لوقا (26:1-56)
أريد أن أنطلق اليوم في حديثي مِن أنَّ ما تسلَّمته الكنيسة من الرسل واحدٌ هو ولكن اجتهاداتٍ لاحقة دَخَلَت عليه فصار الانقسام غير المرغوب فيه أمراً حتمياً. اخترتُ أن أتكلَّم هذه الليلة عن تكريم السيدة العذراء في الكنيسة، النابع من مكانتها في إيماننا المسيحي. وأول ما يحسن أن نبدأ به هو شهادة الرسل في الكتاب المقدس ومن ثم ننتقل إلى تَلَمُّس هذه المكانة في التسليم الرسولي المعاش في الكنيسة من خلال صلواتها.
نص الإنجيل:
(26) وفي الشَّهرِ السّادِسِ أُرْسِلَ جِبرائيلُ المَلاكُ مِنَ اللهِ إلى مدينَةٍ منَ الجَليلِ اسْمُها ناصِرَةُ، (27)إلى عذراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بيتِ داوُدَ اسمُهُ يُوسُفُ. واسْمُ العْذراءِ مرْيَمُ. (28) فَدَخَلَ إليها المَلاكُ وقالَ سلامٌ لكِ أيَّتُها المُنْعَمُ علَيْها. الرَّبُّ معَكِ. مُبارَكَةٌ أنْتِ في النِّساءِ. (29)فلَمّا رأَتْهُ اضطَرَبَتْ مِنْ كَلامِهِ وفَكَّرَتْ ما عَسَى أنْ تَكونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ.(30)فقالَ لها المَلاكُ لا تَخافي يا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِندَ اللهِ. (31)وها أَنْتِ سَتَحْبَلينَ وتَلِدينَ ابناً وتُسَمّينَهُ يَسوعَ. (32)هذا يكونُ عَظيماً وابْنُ العَلِيِّ يُدْعَى ويُعْطيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ داوُدَ أَبيهِ. (33)ويَمْلِكُ على بَيْتِ يَعقوبَ إلى الأبَدِ ولا يَكونُ لِمُلْكِهِ نِهايَةٌ.
(34)فقالَتْ مَريَمُ لِلمَلاكِ كَيْفَ يكونُ هذا وأنا لسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً. (35)فأَجابَ المَلاكُ وقالَ لها، الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَليكِ وقُوَّةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فلِذلِكَ أيضاً القُدُّوسُ المَوْلودُ مِنْكِ يُدْعَى ابنَ اللهِ. (36)وهُوذا أَليصاباتُ نَسيبَتُكِ هيَ أيضاً حُبْلَى بابنٍ في شَيْخوخَتِها وهذا هوَ الشَّهْرُ السّادِسُ لتِلْكَ المَدْعُوَّةِ عاقِراً. (37)لأنَّهُ ليسَ شَيءٌ غيرَ مُمْكِنٍ لدَى اللهِ. (38)فقالَتْ مريَمُ هُوَذا أنا أَمَةٌ الرَّبِّ. ليَكُنْ لي كَقَولِكَ. فمَضَى مِنْ عندِها المَلاكُ.
(39)فقامَتْ مَرْيَمُ في تِلكَ الأيّامِ وذَهبَتْ بسُرعَةٍ إلى الجِّبالِ إلى مَدينَةِ يَهوذا. (40)ودخَلَتْ على أَليصاباتَ. (41)فلَمّا سَمِعَتْ أليصاباتُ سَلامَ مَرْيَمَ ارتَكَضَ الجَّنينُ في بَطنِها. وامتَلأَتْ أليصاباتُ منَ الرُّوحِ القُدُسِ. (42)وصَرَخَتْ بصوتٍ عَظيمٍ وقالَتْ مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّساءِ ومُبارَكَةٌ هيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ. (43)فمِنْ أينَ لي هذا أنْ تأتيَ أمُّ رَبّي إِلَيَّ. (44)فهُوَّذا حينَ صارَ صَوْتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ ارتَكَضَ الجَّنينُ بابْتِهاجٍ في بَطْني. (45)فَطوبَى لِلَّتي آمَنَتْ أنْ يَتِمَّ ما قيلَ لها مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ.
(46)فقالَتْ مَرْيَمُ تُعَظِّمُ نَفْسي الرَّبَّ (47)وتَبْتَهِجُ روحِي باللهِ مُخَلِّصي. (48)لأنَّهُ نَظَرَ إلى اتِّضاعِ أَمَتِهِ. فهُوَذا مُنْذُ الآنَ جَميعُ الأجْيالِ تُطَوِّبُني. (49)لأنَّ القَديرَ صنَعَ بي عَظائِمَ واسْمُهُ قُدُّوسٌ. (50)ورحْمَتُهُ إلى جيلِ الأجيالِ للّذينَ يَتَّقونَهُ. (51)صَنَعَ قُوَّةً بِذِراعِهِ. شَتَّتَ المُسْتَكْبِرينَ بِفِكْرِ قُلوبِهم. (52)أنزَلَ الأَعِزّاءَ عن الكَراسِي ورَفَعَ المُتَّضِعينَ. (53)أَشْبَعَ الجِياعَ خيراتٍ وصَرَفَ الأغْنِياءَ فارغينَ. (54)عَضَدَ إِسْرائيلَ فَتاهُ ليَذُكُرَ رَحْمَةً. (55)كما كلَّمَ آباءَنا لإبراهيمَ ونَسْلِهِ إلى الأَبَدِ. (56)فَمَكَثَتْ مريَمُ عِنْدَها نحْوَ ثلاثَةِ أَشْهُرٍ ثمَّ رَجَعَتْ إِلى بيتِها.
كما سمعتم، يأتي ملاك الله جبرائيل، من السماء، إلى الناصرة حيث كانت مريمُ مقيمةً مع رَجُلِها يوسف. ويصف الإنجيلي لوقا مريم أنها عذراء رغم إقامتها في بيت يوسف تأكيداً على عِفّتها، وتحضيراً لنا لِمَا سوف نسمع الملاك يقول. إذ يُبادرها قائلاً: Caire kecaritwmenh = Khaire kekharitomeni = إفرحي فرحاً أيتها المُنْعَمُ عليها، الرَّبُّ معَكِ. هذه هي تحية الملاك للعذراء، افرحي يا مَن قد نِلْتِ نِعَماً من الله. وافرحي لأن الرب معك. ولا يتكلّمُ الملاكُ هنا عن أن الرب سيكون معها في وقتٍ لاحقٍ، بل يقول عن حالةٍ حاضرةٍ وهي أن الربَّ معها الآن وهو معها منذ زمن. “الرَّبُّ معَكِ”. ولم يكتفِ بهذا القول، بل لم يستطع أن يضبط لسانه عن مديحها فقال لها: “مُبارَكَةٌ أنْتِ في النِّساءِ”. وذلك تعظيماً منه للقديسة مريم التي فاقت على كثيرين في طهارتها وقداستها فصارت مبارَكةً في النساء. ليس لأن غيرها من النساء لم يتقدّسن، بل لأنها فاقت في القداسة عليهِنَّ واستحقت أن تكون أُمّاً للخالق. من هنا فالبركة الآتية إليها في شخص ابنها يسوع ستجعلها “المباركة في النساء”، وليس “المباركة” فقط. وهنا نرى القديسة مريم تَحارُ من كلام الملاك وتضطرب، وهذا هو شعور كل القديسين الذي يبلغون القداسة بالتوبة ويخشون من المديح الذي يقدّمه الآخرون لهم خشية أن يُغَرِّر بهم الشرير فيفقدون نعمة التواضع. فرآها الملاكُ وقد رغبت في صَدِّ أذنيها عن سماع هذا الإطراء. فاستدرك نفسَه، لأنه يعرف شعور القديسين، وقال لها: “لا تَخافي يا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِندَ اللهِ”. لا تخافي من كلامي، وإنما أنا أعجز عن ضبط لساني لمعرفتي بحالِكِ وما أنتِ عليه من قداسةٍ، وأنا آتٍ إليكِ بهذا الخبر: “وها أَنْتِ سَتَحْبَلينَ وتَلِدينَ ابناً وتُسَمّينَهُ يَسوعَ. هذا يكونُ عَظيماً وابْنُ العَلِيِّ يُدْعَى ويُعْطيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ داوُدَ أَبيهِ. ويَمْلِكُ على بَيْتِ يَعقوبَ إلى الأبَدِ ولا يَكونُ لِمُلْكِهِ نِهايَةٌ”. هذا الخبر الذي أتى به الملاك ليس بسيطاً وهو عسر الفَهم، إذ يقول أنها 1) سوف تحبل، 2) ستلد ابناً. ثم يعطي صفات هذا الابن المولود منها: أوَّلُها أنّه سيكون عظيماً لأنه عظيمٌ، ويسمّيه الناس ابن العليّ، أي ابن الله، لأن أصله إلهيٌّ رغم أنه منظورٌ كإنسانٍ. فهو ابن الله، بمعنى أنه يحمل الجوهر الإلهيّ. ثم يُكمل في رسم عظمته على الناس فيصوِّر لها أنه سيملك على شعب الله، على المؤمنين. كما يقول المزمور: “أمّا الله فهو ملكنا قبل الدهور، صَنَعَ الخلاص في وسط الأرض” (مزامير 12:75). هكذا يصير الإيمان به أنه مَلِكٌ وإلهٌ فيملك على المؤمنين مُلكاً أبديّاً لا يزول، ليس له”نهاية”. هذا هو ملكوت المسيح. أمام هذا الكلام قامت مريم تختبر صحة رسالة الملاك ومصدرها. فقالت له: “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟”، أو بمعنى آخر: إن كنتَ رسول الله إليَّ، ألا يعلم الله ببتوليتي وأنني رغم إقامتي مع رجل فإنني لا أقيم معه علاقة جسدية، وأنا لا أعرف الرجال. فكيف سيكون حَبَلٌ مِن غير رجل؟ لأنه من المستحيل أن يُغّيِّرَ الله مقصد البتول مريم التي نذرت عذريتها، وهو الذي أعطى الناس ملء الحرية ويحترم حريتهم إلى أبعد الحدود. هنا أجابها الملاك، وهو يفهم ما تقول وكأنه يطمئنها، لأنه يعرف علاقتها بالله وعذريتها وحياتها المقدّسة وكل شيء، ويؤكد لها أن ما يقوله لا يعني أنّ الذي ستحبل به وتلده سيكون من إنسانٍ بل بالروح القدس لهذا قال: “الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَليكِ وقُوَّةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ”، أي أنا أتكلّم عن حَبَلٍ من غير رجلٍ، “فلِذلِكَ أيضاً القُدُّوسُ المَوْلودُ مِنْكِ يُدْعَى ابنَ اللهِ”. لأن الآتي ليدخل أحشاءك هو القدوس السماوي، والحبل ليس من إنسانٍ، لهذا “فالمَولودُ مِنْكِ يُدْعَى ابنَ اللهِ”.
وأعطاها أدلةً على أنه يحمل رسالته من الله:
- من كلامه أن الحبل بالروح القدس وبالتالي كشف لها عن شخص الروح القدس الذي تعرفه هي. وبالتالي إيمانه به وبفعله، أي يشاركها الإيمان بقوة الروح القدس واقتداره.
- أليصابات نسيبتها الآن حاملٌ في الشهر السادس، دليلاً على قدرة الله على تغيير مجرى الطبيعة.
- إيمانه بأنه ليس شيءٌ غير ممكن لدى الله.
وهكذا قطع كل شكٍّ بأنه قد يكون المجرِّب، بل يؤكِّد في كل ما يقول أنه رسول الله. فأكَّدَت مريم في المقابل أنها هي أيضاً أمَةُ الله، وأنها تنصاعُ لأوامره وليس لأقوالٍ أخرى لغيره. ولهذا قالَتْ: “هُوَذا أنا أَمَةٌ للرَّبِّ”، فإن كان كلامُكَ من الله فلتكن إرادة الله، “ليَكُنْ لي بحسبِ قَولِكَ”، طالما أن الله القدوس لا يغيّر في مقصدي ونذري له.
من هذا الكلام يتضح أن الملاك جبرائيل لم ينقل الرسالة وحدها بشكل جاف، بل أوضح بكلام المديح الذي تفوّه به نحوها ما معنى أنها “وَجَدَتْ نعمة عند الله”. وإذا أكملنا في إنجيل لوقا وتابعنا زيارة مريم العذراء لأليصابات لوجدنا أن سلام مريم على أليصابات قد فعل فِعلَه، إذ ارتكض الجنين (يوحنا المعمدان) في بطن أليصابات وامتلأت من الروح القدس. “وصَرَخَتْ بصوتٍ عَظيمٍ” نحو العذراء، أي بادرتها بالمديح قائلة ومُعلِنةً على الملأ: “مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّساءِ ومُبارَكَةٌ هيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ”. تمدحها وتسميها “مُبارَكَةٌ” بالروح القدس لأنها تحمل “ابن المبارَك”.
وهذه البركة التي تحملها القديسة، الفائقة القداسة مريم هي الثمرة المباركة، وهي التي تجعل مجيء القديسة مريم إلى أليصابات أمراً عظيماً لا تستحقه أليصابات (كما تنظر هي إلى القضية)، فتتعجَّب وتقول بإنذهال: “مِنْ أينَ لي هذا” الشرف العظيم “أنْ تأتيَ أمُّ رَبّي إِلَيَّ”؟ في الحقيقة، ابنُ الله وهو جنين في بطن مريم يزور الآن أليصابات، وأليصابات بالروح القدس تخاطب مَن فاقت على النساء في القداسة، فاستحقّت أن تحمل الثمر المبارَك وتحارُ كيف تتنازل الفائقة القداسة لتأتي إلى أمَةِ الله الفقيرة؟ وهنا تتكلم أليصابات بالروح القدس وتسمّي العذراء أمَّ الرب أي أمّ الله لأن “الله هو الرب وقد ظهر لنا” (مزمور 26:117-27).
- مريم تلد ابن الله فهي أم ابن الله، أم الرب، التي وَلَدَتْ الإله بالجسد، فيسوع هو الإله المتجسِّد.
- في هذين الحدَثَيْن مديحٌ واضح للعذراء. وعلى هذا المديح يرتكز كل مديح يقال في والدة الإله في الكنيسة.
- وكل مديحٍ للعذراء أو لأيٍّ من القديسين هو تمجيدٌ لله “العجيب في قديسيه” أي الصانع بهم العجائب. “عظيمٌ أنت يا رب وعجيبة أفعالُكَ وليس من قولٍ يفي بتسبيح عجائبك”.
نفهم مدح ملاك الله جبرائيل للعذراء مريم على أنّه تعظيمٌ لله، ونفهم مدح أليصابات بالروح القدس للعذراء مريم على أنه تعظيمٌ لله، “الذي يجعل قديسيه في الأرض أعجوبة”. الذي آمنت به مريم فنالت منه الطوبى أي البركة والغبطة. على هذه الخلفيّة نفهم هتاف المرأة التي إذْ سمعت كلام يسوع المسيح وفرحت بأقواله رفعت صوتها بين الجمع وقالت له، أي قالت للمسيح: “طوبى للبطن الذي حَمَلَكَ والثديَين اللذَين رَضِعتَهُما” (لوقا 27:11). كم هي مباركة التي أنجبت هذا القدوس الذي يتفوّه بكلام مبارَك! فقال لها يسوعُ: إن مريمَ مبارَكَةٌ لأنها تُطيع أوامر الله من البداية، ولهذا تقدَّست ووجَدَتْ نعمةً عند الله ونالت شرف أن تحمل في أحشائها ابن المبارَك، “طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها” (لوقا 28:11). من هنا نرنم في الكنيسة يوم ميلاد العذراء: “اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنَكِ وانسَي شعبَكِ وبيتَ أبيك فيشتهي الملك حُسْنَكِ” (مزامير 10:45).
هذه الطاعة للكلمة الإلهية جعلت الله ينظر إليها ويمنحها نعمةً، فتقول هي عن ذاتها: “تُعَظِّمُ نَفْسي الرَّبَّ وتَبْتَهِجُ روحِي باللهِ مُخَلِّصي. لأنَّهُ نَظَرَ إلى تواضُعِ أَمَتِهِ”. هي تعظم الله وتفرح بالخلاص الذي بشرها به ومن خلالها بشر به الناس. فهو ربُّها ومخلِّصُها وفرحها. وذلك لأنه يحب المتواضعين ويرفعهم، أما المتكبرون فيحطّهم ويرميهم إلى أسفل. الله يرفع شأن المتواضعين، في عيوننا، لأنه يُرينا كم هم محبوبون منه. هكذا يؤدبنا ويرشدنا إلى التمثل بسلوكهم. لهذا فمريم مباركة ولها الطوبى. وتقول هي أيضاً: “فهُوَذا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُني جَميعُ الأجْيالِ”. والسبب هو أن القدير صنع بالعذراء “عظائم”، أموراً مستغربة عند الناس: عذراء تحبل وتلد وتبقى عذراء! إعجازٌ ما بعدَهُ إعجازٌ، وليس من تفسير سوى أن الله صانعه دلالةً على حضوره هو بالذات. هكذا أظهر اسمَه أنه قدوسٌ. وكشف أن رحمته على كل الأجيال للذين يَتّقونه.
ومكانة العذراء عند ابنها وربِّها عظيمةٌ حتّى أن طلبتها لا تُرَدُّ. يَظْهَرُ هذا جلياً في حادثة عرس قانا، في الجليل (يوحنا 1:2-11). حيث تُبْرِزُ العذراءُ للمسيحِ، العالِمِ بكلّ شيءٍ، أن “ليس عندهم خمرٌ”، وكأنها ترثي لحالهم وتبتغي لهم البهجة السماوية والأرضية. هكذا تكشف أيضاً عن قداستها لأن محبتها نابعة من محبة إلهية، فهي لا تطلب لنفسها بل لغيرها.
وأراد المسيحُ أن يوضح أكثر الكرامةَ التي لها عنده، فقال لها: “يا امرأةُ، لم تأتِ ساعتي بعد”. إذا كنتِ تعرفين قدرتي ورحمتي ومحبتي للناس الذين أتيتُ لكي تكون لهم الحياة، وتكون أفضل، فإن توقيت بدء الإعلان، بدء الظهور على الملأ يبقى شأني. ومع أنه شأني إلا أنكِ تشاطرينني الرغبة في إسباغ البهجة على قلوب الناس وانتزاع البؤس منها. الآن أُعلِنُ أن إرادتَكِ متَّحِدة مع إرادتي. هذا فَهِمَتْهُ العذراء فأجابت: “مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنا 5:2). لو كان جواب المسيح سلبياً بمعنى: أنتِ ابقِ في شأنكِ الخاص وما عليكِ من شؤوني، أي لا يخصّك. لكان خذلها وعادت أدراجها. ولكن اللهجة إيجابية مائة في المائة، لهذا أكملت: “مهما قال لكم فافعلوه”. وكأنها تقول أطيعوا الرب يسوع فتجدوا راحةً لنفوسكم، وتختبرون فرحاً آخَر لا يوصف، هذا هو تعليمها.
نفسُها تتَّحِدُ به وتحبّه، وقد شاطرها في محبة المسيح يوحنا الإنجيلي، أصغرُ التلاميذ، لأنه رغم اضطهاد اليهود وصَلْبِ المسيح، بقي مع مريم العذراء عند الصليب. عند ذاك قال يسوعُ لأُمِّه: “يا امرأةُ، هو ذا ابنُكِ”. الذي يحبّني هو أخي وأنتِ أمَّهُ. “ثم التفت نحو التلميذ وقال له: هو ذا أُمُّك” (يوحنا 26:19-27). هذه التي ولدتني وقد أحبَّت العالم وصارت أمّاً لجميع الذين آمنوا بي وأحبوني، “ومِن تلك الساعة أخذها ذلك التلميذُ إلى خاصّته”. علاقة يوحنا ومريم هي علاقة حبٍّ ليسوع. علاقة كل مؤمن بمريم هي علاقة حبٍّ ليسوع، نلجأ إليها في الضيقات لأننا نعلم أن طلبتها لا تُرَدّ، فهي الشفيعة من أجل العالم. ومع أن الكنيسة الأرثوذكسية تؤكّد بما لا يقبل الشك، لا بل تعلن وتبشر أن المخلّصَ الوحيد والوسيط الوحيد بين الله والناس هو الرب يسوع المسيح، فإنها لا تخشى أن توجِّه إلى العذراء الدعاء: “أيتها الفائق قدسها، والدة الإله، خلصينا”. وذلك ليس لأن مريم تملك الخلاص وتمنحه، بل هو منحة إلهية، ولكن لأن مريم بشفاعتها عند الله، يمنحنا الله بصلواتها وتضرّعاتها الخلاص.
هذا التكريم العظيم للعذراء “والدة الإله”، “الممتلئة نعمة”، “الدائمة البتولية”، “الكلية القداسة”، “أم النور”، “عروس الله”، لا يُنسينا ويجب أن لا يُنسينا ما قالته العذراء نفسها أيضاً “ها أنا أمَةٌ للرب” فهي أَمَةُ الله. ومع أنها ولَدَتْهُ بالجسد، إلا أنها تبقى أمَتَهُ تصلّي إلَيه وتضرع. نحن نكرّمها كأم الإله، تكريماً لا عبادة. نعظّمها جداً ونطلب شفاعتها ولا نقدّم لها العبادة. عظَمَتُها في الثمر الذي أنجبته للعالم. من هنا لا تُرسَمُ في الكنيسة الأرثوذكسية بمفردها، بل دائماً تُرسَمُ وهي حاملة يسوع بين ذراعيها: “قامَتْ الملكة عن يمينكَ” (مزامير 9:45). هذا المجد وهذه البركة اكتسبتهما العذراء بسبب أمومتها. ولكن هذا المجد لا يرقى مطلقاً إلى إطلاق صفاتٍ عليها هي حصراً لا تقال لغير الله.
أصِلُ الآن إلى خلاصة ما أبتغي أن أقول. فمع وجود هذه الجذور الإيمانية الواحدة في حياة الكنيسة المسيحية الأولى والواضحة في الكتاب المقدّس، إلاّ أنَّ الاجتهادات في الإيمان أعاقتها عن إعطاء جذعٍ واحدٍ للأسف. فإذا أخذتُ قضية إكرام العذراء وحدها، من دون التطرُّق لأمورٍ عقائدية أخرى، لوَجدتُ أن إكرام العذراء عند اللاتين قد تخطّى الحدود المقبولة للمخلوق. ولو أن الأمر بقي جهلاً في ممارسات الناس لوصفناه انحراف في ممارسات جاهلية، كما يحصل عندنا وفي كل مكان. لكن أن يكتسب صفة شرعية كعقيدة فهذا مدعاةُ تفرقة. الابتعادُ عن التسليم الرسولي قاد اللاتين إلى اعتبار ولادة العذراء من دون آثار الخطيئة الأصلية. [ هذا هو معنى عقيدة “الحبل بلا دنس” التي نشرها البابا بيوس التاسع في منشور بابوي، في 8 كانون الأول 1854: إن مريم العذراء الكلية القداسة، وُجدَتْ منذ اللحظة الأولى للحبل بها مصونة ومنزهة من كل دنس الخطيئة الأصلية. وذلك بنعمة وامتياز خصّها بهما الله الكلي القدرة، وبفضل استحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري.] ووفق هذه العقيدة المعلنة تتمتع العذراء بامتياز خاص: فهي منزّهة عن الخطيئة الأصلية منذ لحظة الحبل بها من أبويها يواكيم وحنّة. لكي يتجسّد منها المسيح ويصير إنساناً كاملاً ليس فيه خطيئة.
نحن الأرثوذكسيون نقول في مديح العذراء ( بيت 23 ): “يا والدةَ الإله، بما أنك هيكلٌ حيٌّ نمدحُكِ جميعُنا مرتلين لِلمَولودِ منكِ. لأن الرب الضابط الكون بيده قد سكن في بطنكِ فقدّسَكِ ومجّدَكِ وعلَّمَ الجميع أن يهتفوا بكِ: افرحي، يا مِظَلَّة الإله الكلمة، افرحي، يا قديسةً أعظم من قُدْس الأقداس، إفرحي، يا تابوتاً مذهَّباً بالروح، إفرحي، يا كنزاً للحياة لا نفاذ له”. أي، نحن نؤمِنُ أنَّ العذراءَ قد تطهَّرَت من الخطيئة عندما حَلَّ عليها الروح القدس وظلَّلتها قوة العليّ. فلو كان للعذراء أنْ تَنعَمَ بنتائج الفداء قبل عمل المسيح الخلاصي أو بدونه، فلماذا لا يَنعَمُ به آخَرون، ولماذا يموت المسيح أو يتجسّد أساساً؟
ويأتي ظهور العذراء للقديسة برناديت في 25 آذار 1858، فيتَّخذ منه الغربيون حُجّة في أن قولهم في العذراء، أنه حُبلَ بها من غير دنس، أي بلا خطيئة، صحيحٌ. ولكن إذا تَمَعَنّا في الحادثة، وهي خمسة عشر ظهوراً للعذراء في لورد، لوجدنا أن العذراء تكلمت مَرّة واحدة وقالت:
” أنا الحبل بلا دنس = Je suis l’immaculee conception = I am the immaculate conception.”
هنا علينا أن نلاحظ أنها قيلت يوم عيد البشارة 25 آذار 1858، وهو عيد حبل العذراء بالمسيح الذي بلا خطيئة. هكذا نفهم على ضوء الإنجيل والتسليم القويم أنها تقول أنني أنا التي حَبَلت بالذي “لم يعرف خطيئة ولم يُوجَد في فَمِه مَكرٌ”(1 بطرس 22:2)، حَبَلت بحمل الله الخالي من العيوب.
ولا يبقى هذا الاعتراض على سوء فهم عبارة العذراء في لورد محصوراً في الأرثوذكسيين، بل كثيرٌ من اللاهوتيين الغربيين أيضاً يرفضه، وأهمهم توما الأكويني في “تفسيره الأمثال” ( I. III. d. 3، 9.1، 9.4، a.1) وفي “الخلاصة اللاهوتية” (III a، 9، 27)، ورغم ذلك بقي البابويون على موقفهم المغاير لإيمان الكنيسة الأول.
وهناك قول آخَر أعلنته الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية في المجمع الفاتيكاني الثاني، وهو أن مريم شريكة في الفداء Co-Redemptrice. [دستور عقائدي في الكنيسة، الفصل الثامن، ثالثاً: العذراء الطوباوية والكنيسة، فقرة 61- الوثائق المجمعية للمجمع الفاتيكاني الثاني باللغة العربية، طبعة ثالثة منقّحة، 1989، ص 135] الفادي هو يسوع الذي سفك دمه فداءً عنّا، ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني أنها شريكة في الفداء. هذا القول مرفوضٌ أيضاً أرثوذكسياً، وقد علّق الأب سرج بولغاكوف (1871-1944) أننا يمكن أن نصفها (العذراء) “أداة الخلاص وواسطته” ولكن ليس شريكة في الفداء [في الكلمة المتجسد، الفصلين الثاني والرابع، ترجمة رزق الله عرمان، مجلة النور، عدد 6، سنة 1948]. ويقول الأب متى المسكين في العذراء القديسة مريم [منشورات دير القديس أنبا مقار، وادي النطرون]: “كونها والدة الإله لا يؤهّلها بأي حال من الأحوال أن تُدعى شريكة في عملية الفداء والخلاص من أي وجه، لأن ذلك يستلزم قطعاً طبيعة إلهية. أما طبيعة مريم العذراء فبشرِيَّةٌ ظلَّت محفوظة بالنعمة تنتظر الفداء والخلاص والقيامة إلى يوم الخمسين بفعل إيمانها وصلاتها وحلول الروح القدس الناري عليها وشركتها مع التلاميذ في الجسد والدم بحالة اتّضاع “كأَمَةٍ للرب” … ليست فادية أو مخلِّصة ولكنها مَفْدِيَّة ومُخلَّصَة …”
مثل هذه الاجتهادات في الإيمان تجعل الهوّة الفاصلة أكبر فأكبر. وليس أدلُّ على ذلك من القضية التي أثارها العام الماضي السيد محمد السماك في جريدة النهار حيث أورد نبأً عن اقتراحٍ مُقدَّمٍ إلى الحبر الروماني، من أحد الأساقفة اللاتين في أميركا الجنوبية، لِرَفع القديسة مريم العذراء إلى مرتبة أقنوم. فتصبح مريم الأقنوم الرابع. وقد شفع اقتراحه هذا بموافقة خطية من عدد من الإكليروس والشعب جَمَعَه في 23 مُجَلّد. قال السيد محمد السماك، العضو في لجنة الحوار الإسلامي المسيحي، أن المسلمين لا يفهمون من أين أتى المسيحيون بالثالوث فيطلعون عليهم جديداً برابوع. فماذا كانت ردّة فعل الفاتيكان على الاقتراح؟ أُحيل الاقتراح إلى لجنة أجابت بعد ثلاثة أيام، كانت الدنيا فيها قامت ولم تقعد، بأن الاقتراح مرفوض. لم يفعلوا مع المقترح شيئاً. بينما كان من الواجب أن يمثُلَ هذا الأسقف ومَن يجاريه في قوله أمام محكمة كنسية تحكم في عقيدته وتُجرِّمه لأنه يضع المخلوق في مقام الخالق، فتُجرّده وتفصله لكي لا يستشري تعليمه بين الناس. لم يحكم الفاتيكان في صحة هذه المقولة، وكأنه يقول أن قبول الفكرة يحتاج إلى تهيئة، كما صارت التهيئة لقبول انبثاق الروح القدس من الابن وكما صارت التهيئة لقبول حبَل العذراء بلا دنس، وبالتالي ربما تلاقي قبولاً فيما بعد!
هكذا ترون أنَّ هذه القضايا تجعل مسافةً كبيرة بين الكنيستين، ورغم ذلك فقد شهد هذا القرن محاولات لردم الهوّة ورأب الصدع، أترك للأب الياس خليفة أن يتحدّث عنها، سواء المساعي من الناحية العقائدية أو من الناحية الشكلية الظاهرية كعيد الفصح مثلاً.
[حديث للأب حارث ابراهيم راعي كنيسة الروم الأرثوذكس بالكويت، في قاعة كنيسة العائلة المقدسة اللاتينية لجمهورٍ من الرعية المارونية. أُلقي مساء الثلاثاء في 18/4/2000 ]
الإشارات التي قيلَتْ سابقاً في العذراء مريم. نبوءة حزقيال التي يقول فيها:
” ثم أرجَعَني ( الرب ) إلى طريقِ بابِ المَقدِسِ الخارجيّ المتّجه نحو الشرق، وهو مُغلَق. فقال ليَ الرب: هذا الباب يكونُ مُغلَقاً، لا يُفْتَح، ولا يَدخُل منه إنسانٌ. لأن الربَّ إله إسرائيل دَخَلَ منه، فيكونُ مغلَقاً ” (حزقيال 1:44-2) أي يبقى هكذا، لا يَمَسُّه إنسانٌ لأنه للرب.
وأيضاً أدرَكَ يوسفُ سِرَّ العُلّيقة التي رآها موسى. يقول في سِفْرِ الخروج:
” وأمّا موسى فكان يرعَى غَنَم يَثرون حميه، كاهن مديان. فساق الغنم إلى وراء البَرّية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهَرَ له ملاكُ الرب بلهيب نارٍ من وسط عُلّيقة. فنَظَرَ وإذا العلّيقة تتوَقَّدُ بالنّار والعلّيقةُ لم تكن تحتَرق. فقال موسى أَميلُ الآن لأَنْظُرَ هذا المنظَرَ العظيم: لماذا لم تَحترق العلّيقة؟ فلمّا رأى الربُّ أنه مال ليَنظُرَ ناداه اللهُ مِن وسط العلّيقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترِب إلى ههنا. إخلَعْ نعلَيك من رجلَيك، لأن الموضِعَ الذي أنتَ واقفٌ عليه أرضٌ مقدّسة.” (خروج 1:3-5)
أدرك يوسف سِرّ العُلّيقة، أدرَكَ أن في العذراء حَلَّ نارُ اللاهوت، مِلءُ اللاهوت، كلُّه، صار مُتجَسِّداً في بطن العذراء. إخْلَع نَعلَيكَ، أي إخلَعْ عنكَ أفكارَك القديمة البالية، لأن الأرض التي أنت واقفٌ عليها أرضٌ مقدّسة فقد وَطِئَها الرب. العذراءُ عَرشُ الله. هكذا يصبحُ التكريم لبيت الله ولكلِّ ما هو لله. كلُّ ما هو مُكَرَّسٌ لله يصبح مكرَّماً وفائق الكرامة عند كلِّ مَنْ يؤمِن ويتعبَّد.
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي