دير البشارة في أوفا هو أحد الأديار الذائعة الشهرة بسبب المكانة الروحية العالية لراهباته. هذا كان ثمرة مؤسِّسَته، الأم فيلاريتا، التي كانت بدورها تلميذة للقديس سارافيم ساروفسكي والشيخ العظيم فيلاريت. سيرة حياتها موجودة في كتاب Glinks Patericon ومنه مأخوذة هذه السيرة المختصَر.
وُلدَت ستافنيدا ستافنوفنا بيشكوفا، التي صارت لاحقاً الأم فيلاريتا، عام 1807 في عائلة كنسية. أمها كانت أميّة وغالباً ما كانت تسأل الأولاد أن يقرؤوا عالياً من كلمة الله أو أن يرووا القراءات الكتابية التي سمعوها في الكنيسة. في الوقت نفسه، لقد عوّدتهم على العمل. ستافنيدا، الفتاة الوسطى، كانت مميزة بتقواها بالرغم من امتلاكها طبيعة حية جداً عرّضتها بعض الأحيان للمتاعب. في عمر العاشرة عُهِد بها إلى امرأة متعلّمة وتقية جداً أعطتها تأسيساً صلباً في مهارات التعلّم الأساسية كما في مختلف أشكال العمل اليدوي. كل صباح، بعد صلواتها، كانت ستافنيدا تقرأ سيرة قديس اليوم ومن ثم تجيب على أسئلة عليها.
عندما عادت إلى البيت بعد سنوات، راح أهلها يفكرون بإيجاد زوج مناسب لها، لكن الفتاة كانت تخفي رغبة سرية في أن تترهب. وإذ لم تكن تجرؤ على إخبار أهلها بذلك، تحوّلت إلى ملاكها الحارس وإلى سيدة السماوات بدموع حارقة وصلوات. وبتدبير من الله، رتبت الظروف نفسها كي تُوضع فكرة الزواج جانباً. فقد وقع أخوها الصغير يوحنا في مرض عضال وتعذّب لسنتين من اعتلال في رجله إلى أن أتت بعض الراهبات من دير المستنقعات السبعة إلى القرية ومعهن أيقونة والدة الإله العجائبية التي في سمولنسك. جثا الصبي أمام الأيقونة بقلب مملوء صلاة. وفيما رُفعَت الأيقونة فوقه اختبر الصبي المعذَب توقفاً كاملاً للوجع. كدليل امتنان لهذه الأعجوبة سمح الأهل لستيفانيدا بأن ترافق الأيقونة في عودتها إلى الدير حيث أمضت شهراً تقوم بمختلف أعمال الطاعة. هذه الخبرة عزّزت رغبتها بالحياة الرهبانية.
عاجلاً أخذت بركة أهلها لكي تذهب مع إحدى صديقاتها في رحلة حج إلى كييف. في الطريق توقفتا في ساروف حيث استقبلهما الأب سيرافيم (القديس) بحرارة وأخبر ستافنيدا بأنها سوف تذهب إلى أوفا حيث سوف يكون هناك دير وهناك سوف تكون رئيسة للدير وسوف تجد الخلاص. من ثم وجّههما إلى غلنسك لتلتقيا الشيخ فيلاريت. هذا قاما به في طريق عودتهما من كييف. وقد أظهر الشيخ ذو البصيرة دفءً خاصاً نحو المسافرة الصبية ستافنيدا وصار أباها الروحي ومرشدها.
وبعد عودتها إلى البيت أخذت ستافنيدا إذناً بالانضمام إلى جماعة من الشابات الطامحات إلى الرهبنة واللواتي كنّ يعشن في منزل قد بناه أهلها وهم يدعمونه. لُفت انتباه الأسقف إلى الحياة النموذجية لهذه الجماعة الصغيرة فبارك سعيها وعيّن ستافنيدا مسؤولة عنها. في العام 1832 انتقلت الجماعة الناشئة إلى بيت أكبر في مدينة أوفا. أرسِلت اثنتان من الأخوات إلى دير القديس سارافيم في أرزماس لتتعلما التطريز وغيره من الحرف اليدوية. وعند عودتهما إلى أوفا تقاسمتا معرفتهما مع الأخوات الباقيات وسريعاً ما حققت الجماعة سمعة حسنة لجودة أعمالها العالية.
لم يمضِ وقت طويل حتى زاد عدد الأخوات عن قدرة المكان على الاستيعاب. وفي الوقت نفسه أحسّ الأسقف أنه صار ممكناً الاعتراف بالجماعة كدير. عندما قُدِّم الأمر إلى المجمع المقدس للموافقة، اقتضت القوانين كمية كبيرة من المال كاحتياطي للدير، وبالتالي بقيت الأخوات بدون مال لشراء الأرض. في ألمها، تحوّلت ستافنيدا إلى الشيخ فيلاريت الذي بادر إلى كتابة التوصيات. تمّ جمع المال لكن وكيل المجمع لم يعطِ الإذن بفتح دير. في سان بطرسبرغ، الأرشمندريت بالاديوس حثّ ستافنيدا على الصلاة أمام رفات القديس ألكسندر نفسكي قائلاً: “قديسنا كان محارباً وبصلواته سوف تحصلين قريباً على ما هو ضروري”.
لم تكن الشمس قد طلعت في اليوم التالي حين دعا وكيل المجمع استيفانيدا. في تلك الليلة كان القديس ألكسندر قد ظهر له في الحلم وسأله بقوة عن سبب عدم رغبته بفتح الدير في أوفا. فوراً وعد الوكيل بالاهتمام بكل شيء، وهذا ما قام به. في عودتها من العاصمة الشمالية توقفت ستافنيدا في غلنسك لتسأل الشيخ فيلاريت عن القديس أو العيد الذي تكرّس له الدير فنصحها أن تنتظر إلى أن تتسلّم الأوراق من المجمع رسمياً والتي فيها الإذن، ومن ثمّ تسمّيه على أول عيد لوالدة الإله يقع بعد هذا التاريخ. كما أعطاها قانوناً للدير. وبحسب توجيهه، كرّس الدير لعيد البشارة. في السنة نفسها،1838، سيمَت ستافنيدا بإسم فيلاريتا وبعد فترة قصيرة عُيّنت رئيسة للدير.
تحت رعايتها القادرة والكثيرة الحكمة، بدأ الدير بالازدهار سريعاً، داخلياً أي في حياة الراهبات الروحية، وخارجياً أي في الأبنية والكنيسة والأملاك فصار عنده معمل الشمع ومطحنة. اعترفت السلطات الكنسية بمستوى الراهبات العالي اللواتي عيّن عدداً منهن رئيسات لأديار أخرى.
كانت الأم فيلاريتا مثالاً للجميع في حياتها النسكية كما في محبتها واهتمامها الظاهرَين للراهبات. أصبح دير أوفا منارة لامعة تسرّب نورها إلى برية سيبيريا البعيدة حيث تأسست أديار أخرى آخذة نفس قانون الشيخ فيلاريت. هذا العمل المرضي لله أغضب عدو خلاصنا الذي لا ينام فأثار عاصفة من الأكاذيب والافتراء على الأم فيلاريتا. ووصل الأمر إلى طردها من موقعها كرئيسة دير ومعاقبة عدد من الراهبات التي وقفن إلى جانبها. لكنها لم تعترض وحملت صليب الاضطهاد بصبر متعزية في الصلاة أمام أيقونة المصلوب. والرب لم يتركها أيضاً بلا عزاء، فقد سمعت مرة صوتاً آتياً من الصليب: “انظري إليّ: لقد سُمّرتُ على الصليب عرياناً، لكنكِ لابسة وحرة”. بعد أربعة أشهر استدعيت الأم فيلاريتا إلى سان بطرسبرغ حيث أثبتت أنها بريئة وأنها ضحية الافتراء. فتم تعيينها رئيسة لدير في بيلتافا حيث قضت السنوات العشر التالية. تحت إدارتها القادرة راح هذا الدير أيضاً يزدهر وهذا ما أثار غضب الشرير من جديد. اتُهمت الأم فيلاريتا باختلاس الأموال ومع أنها بُرئت لكنه صار صعباً عليها أن تبقى هناك.
لقد سمح الله بأن تشرب أمَتُه المخلِصة كأس العذاب المرّ وذلك من محبته لها فتطهرت من الأهواء والضعفات الكثيرة المشتركة بين البشر. كل تلك الصعوبات ساعدتها على بلوغ النضج روحياً حتى أنها عندما عادت إلى ديرها المحبوب في أوفا كانت شيخة للراهبات اللواتي أحببنها واحترمنها جداً. استمر الشرير بإزعاجها مثل السابق لكن الأم فيلاريتا غلبته بالتواضع وكانت دائماً تردد “جيد أن الرب وضعني”.
عند اقترابها من نهاية حجّها الأرضي، أُعطي لها أن ترى في حلمها والدة الإله الفائقة القداسة التي وعدتها بألاّ تتركها. عرفت الأم فيلاريتا بشكل مسبق يوم موتها وهيأت نفسها بتقبل القرابين ومسحة الزيت. في سلام مع الجميع، ودّعت كل الراهبات الوداع الأخير قبل أن يأخذها الرب إليه في الثاني من أذار 1890 عن عمر ثلاث وثمانين سنة.
وهكذا انتهت حياة الشيخة البارة فيلاريتا، تلميذة القديس سارافيم العظيم والشيخ القديس فيلاريت الذي في غلنسك. بصلواتها فليرحمنا الرب نحن الخطأة. أمين.