قال الربّ يسوع مخاطباً الآب: “إنَّ الذين أعطيتَهم لي قد حفظتُهم ولم يهلك منهم أحَدٌ إلاّ ابنُ الهلاك ليَتِمّ الكتاب” (يوحنا 17: 12)
فما معنى “ليتمّ الكتاب”؟ هل تظنّون أنَّ الله أمَرَ بحادثٍ ما وأنَّه، تتميماً لأمره، حصل الحادث؟ هل هلك يهوذا لأنَّ الله أراد هلاكه؟ هل الله مزاجيّ يُهلكُ مَن يشاء ويُخلِّصُ مَن يشاء؟ دعونا نبحث عن جواب في الإنجيل حيث يوضِح الله فكره. هلاّ نسمعُ الربَّ يسوع نفسه يَضرب مَثَل الخروف الضّال ويقول عن الراعي أنّه يترك التّسعةَ والتسعين خروفاً ويذهب للبحث عن الضّال وأنّه يَفرح به أكثر من التّسعة والتّسعين التي لم تضلّ. ويختم: “هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد” (متّى 18: 14) وهو سالفاً، قَبْلَ إعطائه المَثَل، أعلن مهمّته الأساسيّة فقال: “إنَّ ابنَ البشر قد جاء لكي يُخلِّصَ ما قد هلك” (متّى 18: 11) أي جاء لينتشلنا من الموت والهلاك الذي نحن فيه ويُعيد لنا الحياة. هذه هي إرادة الله: خلاص النّاس لا هلاكهم.
ويسوع عندما تحدّثَ عن خبز الله النّازل من السّماء، الواهب حياةً للعالَم، أردَف فقال: “أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إنْ أكل أحَدٌ هذا الخبز يَحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذُله من أجل حياة العالَم” (يوحنا 6: 51). لم يَقُل مِن أجل حياة اليهود وحدهم بل قال من أجل حياة العالم، أي كلّ مَن يؤمِن به مِن النّاس. يسوع جاء مُخلِّصاً لكلّ العالَم، فمَن يقبَله ينال منه الحياة الأبدية ومَن لا يقبَله يكون كمَن يرفُض الحياة ليبقى في الموت. هذا بالضبط ما حصل مع يهوذا.
يقول القديس يوحنّا الإنجيلي (في الإصحاح 13) أنَّ يسوع أحبَّ خاصَّته إلى المنتهى، وحين جاءَت ساعتُه ليَنتقِل من هذا العالم إلى الآب جمعَ تلاميذه على العشاء. يهوذا جاء إلى العشاء مع بقيّة التلاميذ لكنَّ قلبه لم يكن صافياً ومحبّاً للمعلِّم يسوع. إذ يقول القديس لوقا في إنجيله أنَّه عندما قَرُبَ عيد الفصح اليهوديّ كان رؤساء الكهنة والكتَبَة يطلبون أن يقتلوا يسوع ولكنّهم مُحتارون كيف لأنّهم كانوا يخافون من الشعب، عندها “دخَلَ الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي، وهو مِن جملة الإثني عشر، فمضَى وتكلَّم مع رؤساء الكهنة وقوّاد الجُند كيف يُسَلِّمه إليهم، ففَرحوا وعاهدوه أنْ يُعطوه فضّةً، فواعَدَهم. وكان يَطلُب فرصةً ليُسْلِمَه إليهم خلواً من جَمعٍ” (لوقا 22: 3-6). رؤساء الكهنة يريدون قتل يسوع لأنّه يبعِد الشعب عنهم ويهوذا لم يَعُد يطيق اتّباع يسوع لأنّه لا يخدم مشروع الدولة اليهودية التي يريدها، ولأنّه لم يؤمِن أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله، عندها دخله الشيطان وأوعز إليه تسليم يسوع لرؤساء الكهنة فذهب برجليه إليهم. لم يُغووه بالمال لكي يخون السيد والمعلِّم. لم يعرضوا عليه خمسة ثم عشرة فعشرين فثلاثين من الفضّة. كلا، هو من ذاته رفض يسوع المعلّم وسعى إلى تسليمه. من هنا قول القديس يوحنّا الإنجيلي أنّه حين العشاء كان الشيطان “قد ألقى في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أنْ يُسَلِّمه” (يوحنّا 13: 2). هذا حصل قبل العشاء. ورغم معرفة يسوع بذلك، لأنّه يعرف القلوب ولا يخفى عليه شيء، أظهَرَ نحو يهوذا حُبّه الكلّي بأنّه لمّا إئتزَر بمنشفةٍ وغسَل أرجُل التلاميذ غسَل رجلَي يهوذا. وبعد أنْ كشف للتلاميذ عن معرفته أنَّ واحداً منهم سيُسَلّمه، احتار التلاميذ لكنّهم لم يعرفوا مَن. وعندها أيضاً أظهر يسوع حبّه نحو يهوذا بأنْ غمَّس اللقمة وأعطاه ليأكل. هذه الحركة في عاداتنا الشرقية هي قمّة الحبّ أن تعطي الآخر بيدك طعاماً (والطعام حياة) ليأكل. أعطى يهوذا وحده من بين التلاميذ الإثني عشر.
لكن يهوذا لم يفهم لغة الحبّ. “فبعد اللقمة” يقول القديس يوحنا الإنجيلي “دخلَه الشيطان” أيضاً، أي أمَرَه بتنفيذ ما عزَم على فعله. هو نوى على تسليمه وكان يتحيّن الفرصة والآن يقول له الشيطان: “هذه هي فرصتك”. حينها قال يسوع ليهوذا: “ما أنتَ فاعِلُه فافعله بسرعة” (يوحنّا 13: 27). ولم يتأخَّر يهوذا في تتميم عزمه فخرج على جناح الليل قاصداً رؤساء الكهنة ليرسلوا معه حُرّاساً وقبضوا على يسوع.
لماذا لم يفهم يهوذا لغة الحبّ؟ يقول الأب صفروني سخاروف عن خبرته مع النّاس في سرّ الاعتراف: “إنّه لمِن المستحيل فهم البشر، فإنّهم إمّا عميان ’ولا يدرون ما يفعلون‘، أو هم يُعانون من العمى اللوني. فإنّهم غالباً ما يرون الأشياء في ضوء معكوس، كما في الصورة الفوتوغرافية السالبة. لهذا يبدو مستحيلاً عليهم أن يكتشفوا حقيقة الحياة البسيطة، وحالتهم لا تترك أيّ مجال لإرشادهم. يبدون عدائيين لأيّة حركة من حبّ الله لهم. أمّا الإتّضاع الصبور فيبدو لهم رياءً (إذا شتموك وأنتَ غفرتَ لهم يعتبرون غفرانك كذباً)، وكلّ تحرّك لمساعدتهم عليه أنْ يَنبُع من صغائر أنفسهم (يعتبرون دافع المساعدة هو النّفع الذاتي لا الحبّ). إنَّ الروح المسيحيّة الداعية إلى عدم مواجهة الشرّ بالشرّ تُشجّعهم على الوقاحة ويواجهون الإكليروس بما لا يليق ويَعزَون إليهم ما ليس فيهم” (في الصلاة، ص 175).
هذا ما تنبّأ عنه الربّ بلسان صاحب المزامير فقال: “بكلام بغضٍ أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب. بدل محبّتي يخاصمونني، أمّا أنا فأصلّي من أجلهم. وضعوا عليَّ شرّاً بدل الخير وبُغضاً بدل محبّتي” (مزمور 109: 3-5)
إذاً اللهُ سبقَ فأنبأَ بما سيكون، لا لأنّه سبق فحدَّد ما سيعمَل كلّ إنسان، بل لأنّه في سابق عِلمه يعرف ما سوف يحصل ويُخبِر عنه مُسبقاً. لو كان الإنسان مُسَيَّراً لمَا احتار في اتّخاذ أي قرار، ولكنّه مُخَيَّر ويحتار في الإختيار. الله بلَّغ الأنبياء وهم كتبوا النبوءات، وما يحصل هو من اختيار النّاس الذي لا يخفَ على الله. ويستعمل الكتاب عبارة “ليتمّ الكتاب” بقصد أنَّ الحدث قد سبق الأنبياء فخبّروا عنه، وهذا لا يعني أبداً تدخّل الله في إحداثه. هذا ما عناه القديس متّى الإنجيلي في قوله أنَّ بشارة الملاك للعذراء وميلاد يسوع كانا تتميماً لقول إشعياء: “ها العذراء تحبَل وتلد ابناً ويدعى اسمه عمّانوئيل” (7: 14)، فكيف قال ذلك؟ قال: “وهذا كلّه كان لكي يتمّ ما قيل من الربّ” (متّى 1: 22). ونفس العبارة يقولها متّى عند إحضار التلاميذ للأتان ليدخل عليها يسوع إلى أورشليم، يقول: “لكي يتمّ ما قيل بالنبيّ” (متّى 21: 4)، وعن إقتراع الجُند على ثوب يسوع ساعة صلبه، يقول: ” لكي يتمّ ما قيل بالنبيّ” (متّى 27: 35)، ويقولها مثله يوحنّا عن عدم إيمان اليهود بيسوع: “ليتمّ قول إشعياء النبيّ الذي قاله” (يوحنّا 12: 38)، وهنا أيضاً عن هلاك يهوذا: “ليتمّ الكتاب”. فيكون معنى كلمة “ليتمّ” هو: الله، حقّاً، عارفٌ بالأمور قبل أن تصير، ويُخبِرُ عنها، لكنّه ليس فاعلُها.
من هنا يكون عمل يهوذا هو: الخيانة للرب الذي أحبّه. لا يمكن ولا يجوز تصوير يهوذا بطلاً، كما يحلو لبعض المنحرفين عن الإنجيل أن يُصوّروه. يهوذا لم يكن يُنفِّذُ أمراً إلهياً، بل كان يعمل مشيئة قلبه الشّرير. هو بوعيه رفض أنْ يَقبَلَ يسوع على أنّه المسيح ابن الله مخلِّص العالم. كان ممكناً أن يتمَّ القبض على يسوع بدون مساعدة يهوذا، في السرّ أو في العَلَن. ومَن يَنوي على أمرٍ لا يردعه النّاس: هيرودس كان يخاف من الشعب وتَريَّث كثيراً مع يوحنّا المعمدان الذي كان يُوبّخه لكنّه في الأخير وضعه في السجن، وتَرَيَّث كثيراً معه في السجن خوفاً من النّاس لكنّه أخيراً قطع رأسه. الخوف من النّاس يُعيق أيّ جريمة لكنّه لا يُعطّلها. رؤساء كهنة اليهود كانوا عازمين على قتل يسوع ولم يكونوا يبحثون عن خائن بل كانوا يتحيّنون الفرصة ليقبضوا عليه. يهوذا خائنٌ، شرّير، ويدلّ على تجذّره في الشرّ أنّه لمّا أدرَكَ جُرمَه لم يَتُب ويطلب الغفران كما فعل القديس بطرس، الذي مِثْلُه أخطأ عندما أنكر الربَّ وجعل يَلعن ويشتم قائلاً: “إنّي لا أعرف الرجُل” (مرقس 14: 71). بطرس فعل هذا في لحظة ضُعف خوفاً على نفسه من الإعتقال والموت في جريرة يسوع، لكنّه عندما عاد إلى رُشده بكى بكاءً مُرّاً (لوقا 22: 62)، خرجت أحشاؤه من شدّة النّدم، وطلب المغفرة من يسوع. كان ينبغي على يهوذا أن يعمل مثل بطرس، أن يطلب المغفرة من يسوع، لكنّ يهوذا لم يكن مؤمناً بأنَّ ليسوع سلطان مغفرة الخطايا، وربما لم يؤمن بأنَّ التوبة ممكنة، فآثَر أنْ يَتخلّص مِن ألمه بشنق نفسه. صالبو يسوع أنفسهم نالوا الغفران عندما تابوا، قال الرب: “كلّ تجديف على ابن البشر يُغفَر للنّاس”، فالذين رفضوا يسوع ثم عادوا إلى رُشدهم صاروا قدّيسين وأبرز مَن اضطهد الكنيسة ثم تاب كان القديس بولُس الرسول نفسُه، “لكنّ الذي يُجدِّف على الروح (محتسباً اللهَ غير موجود، والحياة الأخرى غير موجودة) فلا يُغفَر له” (لوقا 12: 10) لأنّه لا يطلب الغفران أصلاً. هذه هي حالة التجديف، أن لا يطلب الإنسانُ المغفرةَ من الله ويتوب إليه. الله يحبُّنا ويريد خلاصَنا، لكنّه لا يستطيع أنْ يُخلِّصنا رغماً عَنّا، ويمنحنا كلّ شيء عند الطلب، هو القائل: “اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتَح لكم” (متّى 7: 7) اطلبوا الغفران من المسيح تنالونه، استجدوه تُمحى خطاياكم، واقرعوا باب الملكوت يُدخلكم إليه.
الأب الحارث إبراهيم
عظة في أحد الآباء، 4 حزيران 2006، كنيسة النبي الياس – بيت مري
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكسي