رسالة المعمدان

يُعتبر يوحنا المعمدان -وهو “النبي الكريم السابق المجيد”، كما تسمّيه طقوسُنا- حلقةَ الوصل بين العهد القديم والعهد الجديد. عرّف نفسه ورسالته بقوله: انا “صوتُ صارخٍ في البرية: أَعدّوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة” (مرقس 1: 3)، فما هي رسالتُه؟

لا شك بادئ بدء أن الانجيليين ربطوا إعلان يسوع لرسالته الخلاصيّة بمجيء رسول (ملاك) يسبقه ليهيّئ له الطريق. المنطق الذي تبعه مرقس -وهو اول الانجيليين- انه جعل الحديث عن يوحنا يأتي بعد شواهد كتابية من العهد القديم وضعها في رأس مقدمة إنجيله، وقد جاراه الانجيليّون كل واحد وفق ترتيبه، فأبرزوا جميعهم أن بداية البشرى السارة قد حدّدها الانبياء، وأن التهيئة التي تكلم الانبياء عنها انطبقت كليا على يوحنا كارز التوبة تمهيدا لاستقبالِ “الآتي” وقبولِ ذاك الذي لا يدنى منه.

ركّز يوحنا في كرازته على التوبة الداخلية وقد رافق نداءَهُ غسلٌ ارتبط بالتوبة عينها، غير أن التوبة التي نادى بها يوحنا اختلفت في جوهرها عن مفهوم التوبة الذي قال به يهود عصره. كان اليهود يعتبرون أن التوبة حالةٌ تمهّد لمجيء الملكوت (وهذا يعني عندهم أن ملكوت الله يظهر اذا سبقه ارتداد الناس عن فعل الشر وتحوّلهم الى الله)، خالف السابق هذا المفهوم اذ أعلن أن الملكوت لا بدّ آتٍ، سواء تحوّل الناس الى الله ام لم يفعلوا، ولكن الدخول اليه غير ممكن من دون توبة. وفي حين ظنوا (اي اليهود) أن التوبة طقسية (تطهير، غسل، صوم وصلاة) كشف هو انها توبة الحياة (راجع: لوقا 3: 10-14؛ قارن مع ارميا 7: 21-23؛ هوشع 6: 6…). ولعل ما يوضح هذا الأمر ويميّز تاليا يوحنا عمّن قبلهُ من الجماعات التي عرفت الغسل وربطته بالتطهُّر (الفريسيين، جماعة الأسانيّين…) هو أن المعمدان نادى بغسلٍ واحدٍ لا يتكرر رمزا للتوبة الواحدة التي تطلب بإلحاحٍ تجديد الحياة. ولا شكّ أن المعمودية التي نادى بها كانت بدورها تختلف عن معمودية الدخلاء الطقسية التي عرفها العالم اليهودي، والتي تهدف الى تنقية الدخلاء من نجاسة الأمم. تجاوز يوحنا هذا الأفق الضيّق، فَلِمعموديته صلةٌ بملكوت الله، لانها تتخذ معنى التنشئة والاستعداد الواجبين لاستقبال المسيح. لقد استطاع سابقُ المسيح أن يجذب اليه “جميع كورة اليهودية واهل اورشليم” ليعتمدوا “منه في نهر الاردن معترفين بخطاياهم” (مرقس 1: 5)، وهذا تصوير رائع لنجاح كرازته، فالإنجيل وَضَعَ في دائرةٍ واحدةٍ الناس جميعا بانتظار المسيح الذي لا يتبرّر احدٌ أمامه متى ظهر.

يعتبر اليهودُ انفسَهم ورثة الملكوت لأنهم شعب الله وأبناء ابراهيم، وذلك لما لإبراهيم من مكانة خاصة عند الله، ويعتقدون بأن الله سوف يَقْبَل جميع الذين خرجوا من صلبه. أثار يوحنا ضدّ هذا المعتقد خلافا آخر، ولعله الاكثر حدّة من غيره، فكشف أن وراثة الملكوت لا تتوقف عند التناسل الطبيعي، وأن الله سوف يهب ملكوته لمن يشاء، اذ قال علانية لليهود: “لا تفتكروا أن تقولوا في انفسكم لنا ابراهيم أبا. لاني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم” (متى 3: 9). وخالفهم ايضا في تصوير مجيء يوم الرب، ففي حين اعتبره اليهود يوم فرح وانتصار على جميع الأمم، قال إنه يوم “غضب” لا بد أن يطال جميع الذين لم تثمر توبتهم، وذلك لأن معمودية “الاقوى” (اي المسيح الآتي) التي هي “بالروح القدس والنار” سوف تدشّن ملكوت الله وتحدّد مصير الخطأة خارجه.

تميّز يوحنا بأمانته على كلمة الله وبمحبّته للحق، ولقد ظهرت هذه الأمانة جليا بخاصة في تعليمه تلاميذه الالتزام بالبر الذي تفرضه الشريعة (راجع متى 9: 14، لوقا 11: 1)، وبانت محبته للحقيقة بشكل أبلغ في استشهاده. ولعلّ أوضح مشابهة بين ما قاله يوحنا وبين العهد القديم هي الأخلاق التي نادى بها (راجع ما حفظه إنجيل لوقا 3: 10-14). هذه الأخلاق، وإن بدت سهلة بالنسبة الى عظة الجبل (متى 5 ،6، 7)، غير انها سوف تحافظ على قيمتها حتى في العالم المسيحي وتكون مثلا لكل كرازة وتحريض على التقوى والمحبة.

قد يكون يوحنا، أُسوة بيهود عصره، اعتقد بمسيا “سياسيّ” تظهر قوته لا في كسر الشر وإنما بإخضاع الاشرار وإدانتهم ايضا. السؤال الذي حمله المعمدان لتلميذين له وهو “في السجن”، والذي نستنتج منه اعتقاده هذا، نقرأه في انجيل متى (11: 3)، اذ يقول: “أنت هو الآتي ام ننتظر آخر؟” (راجع ايضا لوقا 7: 19). غير أن جواب يسوع للرسولين يتضمن برهانا، له جذوره في كتب الانبياء: “اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يعثر فيّ” (متى 11: 4-6؛ قارن مع اشعيا 29: 18، 35: 4-6، 61 :1). يكشف يسوع في جوابه هذا أن مسيحانيته لا تُعلَن بالقوة التي تدين الأشرار ويَخضع بها العالم -وهي قوةُ يوم الدينونة الاخير الذي أشار اليه يوحنا المعمدان في رسالته- وإنما هي قوة خلاص.

هذا “السراج المُوُقد المُنير” و”النبي” الذي “لم يقم بين المولودين من النساء أعظم منه”، كما شهد له الرب، يقف في دائرة العهد القديم كقمة له، ولكنه لن يتخطاه الى العهد الجديد (متى 11: 11)، فهو “صديق العريس” الذي يستولي عليه الفرح لهتاف العروس، ويتوارى عندما تسمع العروسُ صوت العريس (يوحنا 3: 27-30). ولعلّ صفة “صديق العريس”، التي أطلقها يوحنا على نفسه بارتباطه بيسوع-العريس، تدلنا بشكل افضل على عظمته وتحدد رسالته باكثر وضوح، ذلك أن المعمدان لم تقتصر رسالته على الاعلان عن مجيء الآتي وإعداد الطريق له، ولكنه حمل اليه العروس (اي مؤمني العهد الجديد)، كصديق العريس، وسلّمه اياها بعد أن دعاها الى الارتباط به.

من آمن بأن المسيح هو “الآتي” يستطيع أن يفهم ويعترف ليوحنا المعمدان بالمكانة التي تعود اليه في تدبير الخلاص.

نشرة رعيتي
الأحد في 12 كانون الثاني 1997
العدد 2

arArabic
انتقل إلى أعلى