إبراهيم خليل الله

يبدأ تاريخ التدبير الإلهي في العهد القديم مع شخصية عظيمة هي ابراهيم، الذي اسمه يعني “أبا الكثرة”. وفي العهد الجديد قُرئت حياة ابراهيم وأعماله وكأنها صورة مسبقة لأهم الأحداث الخلاصية التي أتمّها السيد المسيح.

ابراهيم هو اول من تلقى عهد الله بأنه سيخلّص كل أمم الأرض وعشائرها، وذلك حين دعاه الله الى اتّباعه: “انطلِقْ من أرضك وعشيرتك وبيت ابيك، الى الأرض التي أُريك، وانا أجعلك أُمّة كبيرة وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك، وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تكوين 21 :1-3). وقد لبّى ابراهيم دعوة إلهه من دون تردّد. هذا العهد-الوعد الذي قاله الله لابراهيم تحقّق بيسوع المسيح، الذي به فعلاً تباركت وتتبارك كل أمم الأرض. ولهذا قالت مريم عندما كانت تنتظر ولادة ابنها: “فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال… كما كلّم آباءنا لابراهيم ونسله الى الأبد” (لوقا 1: 48-55). ولهذا قال ايضا زكريا ابو يوحنا المعمدان: “ليصنع رحمة الى آبائنا ويَذْكر عهده المقّدس، القَسَم الذي حلف لابراهيم أبينا أن يُنعم علينا” (لوقا 1: 72-73). كل العهد الجديد يشهد لهذه الحقيقة القائلة بأن عهد الله مع ابراهيم قد تمّ بيسوع المسيح. والجدير ذكْره أن المقصود ب “نسل ابراهيم” الذي يقيم الله عهده معه “ويتبارك في نسلك جميع أمم الارض” (تكوين 22: 18 وفي مواضع اخرى) ليس سوى يسوع المسيح، ذلك أن الرسول يقول: “وقد قيلت المواعد لابراهيم ولنسله. ولا يقول وللأنسال يعني كثيرين، بل ولنسلك يعني واحدا وهو المسيح” (غلاطية 3: 16).

ايمان ابراهيم هو بامتياز الايمان المثال للذين يَخْلُصون بالمسيح. العهد الجديد يشدّد على أهمية الايمان في نوال الخلاص ويقدّم لنا ابراهيم نموذجا لهذا الايمان: “آمن ابراهيم بالله فحُسب له ذلك برّا” (رومية 4: 3). ولكن يعقوب الرسول يرينا صورة اخرى لابراهيم تكمّل الصورة الاولى وهي تزاوج الايمان والأعمال: “ألم يُبرَّر بالأعمال ابراهيم أبونا اذ أصعد اسحق ابنه على المذبح؟ فترى أن الإيمان عمل مع أعماله، وبالأعمال صار الإيمان كاملا، وتمّت الكتابة القائلة آمن ابراهيم بالله فحُسب له ذلك بِرّا ودعي خليل الله” (يعقوب 2: 21-23). أطاع ابراهيم أمر الله له بأن يقدّم ابنه اسحق ذبيحة، ولكن الله في اللحظة الأخيرة افتدى الفتى بكبش، قائلا لابراهيم: “انك متّقٍ لله فلم تذخر ابنك وحيدك عني” (تكوين 22: 21). ذبيحة ابراهيم ليست مجرد تعبير عن إيمانه، بل هي ايضا آية تدلّ على ما كان مزمعا أن يقوم به الله وحده من دون البشر، وهو تقديم ابنه الوحيد ذبيحة من اجل حياة العالم. فلم يرسل الله كبشا من السماء يفتدي به ابنه الذي صلب، بل بذله “لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا 4: 17).

المسيح هو الكاهن الوحيد على رتبة ملكيصادق، وملكيصادق هو كاهن الله العليّ الذي بارك ابراهيم، وقد أدى له ابراهيم العشر من كل شيء. وهو “ليس له أب ولا أم ولا نسب، وليس لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله… ويبقى كاهنا ابد الدهور” (عبرانيين 7: 1-3). اللافت أن كهنوت ملكيصادق سبق زمنيا كهنوت اللاويين، أما تقدمته فكانت مؤلفة من الخبز والخمر: “وأخرج ملكيصادق ملك شليم خبزا وخمرا لأنه كان كاهنا لله العلي” (تكوين 14: 18).

لقد كشف الله نفسه في العهد الجديد الها واحدا في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. ثمة حادثة مهمة في حياة ابراهيم، يظهر فيها ثلاثة رجال سجد أمامهم ابراهيم وتحدّث معهم بصيغة المفرد كأنه يتكلّم مع رجل فرد وتوجّه اليهم بالقول: “يا سيدي”، كما استضافهم الى مائدته (تكوين 18: 1-5). وقد بشّره هؤلاء الثلاثة بأنه سينجب ابنا من سارة امرأته الطاعنة في السن. لقد رأت الكنيسة في هذا الظهور صورة للثالوث الاقدس. وبما انه لا يجوز تصوير الآب والروح القدس، عمد رسّامو الايقونات، ومنهم القديس أَندره روبلوف، الى رسم ايقونة ترمز الى الثالوث، وهي في الحقيقة تستوحي ضيافة ابراهيم.

نجد اذا في حياة ابراهيم صورا مسبقة تمهد للإعلان الأسمى الذي تم بالرب يسوع، من الذبيحة الى الخلاص بالإيمان والأعمال مرورا بكهنوت ملكيصادق وانتهاء بالإشارة الى الثالوث الاقدس. كان ابراهيم وحده مدعوا خليل الله، او بتعبير آخر حبيب الله. بدم يسوع المسيح أصبحنا كلنا أَخلاّء الله وأحباءه الجالسين الى مائدته المعَدَّة لحياة أبدية.

نشرة رعيتي
الأحـد 22 شبـاط 1998
العدد 8

arArabic
انتقل إلى أعلى