Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

سؤال: «أخبرني يا أبتاه كيف يرصد الإنسانُ قلبَه، وكيف يقاتل تجاه الشيطان، وإن كان ينبغي له أن يَسُدَّ مدخلَ الكلامِ قدام فِكرِ الزنى، وإن هو دخل على العقلِ فماذا يعمل، وهل ينبغي أن يكونَ طعامي بوزنٍ»؟

الجواب: »يا ولدي، إذا حفظ الإنسانُ قلبَه فإنه يكون منتبهاً طاهراً، وإنما يعرض له القتالُ إذا تهاون هو أولاً، فإذا أبصرَ العدوُ تهاونَه عمل على قِتالِه، لأننا لسنا نقعُ إلا من تهاونِنا وكوننا لا نقاومهم، لأنهم يريدون منك المحادثةَ كي ما يشغلوكَ ولا يكفُّون، فتقدم إلى اللهِ من أجلهِم، وألقِ ضعفَك أمامَه وهو يصرفهم عنك ويُبطل قوَّتَهم. وأما من جهةِ شيطان الزنى فجيدٌ هو أن تَسُدَّ عليه ولا تدعه يدخلَ، لأنه إذا دخل نجَّسك وسجَّسك، لأنه يتخذ له مادةً منها وبها يتطاول عليك، فإن هو خطفك بغتةً ودخل فيك، لا تتوانَ حتى ولا وقتاً قصيراً، بل قم وجاهد وألقِ ذاتَك أمام اللهِ وقِرَّ بضعفِك واسأله أن يلقيه خارجاً عنك، أما من أجلِ الطعامِ ووزنه، فليكن ذلك بالتخفيف والتحفظ».

سؤال: «قل لي يا أبي رأيَك فيما لو كنا نُقِرُّ لأحدِ الإخوةِ ببعضِ القتالات ونلتمسَ منه صلاةً بخصوصِها»؟

الجواب: «جيدٌ أن نُقِرَّ لمن له قوةٌ لأن يسمعَ، ولا نُقِرّ لمن هو بعد شابٌ، وأما ابتغاء الصلاةِ، فجيدٌ أن نطلبَ من كلِّ واحدٍ».

سؤال: «إذا سَكَتَ الإنسانُ، فما هي الحالُ التي ينبغي أن يكونَ عليها في القلايةِ»؟

الجواب: «الجلوسُ في القلايةِ هو أن يتذكَّرَ الإنسانُ خطاياه، ويبكي وينوح من أجلِها، ويتحرز ألا يُسبى عقلُه، وإن سُبيَ فليجاهد أن يردَّه إليه».

سؤال: «علِّمني كيف أقطعُ هوايَ وأنا في القلايةِ، وكذلك إذا كنتُ بين الناسِ، وما هي مشيئةُ الجسدِ وما هي مشيئةُ الشيطانِ، وما هي مشيئةُ اللهِ»؟

الجواب: «أما قطعُ الهوى الذي يكون في القلايةِ، فذلك برفضِ كلِّ النياحِ الجسدي، أما مشيئةُ الجسدِ فهي أن تعملَ نياحَه دائماً في كلِّ الأمورِ، فإذا لم تعمل نياحَه، فاعلم أنك قطعتَ هواك وأنت جالسُ في القلايةِ. وأما قطعُ الهوى الذي بين الناسِ فذلك بأن تكونَ كالميتِ بينهم أو كالغريبِ عنهم. وأما مشيئةُ الله، فهي ألا يهلكَ أحدٌ من الناسِ، كما قال السيد، وأن لا يموتَ الخاطئ، كما قال النبي. وأما مشيئةُ الشيطانِ فهي أن يُزكِّيَ الصدِّيقُ نفسَه ويطمئنَ إليها، وعند ذلك يقعُ في الفخِ، كما أن مشيئةَ الشيطان كذلك في ألا يتوب الخاطئُ عن خطيئتهِ». واستطرد قائلاً: «إن أردنا أن ننجحَ بالكمالِ فلنقطع مشيئاتنا قليلاً قليلاً، لنبلغَ إلى عدمِ الأوجاعِ، وذلك بأن لا نتكلمَ فيما لا تدعو إليه الضرورةُ، وأن نرضى بجميعِ ما يحدثُ لنا كأنه حسب مشيئتهِ، وألا يكون لنا مَيلٌ إلى شيءٍ، فمن عدم الميلِ بالكليةِ يكون عدمُ الآلامِ بنعمةِ اللهِ».

سؤال: «إذا طلب مني إنسانٌ أن أصليَ عليه، أينبغي لي أن أصليَ عليه أم لا»؟

الجواب: «جيدٌ أن تصلي على كلِّ من يسألك، لأن الرسولَ يعقوب يقول: صلُّوا على بعضِكم بعضاً كي ما تُعافوا. وقد صلَّى أناسٌ على الرسلِ، على أن تفعلَ ذلك كمن هو غيرُ مستحقٍ ولا دالة له».

سؤال: «أخبرني يا أبي كيف يكون الفكرُ مأكلاً للسباعِ»؟

الجواب: «يصير الفكرُ مأكلاً للسباعِ إذا لم يسبق الإنسانُ إلى لومِ نفسِه، فإن هو تغافل، جَرَحَته بأنيابها وأظفارها، فحسنٌ أن يحتاجَ إلى الالتصاق بالتوبةِ، ويجب عليك ألا تزكي نفسَك، وألا تقول إنك شيءٌ، فتبرأ أوجاعُك، ولا تدن آخرين».

وقد حدث مرةًلأخٍ أن آذاه اللصوصُ، فجَبُنَ جداً، وبمعونةِ اللهِ خلص منهم، فأخبر الشيخ عن انزعاجِه وسأله أن يصليَ عليه، فقال الشيخ: «يا ولدي، إن اللهَ لا يتركنا إن لم نتباعد عنه نحن، لأنه يقول: لا أتركك، لا أهملك. ولكن قلةَ إيماننِا هي التي تجعلنا نَجْبُن ونخاف من اللصوصِ الذين حضروا إليك، حتى ولو كانوا أكثرَ من مركباتِ فرعون وجنودِه، وقد علمتَ أنهم بكلمةِ اللهِ وعزتهِ قد غرقوا في البحرِ، ألا تذكر المكتوبَ عن الذين جاءوا لأخذ أليشع كيف أصابهم العمى، والكتاب القائل: الربُّ يحفظك من كلِّ سوءٍ، الربُّ يحفظُ نفسَك، الربُّ يحفظُ دخولَك وخروجَك. وكيف ننسى القائل: إن عصفوراً لا يسقطُ على الأرضِ بدون إذنِ أبيكم السماوي، وإنكم أفضل من عصافير كثيرةٍ. والجُبن هو وليد قلة الإيمان، وهو منتهى قلة الرجاءِ، وهو يرخي القلبَ ويجتذب الناسَ من اللهِ إلى بلدةِ الهلاكِ. فلنفر منه يا ولدي، ولنُنَبِّه يسوعَ ربَّنا النائمَ فينا قائلين: يا عظيمُنا خلِّصنا، وهو ينتهر الريحَ ويُسكِّن الأمواجَ. لنترك الآن القصبةَ المرضوضةَ ونلتمس عصا الصليبِ التي شقَّت البحرَ وأغرقت فرعون الفعلي، ونتكل ملقين أنفسَنا على الذي صُلب من أجلِنا، لأنه يعرفُ كيف يرعانا نحن غنمَه ويطرد عنا الذئابَ الرديئةَ. يا ولدي، إني لمتعجبٌ منك كيف تفزع من العبيدِ الوقوفِ خارجاً، ولا تفكر في السادةِ الذين هم من داخل، لأن اللصوصَ المحسوسين هم عبيدُ الشياطين اللصوصِ الفعليين، فينبغي لك أن تعرفَ بالنعمةِ أن اللصوصَ أتوْك ولكن المسيحَ لم يتركك، فأسرع أنت في طلبهِ، واسأله أن يعينك لأنه مكتوبٌ: الربُّ قريبٌ من الذين يدعونه، والذين يرغبون إليه بالاستقامةِ، وهو يصنعُ مشيئةَ خائفيه ويسمع طلباتهم ويخلصهم. فاقترن بسيدِك ملتصقاً به وهو يطردُ عنك كلَّ الأردياء، ويُبطِلُ قوَّتَهم».

وحدث أيضاًأن هذا الأخَ حَزِنَ، فسأل الشيخ بأن يصلي عليه، فأجابه قائلاً: «يا ولدي، إن الربَّ قد صبر إلى الصلبِ والموتِ، أما تفرح أنت بالأحزانِ؟ لأنه بضيقاتٍ كثيرةٍ ينبغي لنا أن ندخلَ ملكوتَ السموات، فلا تطلب يا ولدي النياح، إن لم يعطِك إياه الربُّ، لأن كلَّ نياحٍ جسدي هو مكروه عندَ اللهِ، والربُّ قال: في العالمِ يكون لكم ضيقٌ، ولكن تقووا، أنا قد غلبتُ العالمَ، والربُّ يعينُك وإياي آمين».

سؤال: «أخبرني يا أبي كيف أفتقدُ الأخَ»؟

الجواب: «افتقادُ الأخِ جيدٌ، والكلامُ البطَّالُ رديءٌ، وهذا الأمرُ يأتي بك إلى التجربةِ، فافتقد إذن أخاك، وتحفَّظ من الكلامِ البطَّالِ، وليكن حديثُكما في أخبارِ الآباءِ السالفين، وفيما كانوا يعملونه. وتقول له: كيف أنت؟ وكيف حالك يا أخي ويا أبي؟ ولا تلتمس منه سوى كلامِ الحياةِ فقط. وقل له: صلِّ عليَّ، فإن لي خطايا كثيرةً، وما شاكل ذلك، واعمل للحين مطانيةً وانصرف من عندهِ بسلامٍ».

سؤال: «أسألك يا أبي أن تبينَ لي ما هي المشيئةُ الجيدةُ، وما هي المشيئةُ الرديئةُ»؟

الجواب: «قلتُ لك إن كلَّ نياحٍ جسدي مرذولٌ عند إلهنِا، لأنه قال إن الطريقَ المؤديةَ إلى الحياةِ حزينةٌ وضيقةٌ، فمن يختارها لنفسِه فهي المشيئةُ الجيدةُ، ومن أرادها فإنه يُلقي بنفسِه في كلِّ أمرٍ حزينٍ بهواه، وبقدر استطاعته. اسمع ما قاله الرسولُ: إني أُضْمِرُ (أي أقمعُ) جسدي واستعبده. فافهم أن الجسدَ لا يريد ذلك، بل بمشيئتِه كان يَقْسِرُه، فالذي يريد الخلاصَ يجب أن تكونَ مشيئتُه هكذا، ومن كان كذلك، فكلُّ أمورِه يختلط فيها الحزنُ. لا تستعمل فراشاً ليناً، وتذكَّر أن كثيرين ينامون على الأرضِ وبين الشوكِ، وإن صادفتَ طعاماً لذيذاً فاتركه، وكُلْ من الدون، كي ما يحرك على جسمِك حزناً، واذكر الذين لا يذوقون خبزاً البتة، واذكر كذلك الألمَ الذي قَبله سيدُك من أجلِك، وأعطِ لنفسِك الويلَ. هذه هي المشيئةُ الجيدةُ، أما المشيئةُ الرديئةُ فهي نياحُ الجسدِ في كلِّ ما يطلبه منك، ولا سيما إذا اتفق لك طعامٌ غيرُ جيدٍ، وقلتَ: لا آكل، فهذه هي المشيئةُ الرديئة، فاقطعها عنك وأنت تخلص».

سؤال: «أخبرني يا أبتاه ماذا أعملُ، لأن الأفكارَ قد اضطربت فيَّ جداً»؟

الجواب: «يا ولدي، إن كان الإنسانُ بطَّالاً، فإنه يتفرغ لقبولِ الأفكار التي تأتيه، وإذا كان له عملٌ يعمله، فلا يتفرغ لقبولها، قم وقت السحرِ وأمسك الطاحونَ واطحن قمحَكَ، فتعمل منه خبزاً لغذائِك، وذلك قبل أن يسبقَك العدو ويجعل عليها رملاً، وأسرع فاكتب لوحَك، واحفظ الوجه الآخر، لأن ربنا يقول للرسلِ، أنتم ملحُ الأرض. فالأرضُ يا ابني هي جسدُك، فكن أنت ملحاً تملِّحه، وجفف (نماسيه) ودودَه، أعني أفكارَك الرديئةَ».

من قولِ القديس سمعان العمودي: «مثلُ إنسانٍ يتكلمُ عن غنىً ليس له، ويحسبُ مالَ قومٍ آخرين، وهو نفسه ليس له شيءٌ، بل تجده عرياناً معوزاً فقيراً، كذلك الذي لم يقتنِ لنفسِه شيئاً من غنى المسيح، وهو مرافقٌ لأناسٍ قديسين، فتجده عرياناً مِن مشاركةِ الروح، لا يربح شيئاً من غنى القديسين، لأنه مشاركٌ لهم بالسكنى، وليس بمشاركٍ لهم في الفضيلةِ».

للقديس يوحنا ذهبي الفمعن الكلمةِ المكتوبةِ: أصلِّي بروحي وأصلِّي بضميري، وأرتِّل بروحي وأرتِّل بضميري: «يريد الرسولُ ألا يكونَ الإنسانُ مصلِّياً بلسانِه فقط تاركاً عقلَه يتوه في شتى الأمورِ، فيصيرَ بلا ثمرٍ، بل ليكن جهادٌ واحدُ لاثنيهما، اللسانُ ينطقُ بكلامِ الصلاةِ، والعقلُ يميزُ المعنى الخفي غير المنظور، والفكرُ يتبعُ يسوعَ إلى فوق، مثل النَفَسِ الصاعدِ مع الكلامِ، فيكون مثلَ إنسانٍ يشتكي إلى الملكِ ووجههُ ناظرٌ إليه ولسانُه يتكلم بغير انشغالٍ».

قال شيخٌ: «إن الله يطيل روحَه على خطيةِ العالمِ، ولا يطيل روحَه على خطية البريةِ».

قال الأب نستاريون: «يجب على الراهبِ أن يحاسبَ ذاتَه كلَّ مساءٍ وكلَّ صباحٍ، ماذا صنعنا مما يشاءُ الله، وماذا عملنا مما لا يشاءُ الله، لأنه هكذا عاش الأب أرسانيوس وهكذا نفتقدُ ذواتَنا كلَّ أيامِ حياتِنا. احرص كلَّ يومٍ على أن تقفَ قدامَ اللهِ بلا خطيةٍ، وهكذا صلِّ لله كأنك مشاهدٌ له، لأنه بالحقيقةِ حاضرٌ. لا تحسِّن لذاتِك أن تدينَ أحداً، لأن الدينونةَ، الكذبَ، اللعنَ، الشرَ، الشتمَ، الضحكَ، كلَّ هذه غريبةٌ عن الراهبِ، وأما الذي يُكرَّم أكثر مما يستحق فإنه يخسرُ كثيراً».

وسأله أخٌ قائلاً: «إن وجدتُ وقتاً ما، وأكلت ثلاثَ خبزاتٍ، فهل هذا كثيرٌ»؟ فقال له: «هل أنت في البيدر يا أخي»؟ قال له أيضاً: «وإن أنا شربتُ ثلاثةَ أقداحِ خمرٍ، فهل هذا كثيرٌ»؟ أجابه وقال: «إن لم يكن هناك شيطانٌ فإنها ليست كثيرةً، أما إن كان، فهي كثيرةٌ، لأن الخمرَ مضرٌ جداً للرهبانِ لا سيما الشباب فيهم».

وقال أيضاً: «إن اللصَّ كان على الصليبِ وبكلمةٍ واحدةٍ تزكَّى، ويوداس كان من جملةِ الرسلِ، وفي ليلةٍ واحدةٍ ضيَّع كلَّ شيءٍ، من أجل ذلك، لا يفتخر أحدٌ من صانعي الحسناتِ، لأن كلَّ الذين وثقوا بذواتِهم سقطوا».

قال القديس اكليميكوس: «من يستطيع أن يُميت نفسَه من كلِّ شيءٍ، فذاك يستطيع أن يتفرَّغ لنفسِه بذكرِ الموت، ومن يحب مخالطةَ الناسِ فلن يستطيعَ أن يتفرَّغ لنفسِه، وهو عاهةٌ لنفسِه».

وقال أيضاً: «لا يستطيع إنسانٌ أن يجتازَ يوماً كما ينبغي، إن لم يحسبه آخِرَ يومٍ من حياتِه في الدنيا».

سأل أخٌ الأب روفس: «ما هو السكوت»؟ فأجابه الشيخ قائلاً: «هو الجلوسُ في القلايةِ بمعرفةٍ ومخافةِ اللهِ، والامتناعُ من ذِكرِ كلِّ شرٍّ. والمداومةُ على حفظِ ذلك يلدُ التواضعَ، ويحفظُ الرهبانَ من العدوِ».

وعند نياحتهاجتمع إليه تلاميذُه قائلين: «كيف يجب أن نتدبَّرَ من بعدِك»؟ فأجابهم الشيخ: «لستُ أعلمُ أني قلتُ لأحدٍ منكم قط أن يصنعَ شيئاً، قبل أن أُصلِحَ الفكرَ أولاً، ولم أسخط إذا هو لم يصنع بحسبِ ما قلتُه له، وهكذا قضينا كلَّ زماننا بهدوءٍ».

رجلٌ موسرٌ، تصدَّق بمالٍ، وأمسك بعضَه لقلةِ إيمانِه، وأتى إلى الأب أنطونيوس وسجد له قائلاً: «علِّمني كيف أخلص». قال له الشيخ: «إن أردتَ أن تخلصَ فاصنع ما أقوله لك أولاً. امضِ إلى القريةِ واشترِ لحماً وانزع ثيابَك وعلقه في رقبتِك وتعالَ». فأطاع الشيخ، واشترى اللحمَ، وخلع ثيابَه، وحمله على رقبتهِ، فلم يبقَ طيرٌ ولا كلبٌ في تلك القريةِ إلا واجتمعوا عليه، فنهشه الطيرُ وجرح جسمَه. فلما بلغ القديس على هذه الحال، قال له: «مرحباً يا ابن الطاعةِ، اعلم يا ابني إني قلتُ لك أن تصنعَ هذا،كي أعطيك مثالاً، فإن كثيرين من الناسِ، إذا سمعوا الوصايا لا يحفظونها، وآخرون ينسونها لقلة الحسِّ، ولذلك أمرتُك بهذا ليكون كلامي فيك ذا أثرٍ، لأجل ألم الوجع، فإن أصحابَ قلةِ الحسِّ لا تنفع فيهم الموهبة شيئاً، فلهذا المعنى يا ابني أسَّستُ فيكَ آثاراً لوصيتي، فإذ قد تنقَّى حقلُك من شوكِ الغفلةِ، فلنبذر فيك الزرعَ المقدس، أرأيتَ يا ابني كيف نهشت الطيورُ والكلابُ جسمَكَ وجرحته، كذلك تنهش الشياطيُن أصحابَ القنيَةِ، فافهم الآن هذا الكلام في عقلِك وتفكَّر به كلَّ أيامِ حياتِك، وإياك يا ابني أن تجعلَ لك اتكالاً على المالِ، بل اتكل على المسيح، فاذهب الآن وفرِّق جميعَ ما أبقيتَ لك من المالِ، حتى تكون، يا حبيبي، رهبانيتُك صافيةً من الغشِ، لأنه ضارٌ بالراهبِ أن يُبقي في قلايته ديناراً وشيطاناً»، وبعد أن دعَّمه بالكلامِ أخذ قليلاً من الزيتِ وصلى عليه ودهنه، وللوقت شُفيَ كأنه لم تُصبّه جراحٌ ولا ألمٌ قط، وذهب وهو مسرورٌ يسبح اللهَ».

حدث مرةًأن أتى القديس بولس البسيط تلميذ الأب أنطونيوس إلى الإسقيط، لافتقادِ الإخوةِ كعادتِه، ولما دخلوا الكنيسةَ ليكملوا القداسَ، كان يتأمل كلَّ واحدٍ من الداخلين، ويعرف الحالَ التي عليها نفسُه، وكان يرى مناظِرَهم بهجةً، وملائكتهم يتبعونهم مسرورين، وعاين أحدَهم أَسودَ كلَّه، وشياطينٌ سمجةٌ تحيط به يجرُّونه، وملاكُه يتبعه من بعيدٍ عابساً، فلما رأى ذلك بكى وقرع صدرَه مراتٍ، وخرج من الكنيسةِ باكياً، فخرج الإخوةُ إليه قائلين: «لماذا تبكي يا أبانا»؟ وطلبوا إليه أن يدخلَ معهم للقداسِ، فامتنع وجلس على بابِ الكنيسةِ منتحباً جداً. ولما كَملت الصلاةُ وخرجوا، كان يتأمل إليهم أيضاً، مؤثراً أن يعرفَ خروجَهم، فرأى ذلك الأخَ الذي كان قد دخل على تلك الحالِ السمجةِ، قد خرج بهيَّ الوجهِ، أبيضَ الجسمِ، وملاكُه ملاصقٌ به مسروراً، والشياطين يتبعونه وهم مكمَّدين. وإن القديس بولس صفَّق بيديه مسروراً ووثب بفرحٍ عظيمٍ مباركاً الله أبا الصلاحِ، بصوتٍ عالٍ قائلاً: «هلموا أبصروا أعمالَ اللهِ المرهوبةَ المستحقةَ كلَّ ذهولٍ وعجبٍ، هلموا أبصروا أعمالَ إلهِنا الصالح، الذي يشاء خلاصَ كلّ الناسِ، ومحبته للبشر التي لا يُلفظ بها، هلموا نسجد ونخرُّ قائلين: أنت وحدُك يا إلهنا قادرٌ أن تنزعَ كلَّ خطيةٍ». فحضر الكلُّ لسماعِ أقواله، فأخبرهم بما ظهر له، وسأل ذلك الأخَ أن يُعرِّفه السببَ الذي من أجلهِ وهب الله له تبديلَ تلك الحالِ نقيةً. فقال بمحضرٍ من الكلِّ: «إني منذ زمانٍ طويلٍ عائشٌ في النجاسةِ إلى أبعدِ غايةٍ، فلما رأيتُ الأب باكياً جداً، ابتدأ قلبي فيَّ أن يتخذَ إحساساً، فأنصتُّ إلى القراءات، فسمعتُ إشعياء يقول: اغتسلوا، صيروا أنقياءَ ، أزيلوا شرورَكم من أمامَ عيني، تعلَّموا أن تصنعوا حسناً، وتعالوا نتناظر يقول الربُّ، إن كانت خطاياكم كالبرفير تبيضّ كالثلجِ وإن احمرت كالبقم (كالدودي)، أجعلها كالصوفِ النقي. فلما سمعتُ أنا الخاطئ هذا الكلام، ضعف قلبي وقلتُ أمام الله: أنت الإله المتحنن الذي أتيتَ لخلاصِ الخطاةِ، يا من قلتَ إنه يكون فرحٌ في السماءِ قدام ملائكةِ الله بخاطئ واحدٍ يتوب، والآن يا ربي، ما وعدتَ به بفمِ نبيك تممه فيَّ أنا الخاطئ، واقبلني إليك تائباً، وها أنا منذ الآن لا أصنعُ شيئاً مما كنتُ أصنعه من الآثامِ، وسوف أخدمك بكلِّ طهارةٍ إلى آخرِ نسمةٍ من حياتي. وعلى هذا خرجتُ من الكنيسةِ». فلما سمع الآباءُ ذلك صرخوا بصوتٍ واحدٍ قائلين: «لقد عَظُمت أعمالك يا ربُّ، كلَّها بحكمةٍ صنعتَ». ومن ذلك الوقتِ عاش ذلك الأخُ بكل نقاوةٍ وأرضى الله بسيرة فاضلةٍ، فعلينا ألا نقطعَ رجاءَنا من مراحمِ إلهِنا، لأننا إذا أتينا إليه، لا يطالبنا بسالفِ أعمالِنا، لأنه كوعدِه الصادقِ يغسل الراجعين إليه بكلِّ قلوبهم ويبيِّضهم كالثلجِ. له المجد دائماً.

كان قسيسُ القلاليقد أُعطيَّ نعمةً من اللهِ أن ينظرَ الأرواحَ النجسةَ عياناً، وذات يومٍ، بينما كان ذاهباً إلى الكنيسةِ ليكمل الصلاةَ الجامعة، وإذا به ينظرُ جماعةً من الشياطين خارج قلايةِ أخٍ، ووجد بعضَهم في شكلِ نساءٍ وهم يغنون ويقولون ما لا يجب سماعه، ووجد البعضَ منهم في شكلِ صغارٍ يرقصون، والبعضَ الآخرَ مقبلين على أعمالٍ رديئةٍ، فتنهد الشيخ قائلاً: «بلا شكٍ إنه يوجد في داخلِ القلايةِ راهبٌ يعيش في التواني، من أجل هذا تحيطُ الأرواحُ النجسةُ بقلايته هكذا بعدم أدب»، فلما أكمل القسُ الصلاةَ الجامعة، عاد ودخل قلاية ذلك الأخِ، وقال له: «يا أخي، أنا في ضيقةٍ، ولي فيك إيمانٌ أنك إذا صليتَ عليَّ تَخفُّ الشدةُ المحيطة بي». فضرب الأخ مطانية قائلاً: «إني غير مستحق أن أصلي عليك يا أبي»، وكان الشيخ يداوم الطلبةَ إليه قائلاً: «لستُ أمضي حتى تعاهدني أنك تصلِّي عني صلاةً في كلِّ ليلةٍ»، فأطاع الأخُ أمرَ الشيخ، وإنما فعل الشيخ هذا حتى يعطيه سبباً ليصلي في الليل. فلما قام الأخُ في الليل ليصلي على الشيخ، صار في تحسُّرٍ وقال في نفسه: «يا شقي، إن كنتَ تصلي على شيخٍ قديس كهذا، فلِمَ لا تصلِّي على نفسِك وحدك». وإنه صنع صلاةً على الشيخ، وصلاةً أخرى على نفسهِ، وهكذا أكمل الأسبوعَ كلَّ ليلةٍ يعمل صلاتين، واحدةً عن الشيخ، والأخرى عن نفسهِ. وفي يوم السبتِ التالي، انطلق القسُ إلى الكنيسةِ ، فأبصر الشياطيَن قياماً على بابِ قلاية الأخِ وهم سكوتٌ، فعلم الشيخ أنه من أجلِ أن الأخَ صلَّى سكتوا، ففرح، ولما أكمل الصلاةَ، عاد ودخل قلاية الأخ، وقال له: «اصنع معي رحمةً يا أخي من أجلِ محبة السيد المسيح، وزدني صلاةً أخرى في كلِّ ليلةٍ، فإنني قد وجدتُ راحةً قليلةً». فلما صلَّى عن الشيخ صلاتين، صار أيضاً في ندمٍ قائلاً: «يا شقي، زد أيضاً صلاةً أخرى على ذاتك». فصنع هكذا الأسبوع جميعه، يكمل كلَّ ليلة أربع صلوات. ولما جاء القسيس يوم السبت إلى الكنيسةِ، نظر الشياطين سكوتاً معبَّسين، فشكر اللهَ، ثم أنه دخل إلى الأخِ، وسأله أن يزيده صلاةً أخرى، فزاد له ولنفسهِ أيضاً. وهكذا صار الشيخ يجيء إليه ويجعله أن يزيد قليلاً قليلاً حتى رجع إلى طقسِهِ الأول. فحنق الشياطينُ على الشيخ لأجلِ الخلاص الذي صار للأخِ وانصرفوا عنه وهم حزانى، وصار الأخُ يصلي بغير فتورٍ واقتنى الغَلَبةَ بنعمة ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد إلى الأبد آمين.

سأل أخٌ أنبا تادرس: «بأيِّ طريقٍ يمكن للإنسانِ أن يُخرجَ الشياطينَ من ذاتِه»؟ فقال له القديس: «إذا قبل إنسانٌ ضيفاً وأكرمه، فإن كان لا يقدر أن يطردَه اليومَ، ففي الغدِ لا يقدرُ أن يطردَه، ذلك إذا كان متاعُه داخلَ البيتِ، أما إذا أعطاه متاعَه وجميعَ ما كان داخل بيتِهِ، فحينئذ لو أراد أن يطردَه، أغلقَ البابَ في وجههِ. وهكذا الحالُ مع الشيطانِ، إذا لم تطرح متاعَه خارجاً عنك، الذي هو الزنى والنجاسةُ والكذبُ وجميعُ آلاتهِ، فلا تقدر أن تطردَه».

سأل أخٌ أنبا أمونامرةً قائلاً: «يا أبي ثلاثةُ أفكارٍ تضايقني. الأول، أن أسكنَ في البراري بغيرِ همٍّ، والثاني، أن أمضي إلى الغربةِ حيث لا يعرفني أحدٌ، والثالث، أن أحبسَ نفسي في القلايةِ، ولا أجتمع بأحدٍ، وأصوم يومين يومين». قال له الشيخ: «ولا واحد من هذه الأفكار تستطيع أن تمارسَه كما ينبغي، بل الأفضل أن تجلسَ في قلايتك، وكُلْ في كلِّ يومٍ قليلاً، واجعل كلمةَ العشارِ في فمِك دائماً قائلاً: يا الله اغفر لي فإني خاطئ، وأنت تتنيح».

الأب سيصويالذي من جبل أنطونيوس: أغلقَ على نفسِهِ دفعةً في قلايتهِ، ومنع خادمَه من القدومِ إليه عشرةَ شهورٍ، لم يبصر فيها إنساناً، وفيما هو يمشي في الجبلِ ذات يومٍ، إذا به يجدُ إنساناً إعرابياً يتصيَّد وحوشاً بريةً، فقال له الشيخ: «من أين جئتَ، وكم لك من الزمان ههنا»؟ فقال له الرجلُ: «صدقني يا راهب، إن لي في هذا الجبلِ أحدَ عشرَ شهراً لم أرَ أحداً غيرَك». فلما سمع الشيخ ذلك، دخل قلايتهِ وصار يضربُ صدرَه ويقول: «يا سيصوي، لا تظن أنك صنعتَ شيئاً، لأنك لم تصنع بعد مثلَ ما صنعه هذا الإعرابي».

وسأله أخٌ: «أتُرى، هل كان الشيطانُ يضطهدُ القدماءَ هكذا»؟ أجابه الشيخ: «بل اليومَ يضطهدُ أكثرَ لأنَّ زمانَه قد قرب، فهو لذلك قلقٌ».

ومرةً زاره أنبا أدلفيوس أسقف نيلوبوليس في جبلِ أنطونيوس، ولما عزم على الانصراف جعله يتغذى باكراً قبل انصرافِه وكان صومٌ، فلما وُضعت المائدةُ، إذا قومٌ يقرعون البابَ، فقال لتلميذِه: «قدِّم لهم قليلاً من الطبيخِ». فقال الأسقفُ: «دعهم الآن لئلا يقولوا إن أنبا سيصوي يأكل باكراً». فتأمله الشيخ وقال للأخ: «امضِ أعطِهم». فلما أبصروا الطبيخَ، قالوا للأخِ: «يا تُرى هل عندكم ضيوفٌ والشيخ يأكل معهم»؟ قال: «نعم». فحزنوا قائلين: «لماذا تركتم الشيخ يأكل في مثلِ هذا الوقتِ؟ أما تعملون أن الشيخ يُعذِّب ذاتَه أياماً كثيرةً، بسببِ هذه الأكلةِ»؟ فلما سمع الأسقفُ هذا الكلامَ، صنع مطانيةً قائلاً: «اغفر لي يا أبي لأني تفكرتُ فكراً بشرياً، أما أنت فقد صنعتَ أوامرَ اللهِ». فقال الشيخ: «إن لم يمجد اللهُ الإنسانَ، فمجدُ الناسِ ليس شيئاً».

وحدث مرةًأيضاً أن زاره أنبا قاسيانوس، والقديس جرمانوس، شيخان من فلسطين، فاحتفل بضيافتِهم. فسألوه لأيِّ سببٍ لا تحفظوا رسومَ صومِكم في وقتِ ضيافتِكم الإخوةِ الغرباءِ على ما قد عرفناه في بلدنا فلسطين؟ فأجابهم قائلاً: «إن الصومَ معي دائماً، وأما أنت فلستَ معي دائماً، والصومُ شيءٌ نافعٌ لازمٌ، وهو من نيتنا ومن إرادتنا، وأما إكمالُ المحبةِ فيطالبنا به ناموسُ اللهِ بلازم الاضطرار، فَبِكُم أَقبلُ المسيحَ، ويوجب عليَّ ديناً لازماً بأن أخدمَه بكلِّ حرصٍ، فإذا شيعتُكم أمكنني استعادة صومي، وذلك أن أبناءَ العُرسِ لا يستطيعون أن يصوموا ما دام العريسُ معهم، فمتى رُفع الختن فحينئذ يصومون بسلطانٍ».

وحدث مرةًأن سألَ أنبا يوسف الأب سيصوي قائلاً: «كم من الزمانِ يحتاجُ الإنسانُ لقطعِ الآلام»؟ أجابه الشيخ: «في أيِّة ساعةٍ تتحرك الآلام، ففي الحالِ اقطعها».

وأيضاً سأله أخٌعن تدبيرٍ ما، فأجابه الشيخ قائلاً: «إن دانيال النبي قال: خبزَ شهوةٍ ما أكلتُ».

وسأله أخٌ آخر قائلاً: «إذا مشينا في طريقٍ، وضلَّ مهدينا فهل ينبغي أن ننبهَه»؟ فقال له الشيخ: «لا». قال الأخ: «هل نتركه إذن يُضلُّنا»؟ فأجابه الشيخ: «وماذا نعمل إذن، أنأخذ عصاً ونضربه؟ إني أعرفُ إخوةً كانوا سائرين بالليلِ، فضلَّ مرشدُهم وكانوا اثني عشر أخاً، وعلموا كلُّهم أنهم قد ضلوا، فجاهد كلُّ واحدٍ منهم ألا يتكلم، فلما أضاء النهارُ، علم مرشدُهم بأنه قد ضلَّ الطريقَ، فقال: اغفروا لي قد ضللتُ الطريقَ. فقالوا له كلُّهم: لقد علمنا، ولكننا سكتنا. فلما سمع ذلك تعجَّب، وقال: إن إخوتنا تمسَّكوا حتى الموتِ على ألا يتكلموا، وسبَّح اللهَ. وقد كانت مسافةُ الطريقِ التي مشوها اثني عشرَ ميلاً».

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى