كهنوتنا الملوكي

وأما أنتم فجنسٌ مختار وكهنوت ملوكي أمّة مقدسّة
1بطرس 2: 9

لعلّ من أكثر المواضيع حساسية وأهمية أيضاً، هو موضوع مشاركة العلمانيين في حياة الكنيسة. وتصل المشكلة في هذا الموضوع أحياناً إلى حدود غير مقبولة، والسبب في ذلك غياب الرؤية الكنسية الحقيقية حول ذلك. فيبدو مرات أن هناك شبه صراع بين الإكليروس والعلمانيين في “إدارة شؤون الكنيسة”!

ولعل الخطأ يبدأ من الأساس اللاهوتي، الذي يفصل بين الكهنوت الملوكي (العام) وكهنوت الإكليروس (الخاص). إذ نعتبر أن العلمانيين يملكون الكهنوت الملوكي بينما الإكليروس يمتلك “سرّ الكهنوت”- الخاص. وقد يبدو غريباً للبعض أن يتكلم إكليريكي عن كهنوته الملوكي لأنه من الكهنوت الخاص!

إن من أهم الممارسات الطقسية في حياة الكنيسة الأرثوذكسية، والذي يغيب في الكنائس الأخرى، هو دمج الأسرار الأساسية الثلاثة زمنياً، أي إتمام الأسرار الثلاثة (المعمودية، الشكر، الميرون) في وقت واحد مباشرة مع طقس المعمودية. وتوصّلُ الكنيسة الأرثوذكسية إلى هذه الخبرة لم يكن لأسباب اجتماعية، إنما نتيجة لاهوت وفهم خاص لدور المسيحي ولغاية حياته. ولعلّ في هذه الممارسة يكمن الجواب على السؤال حول دور كل من “العلماني والإكليروس” في الكنيسة.

لا شك أن للعلماني دوراً في حياة الكنيسة، وأن للإكليروس دوراً أيضاً، لكن ما هو الفارق؟ وهل هناك من تمييز؟ وما هي الممارسة الأرثوذكسية الحقيقية التي لا ترى في الدورَين من تناقض وصراع، وإنما ترى ضرورة إحياء دور كل مسيحي معمّد ككاهن للعليّ؟ هل هناك تقاسم على الأدوار، أم هناك تناغم، وتكامل؟ وتراتبية؟ وهل الحلول المطروحة هي مسألة “إدارية” أم أنها ذات بعد عميق كنسي (إكليزيولوجي)؟ هذه وغيرها، أسئلة عديدة تستحق منّا التأمل بمفهوم الأسرار الإلهية التي تكوّن حياتنا وتعطينا موقعنا في الكنيسة، وبالتالي تحدّد دور كل منا.

إن سرّ المعمودية هو الحدث الذي يضمّنا بنعمة الروح القدس إلى جسد المسيح- الكنيسة. ولقد رأت الكنيسة أن تغذّي أعضاءها بدم السيد وجسده الكريمَين منذ لحظة دخولهم إل هذا الجسد، لأنه بهذا الغذاء “نحيا ونتحرك ونوجد”. ولسنا هنا بصدد مناقشة ضرورة البدء بالمناولة من يوم المعمودية، وإنما تتطلب خصوصية موضوعنا التوقف عند ممارسة الكنيسة الأرثوذكسية الفريدة في منح سرّ مسحة الميرون المقدس مباشرة مع المعمودية.

إن بطرس الرسول يكرر عبارةً من سفر الخروج: “تكونون لي مملكة “كهنة” وأمّة مقدسة” (19، 6). ورغم ذلك كان الكهنوت في العهد القديم عملاً وقفاً على سبط لاوي (تثنية 10، 8). ولم يصر هذا الكهنوت عامّاً إلا في زمن العهد الجديد. هكذا جميع المؤمنين يصيرون الآن بعد متقدّمهم (يسوع) كهنةً للعليّ. “وهو (يسوع) مرساةٌ للنفس مؤتمنةٌ وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كـ “سابق” لأجلنا صائراً على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد” (عبرانين 6، 19). لهذا يعمّم بطرسُ هذا الكهنوت على جميع المؤمنين: “أنتم” كهنوت ملوكي أمّة مقدسة” (1 بطرس 2، 5-9). هكذا بحسب بطرس وبولس يشترك كلّ المؤمنين في المذبح مع يسوع رئيس الكهنة الأعظم على رتبة ملكي صادق.

كان سرّ المسحة في العهد القديم محصوراً بالملوك والكهنة والأنبياء من بين جميع الشعب! لكن العهد الجديد وممارسة كنيستنا الأرثوذكسية جعلا من جمع سرّ المعمودية والشكر والميرون معاً دليلاً على أن كل معتمد صار على الفور (أو مفروزاً ليصير) كاهناً وملكاً ونبياً. ولم تعدْ هذه المواهب فرداتٍ لبعض الأفراد من الشعب، ويوحنا الحبيب يفرز غير المؤمنين عن المؤمنين قائلاً “ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا” وذلك بناء على سرّ المسحة “أما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء” (1 يوحنا 2، 20). وهنا تشير “أنتم” إلى كل المؤمنين وليس إلى الرسل والكهنة حصراً. لقد صار “شعب الله” في العهد الجديد كله كهنة وملوكاً وأنبياء؛ يشاركون يسوع في كهنوتهم الملوكي.

إن سرّ مسحة الميرون المقدس هو سرّ تكريس “المعتمد” إلى “كاهن” في رتبة الكهنوت الملوكي، وسرّ يهب المعتمد حقاً “ملوكياً” وموهبة “نبوءة”، ولكن بالوقت ذاته، يجلب هذا التكريس معه كل المسؤولية التي تلحقه. ومن “مسحاء الربّ” أي شعب الله يخرج البعض إلى “خدمة” مخصّصة في الكنيسة تعتني بالتعليم والطقوس، فيصيرون “كهنة” بالمعنى الخاص والطقسي للكلمة. فما يميز الكاهن عن المؤمن هو نوع الخدمة وليس فرقاً أنطولوجياً. لهذا على سبيل المثال، إذا ما ترك أحد الكهنة الأرثوذكس الكهنوت لسبب ما، فهو عندها يفقد هذه “الخدمة” وبالتالي يفقد مباشرة الموهبة والنعمة، ولهذا فهو لا يحمل بعد “كهنوتاً”، ويمكنه أن يتزوّج، بينما إذا ترك أحد كهنة اللاتين هذه الخدمة، فإنه بالنسبة لهم يحافظ على هذه الصفة الكهنوتية (أنطولوجياً) ويعتبر كاهناً متوقّفاً عن الخدمة، ولا يحقّ له أيضاً الزواج! فالكهنوت لدينا هو موهبة بمعنى الخدمة.

لا تشكل المواهب الثلاثة -“ملكاً، كاهناً، نبيّاً”- كلمات شعرية جميلة ولغة ليتورجية مبهمة، لكنها تعبّر تماماً عن طبيعة وواجبات وحقوق كل معتمد ومؤمن في الكنيسة. إنها الكلمات الوحيدة التي تجيب على الأسئلة العديدة حول دور الاكليروس ودور العلمانيين في الخدمة. علماً أن لاهوتنا الأرثوذكسي لا يستخدم هذه الكلمات (علماني، اكليروس). هناك الكهنة وهناك “شعب الله” المؤمن، وهذا الشعب يحمل نعمة ومسؤولية الملك والكاهن والنبي. “اذهبوا وبشروا الأمم” هي عبارة من يسوع موجَّهة لكل الشعب. ولكن “من غفرتم خطاياهم تغفر لهم…” موجهة للرسل ومن شرطنوهم بوضع الأيدي. كل معمّد نال مسحة الروح صار رسولاً بمعنى “المرسَل”. إنه إنسان بشاري بطريقته الخاصة، وهذه البشارة هي غاية حياته وهي شهادته في العالم الذي يعمل ويعيش فيه، وهذا العالم المبُشَّر منه هو القربان الذي يرفعه لله “ذبيحةَ التسبيح” ككاهن في كل قداس إلهي.

“كما كانت المسحة تُعطى للأنبياء لتجعلهم ملوكاً أنبياء، هكذا يُمسح الآن المسيحيون بالمسحة الإلهية ليصيروا ملوكاً وأنبياء وخَدَمَة أسرار سماوية”، يقول القديس مكاريوس ومعه أيضاً الحارث أسقف قيصرية. هكذا إذن يعطي سرّ المسحة ثلاثة مواهب، الملَكَية والكهنوتية والنبوية.

الموهبة الملكية

يعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم أن “صورة الله” في الإنسان هي “ملوكيته”. فكما أن الله هو ملك السماء والأرض والمنظورات وغير المنظورات، كذلك الإنسان هو على صورته ملك الأرضيات وكل المنظورات. ويعتمد على كلمات الكتاب المقدس، أنه بعد أن يقول “لنصنعنّ الإنسان على صورتنا ومثالنا” يتابع “فيتسلط على طير السماء وسمك البحار…”. وهو يعتبر هذه السلطة الملكية سلطة له على العالم المادي وعلى عالمه الروحي أيضاً. إنها سلطة على الخليقة من جهة وعلى الذات (الرغبات والأهواء) من جهة أخرى. لهذا يرد في “تقدمة القداس” الإنطاكي القديم عبارة “البهاء الملوكي”. وهذا البهاء يعني السلطة على المادة والرغبات، أي التحرر من عبودية العالم والعالميات. فالعالم كله في خدمة حياة الإنسان الروحية، والرغبات البشرية كلها موجهة في سبيل إرواء العطش الإنساني الحقيقي والروحي. إنها ملوكية غلبة الروح على المادّة، عكس عبودية الإنسان للمادّيات. يسوع ملكٌ “لأن الشيطان يأتي ولا يجد سلطان له عليه”. إنها السلطة الملكية التي تأتي من حرية أبناء الله، أي من طهارة الحياة. للإنسان سلطة ملكية بقدر ما يستطيع أن يسود على العالم الذي حوله والذي داخله. وكذلك يقول القديس غريغوريوس النصيصي: “تظهر ملوكية النفس بمقدار تحرر رغباتها من العالم، لأن الحرية هي صفة السادة الملوك”. إن الإنسان هو “ملك” العالم وسيده، خُلق ليسود فيه ويتملّك عليه ويجعله مملكةً لله. عندما يتعلق الإنسان بالعالم يسود العالم عليه، ولكن عندما يقود العالمُ إلى غايته يصير ملِكاً فيه، هكذا عندما يتحرر من غوايته يملك عليه، وإذا ما انخدع به يؤول إلى عبدٍ فيه. الإنسان الروحاني يتحرّر من العالميات وبحرية خياره يسير بالعالم كسيّد له إلى الغاية الأخيرة ليجعله ملكوتاً لله. وهذه السلطة الملكية (الحرية والسيادة) وحدها تؤهل الإنسان لأن يعود بالعالم الذي وهبه إياه الله إلى واهبه الله، في تسبحة شكر، لذلك فإن ملوكية الإنسان تؤّهله إلى كهنوته.

الموهبة الكهنوتية

يرى الكهنوت الملوكي في “كل شيء” من الدنيا “شيئاً لله”. لذلك إن سرّ جمال هذا الكهنوت أنه يعتبر كل شيء يحمل إمكانية “علاقة” وليس هو مجرّد مادة عمياء! والكهنوت الذي للإنسان هو كهنوت المحبة. لا شيء في العالم مستقل بحد ذاته، وقيمته لا تكمن في مقداره وفائدته وحسب. إن معيار قيمة أي شيء في الدنيا هو المحبة التي يمكننا أن نوجدها بيننا وبينه. كل أمر في الدنيا وكل شيء فيها موجود لكي نقيم بيننا وبينه “علاقة محبة”، هذا في إطار مواد العالم، فكم بالحري في الخليقة العقلانية والحرة التي فيه، الإنسان! هذا هو سرّ الكهنوت الذي بدأ من عند الله أنه أحبنا ونحن بعد غير مستحقين وخطأة، “لم نحبه نحن لكنه هو أحبنا أولاً”. كل شيء في الدنيا ليس موضوعَ استخدام واستهلاك، بل بالأولى فرصة محبة. ومحبة كهنوتية كهذه تجعل لكل شيء وجوداً كريماً وتعطي لهذا الوجود معنى حقيقياً. لهذا يطلق الإنسان على الأشياء أسماءً لها، ليعبّر عن علاقته بها. الإنسان على صورة الله، لذلك هو الكائن الذي يدخل في شركة- علاقة مع كل شيء ومع كل كائن حوله. وتأخذ هذه العلاقة بين الإنسان وكل شيء حوله شكلها الأسمى حين تصير تعبيراً عن شكر الإنسان لله. لهذا إن عبارة التقدمة في القداس الإلهي تلخّص كل معنى الحياة البشرية وتصوّر كامل حقيقة العلاقة الإنسانية بالعالم: “كل هذا لك وهو مما لك، ونقدمه لك شكراً على كل شيء ومن جهة كل شيء”. ليس الإنسان كائناً حرّاً وحسب، وعقلانياً مفكراً أيضاً، إنه بالتعريف الانثروبولوجي المسيحي هو كائن ليتورجي. أي يُحيي الشكر من كل شيء ومن جهة كل شيء في العالم.

المؤمن هو كاهن يقدم أولاً ذاته، وبحسب قول بولس الرسول (رومية 12، 1-2): “فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدّموا أجسادكم ذبيحة حية مقدّسة مرضية لله عبادتكم العقلية…”، هذا ما يقدمه كل مؤمن في القداس الإلهي. بحسب “الرسالة إلى الذين في طرسوس”: “إن الرهبان حين يقدمون بتوليتهم تقدمة (ذبيحة لله) يقومون بعمل كهنوتي”. ويورد Minucius Felix (القرن الثاني): “إن كل من ينقذ نفساً من خطر يكهن لله. وهاكم العبادة الحقيقية عند الله: تقدمة الطهارة وبذل المحبة وحب الحقيقة” وبحسب أوريجنّس: “إن كل من نال مسحة الميرون صار كاهناً ويقدم ذبيحته المحرقة داخله مُشعلاً بيده نار المذبح… فإذا ما أنكرنا ما لنا، وحملنا صليبنا لنتبع المسيح، عندها نقدم ذبيحة كاملة محرقة. وإذا ما بذلتُ جسدي… وأحببت الأخوة لحدِّ بذل ذاتي من أجلهم، وإذا ما جاهدت من أجل الحقيقة والعدالة حتى الموت… وإذا ما مات العالم لي ومتُّ أنا للعالم، حينها أقدم الذبيحة الحقيقية على المذبح الإلهي وأصير كاهناً للعليّ”.
إن “التقديس” الذي يذكره بولس الرسول، و”تطهير الذات” الذي يشير إليه دائماً الأدب النسكي يعني تقديم الإنسان لذاته ذبيحة، فيصير هكذا كاهناً. يسمي الذهبي الفم أمُّ المكابيين السبعة “كاهنة” شرطنتْها تقدمتُها لأولادها السبعة كذبيحة محرقة الواحد بعد الآخر. إن قوانين هيبوليتس (القرن الثالث والرابع) تسمح للمعترفين والشهداء بإتمام الأسرار الإلهية كالكهنة (كهنوت خاص) وذلك بشكل استثنائي. ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “لا يستحق أحدٌ الذبيحة والذابح ورئيس الكهنة الأعظم إلا من قدّم ذاته قبلاً لله ذبيحة حيّة”.

يشبّه القديس  يوحنا الدمشقي السيف الذي يجوز داخل العذراء (لوقا 2، 35) بما يورده سفر نشيد الأنشاد “دهناً مهراقاً” (1، 3). القداس الإلهي، الذي يتم فيه العمل الكهنوتي بشكله المطلق، ليس عملَ مجموعة من الكهنة (الاكليروس) بل هو عمل الشعب (Λειτουργία)، يقدم فيه كل المؤمنون عالمهم لله تقدمةً وذبيحة شكر، رحمة سلام. إن تحويل العالم إلى ملكوت هو مهمة كهنوتية، كهنتها كلّ المؤمنون. والإنسان هو “كائن شكري” أي كاهن يأخذ العالم كله ليعيده إلى الله تقدمة وذبيحة.

الموهبة النبوية

ليس النبي هو الساحر والمبصّر والعرّاف. النبي هو من يقرأ في حوادث التاريخ العادية ومجرى الحياة اليومية “إرادة الله” فيها. إنه الذي يميّز ويكتشف مشيئة الله ويذيعها. وبهذا يقترب التعريف السابق من معنى كلمة “لاهوتي”. لذلك يقول إيكومينيوس: “نحن ملوك لأننا نسود على أهوائنا، وكهنة لأننا نقرّب ذواتنا، وأنبياء لأننا نعلّم الحقائق الكبرى”. النبي بحسب تعريف ثيوفيلكتوس هو “من يرى ما لم تره عين ويسمع ما لم تسمع به إذن”. ما يختلف به النبي عن الإنسان العادي، هو أنه يتكلم ليس من عنده على عكس الأنبياء والمعلمين الكذبة الذين ينطقون من “عنديّاتهم”. “هذا ما يقوله الربّ”، بهذه العبارة ابتدأ العديد من الأنبياء تعاليمهم. النبي هو رسول وصوت الملكوت في العالم الذي ينسى الله. لذلك فهو اسختولوجي ومسياني وتجديديّ في العالم الدهري ومملكة قيصر. النبي هو الداعي لتبديل وجه العالم ولحضور الملكوت. يجلب النبي إلى العالم ما هو ليس منه بل من الله. ويفقد النبي موهبته هذه حين يحافظ على الإيمان لكن لحدّ لا يبخل فيه عن بعض التنازلات. المؤمن العادي والنبي يختلفان بأن الأول يقبل بـ “بازار” على النعمة فيبيع الحق بالتنازلات أمام متطلبات العالم وتياراته، بينما النبي يعرف “أن الملكوت يُغتصب اغتصاباً” ويؤمن أن يسوع “غلب العالم” وهو من أتباعه. النبي هو مَن ترجح عنده كفّة الحق ولكن دوماً وليس ظرفياً. إنه صديق العريس لا يفرح إلا بزفاف العريس وهو ينقص ليزيد السيد. النبي هو مَن فرز حياته ليصير ملاكاً يمهد الطريق أمام مجيء يسوع الثاني، إنه السابق الذي يحيا من أجل مجيء الآتي. إنه في العالم وليس من العالم، وليس هو أعظم من سيّده حتى لو أبغضه العالم.

هذه الرسالة النبوية تسلّمنا إياها الكنيسة في سرّ مسحة الميرون يوم المعمودية بالإضافة إلى موهبة الكهنوت العام والموهبة الملكية للإنسان.

ومن “شعب الله” يتطوع البعض في كهنوت خاص. وهذا الكهنوت الخاص يحمل موهبة ومِيزة معينة ليست إلاّ “الأبوّة”. وهذا تقليد يعود إلى القديس أغناطيوس الإنطاكي المتوشّح بالله. إن الوظائف والميزات الليتورجية في سرّ الكهنوت تريد أن تعبّر عن هذه الأبوة للشعب. وعلى حدّ ما ورد في “تعليم الرسل الأثني عشر”: “إن الأسقف هو بعد الله والدنا… لأنه يلدنا من الماء والروح مجدّداً إيانا وواهباً لنا التبنّي”. إن الكاهن المحروم يخسر هذا الدور ولهذا تماماً يخسر كهنوته. ولهذا كانت الكنيسة في قرونها الأولى تنتخب لهذا السرّ- سرّ الكهنوت والولادة بالروح رهبان ورجالاً أصحاب مواهب روحية عالية وعلى درجة من القداسة تسمح لهم بقيادة شعب الله وولادته وضمه إلى سرّ التبني الإلهي.

وعلى ذلك تواجد دائماً في الكنيسة رجال ونساء أهّلتهم مواهبهم “للأبوة” و “الأمومة” الروحية دون أن يحملوا رسالة خدمة الأسرار المقدسة، أي الكهنوت الخاص. وتبقى الأديار مثلاً حياً لذلك. هناك نجد العديد من الرهبان الآباء وبينهم العديد القليل جداً كهنةً، يتراوح عددهم ويتناسب مع الحاجات الليتورجية للدير. لذلك للراهب ليس درجة كهنوتية خاصة بل هو مثال للكهنوت العام الملوكي الحقيقي. ولهذا الكهنوت الملوكي لشعب الله وللرهبان والراهبات ذو أبعاد حياة روحية واحدة في جوهرها وغاياتها. وليس لدينا (الأرثوذكس) روحانيتان، روحانية للضعفاء والعلمانيين وروحانية للأقوياء الرهبان والكهنة، كما يجري في الغرب عموماً! إن متطلبات الحياة الروحية وبالتالي مواهبها مطلوبة وممنوحة للجميع (الكهنوت الملوكي) بالتساوي. والكهنة- الاكليروس هم بذلك متساوون في الدعوة، من حيث المبدأ!

الفرق الذي نلاحظه اليوم بين ما يُطلب من الكاهن ومن “العلماني” لم يكن حاصلاً في ذهن الآباء القديسين وفي تقليدنا المقدس. هذا التمييز بين “الاكليروس والعلمانيين” بدأ يظهر ليس في البرية وإنما في المدن، وخاصة في القرن الرابع بعد تنصير الإمبراطورية. حينها ظهرت طبقاتٌ من المسيحيين تريد أن تستعفي من “الطريق الضيقة المؤدية إلى الحياة” ومن كل متطلباتها ومثالياتها، وبذلك بدأت تخلق درجة جديدة من الخلقيات المسيحية المخلوطة بالتنازلات، مدّعية بذلك إنها درب الحياة العلمانية! لقد ميّعَ هؤلاء متطلبّات وصورة الكهنوت الملوكي العام، وأعادوا للكهنة- الاكليروس في كهنوتهم الخاص تلك “المثاليات” الروحية. وهكذا مع الوقت تنحّى الكثير من “شعب الله” عن عمق دعوته الكهنوتية الملوكية، بينما صار انتخاب الكهنة المشروط بتحقيق حقيقة الدعوة الكهنوتية (الملوكية أولاً) يجعل من صورة الكهنوت عموماً محصورة في الكهنة. وازداد عدد المؤمنين من شعب الله الذين يسلكون دنيوياً وليس كهنوتياً بحسب دعوتهم، وتضخمّت الحاجة إلى كهنة- اكليروس ينفرز إلى الرعاية والعناية “بالعلمانيين”! يتعلمن شعب الله بمقدار ما يبدو الكهنوت العام وكأنه محصور في الكهنوت الخاص (خطأً). ويبلغ هذا الخطأ حدوداً غير مقبولة حين يخصص القداسة أيضاً بالكهنة ولحدّ أبشع ينظر فيه إلى العلمانيين نظرة دونيّة وكأن القداسة ليست لهم ولا هي غايتهم.

الكاهن (الكهنوت الخاص)- الاكليريكي هو إنسان مختار ومصطفى من أصحاب المواهب الروحية من الكهنة الملوكيين، وذلك حين تنتدبه الكنيسة إلى خدمة ليتورجية وتعليمية خاصة، عبر سرّ الكهنوت المقدس. وإذا ما كان انتخاب الاكليروس محصوراً بين “المواهبيين” فهذا لا يعني العكس، أن المواهب الروحية محصورة في الاكليريكيين! إن أعضاء الكهنوت الخاص يجب أن يكونوا من خيرة أبناء الكهنوت العام، نعم لكن الخاص لا يلغي العام من حيث المواهب الروحية.

هناك عدة تفسيرات لكلمات بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: “وأما أنتم (جميع المؤمنين) فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً، ولقد وضع الله أناساً في الكنيسة أولاً رسلاً ثانياً أنبياءَ ثالثاً معلمين”(1 كور 12، 27-28) ثم “قوات وبعد ذلك مواهب الشفاء…”. يبدو من كلام بولس في ذلك الفصل أن رعية كورنثوس كانت تعاني من فوضى واضطرابات وخلل في التنظيم الكنسي، لهذا يرسل بولس لهم هذه الكلمات الواضحة: أولاً رسلاً وثانياً أنبياءَ وثالثاً معلمين. ودرج في عصور لاحقة التفسير أن هذه الدرجات تقابل تماماً درجة الرسل أولاً (تلاميذ المسيح) ومن ثمّ ثانياً درجة الأسقف (الأنبياء) وثالثاً الكهنة (معلمين). وبعدها تأتي درجة المواهبين من الشعب وهي درجات دنيا…! لكن الفهم الأرثوذكسي لهذه الآية مغاير تماماً لهذا الشرح. لأن معنى كلمة “أنبياء” عند بولس لا يشير إلى الأسقف. ودليل ذلك أنه يشير في كل النص وخاصة في (14، 29) إلى وجود أكثر من نبي في كورنثوس حين يقول “أما الأنبياء فليتكلّم اثنان وثلاثة وليحكم الآخرون…”. بينما كان العرف الكنسي وما زال يحدّد لكل رعية أسقفاً واحداً. إن إيراد هذا العدد من الأنبياء يفترض بديهياً أنهم لم يكونوا جميعاً أساقفةً وحتى كهنة.

إن كلمة “رسول” أو”نبيّ”، بلغة بولس الرسول، لم تكن تعني آنذاك درجات كهنوتية، بقدر ما كانت تشير إلى منْ ظهر لهم سرّ التدبير الإلهي. لذلك في رسالته إلى أهل أفسس يخبرهم عن “سرّ المسيح”، أي الكشف الإلهي وسرّ التدبير، الذي لم يُعلن سابقاً (في الأجيال) كما أعُلن اليوم “لرسله القديسين وأنبيائه بالروح” (3، 5). ومن ذلك ندرك أنه أولاً، “الرسول” هو من رأي يسوع في مجده، وذلك خلال السنوات الثلاثة من بشارته على الأرض ومن ظهوراته بعد قيامته، لذلك يسمّي بولس نفسه بجرأة رسولاً رغم أنه لم يكن مع يسوع في حياته الأرضية. وثانياً “النبي” هو من عاين الكشف الإلهي ويعاين الرب يسوع روحياً في مجده. “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد بحسب الجسد “بل بحسب المجد” (2 كور 5، 16). وهذه الموهبة النبوية (معرفة سرّ التدبير والإعلان به) هي للكهنوت الملوكي أيضاً وليست حصراً على الاكليروس ككهنوت خاص، رغم أن المنتخب إلى الكهنوت الخاص يجب ويفترض أن يكون من هؤلاء الأنبياء. أما ثالثاً، “المعلمون” فهم أعضاء هذا الجسد الذين لم يصلوا إلى رؤية يسوع في المجد ولكنهم قادرون على التعليم والمساهمة في البشارة.

المتروبوليت بولس يازجي
تحرير وتجميع عن رسالة مطرانية حلب
نقلاً عن الموقع القديم للمطرانية

arArabic
انتقل إلى أعلى