعله الربّ من أجل خلاصنا. الحكم الألفيّ هو حكم الله القائم في زماننا، لنكون أمينين لملكنا الذي يستحقّ، وحده، أن يحكم علينا الآن وإلى منتهى الدهر.
(1) لمراجعة المقالة راجع مكتبة الشبكة. كما نحب أن ننوه أن هذا الموضوع –وغيره من المواضيع- تجد له أكثر من مرجع في أكثر من صفحة من صفحات الشبكة، فعلى سبيل المثال لا الحصر اقرأ أيضاً عن الملك الألفي: مكتبة الشبكة>> زاد الأرثوذكسية>> الفصل السادس والعشرون – وطننا الحقيقي… (الشبكة)