قراءة الكتاب المقدس

في حوار يسوع مع معلّم للشريعة في اسرائيل جاء ليجرّبه، نقف امام سؤال يطرحه يسوع على مُسائلِه بموضوع الحياة الأبدية: “ماذا كُتب، كيف تقرأ؟” (لوقا 10 :26). طبعا، السؤال هذا يفترض ان الذي يخاطبه يسوع هو يعرف الشريعة تلك المعرفة التي تأتي من المعاشرة اليومية والدرس، الا ان يسوع يريد من سؤاله ايضا ان القراءة اليومية لكلمة الله هي في نوعية القراءة، تلك التي يكشف الله فيها المعنى الحقيقي لهذه الكلمة ومتطلباتها في الحياة.

ليست كل قراءة في الكتاب المقدس هي قراءة شريفة. هذا ما انتبه اليه العلامة الافريقي ترتليانس (155-220) الذي يرفض رفضاً قاطعاً ان يقرأ الهراطقة (امثال “شهود يهوه” اليوم) الكتاب المقدّس او حتى أن يلمسوه. ذلك انه يعتبر بأن الهراطقة ليست لهم رسالة فيه. ويضيف أن احتكامهم اليه هو احتكام غير شرعي ويوصي بعدم البحث معهم في مواضيع إيمانية على أسس كتابية.

الكتاب المقدس هو كلمة الله الحيّ، والقراءة فيه يجب أن تكون موافقة “للحقيقة التي في يسوع” (أفسس 4: 21). ولكونه رسالة إلهية، تدعونا قراءته لمواجهة الإله الواحد كما يريد هو أن يعرّف عن نفسه. لعلّ أعظم خطيئة في العالم هي التعامل مع إله يقول بعض الناس او جُلّهم انه إلهنا ويقيمونه على قياسهم ولا يكون هو إله ابراهيم واسحق ويعقوب وبولس. القراءة في الكتاب المقدس تكسر الأصنام التي يصنعها الانسان لنفسه وتجعله يقف امام الإله الحقيقي ليأخذ الموقف: إن كان مع الله او ضده. وتتجدّد حياة الانسان واستقامتها على أساس قراره، ذلك أن مشروع الله خلاصي والكلمة الإله الذي صار بشراً هو يدعو الانسان كي يصير كلمة بمعنى انه يدعوه الى الألوهة.

ليس من وعي ديني ممكنا اذا أُهمل ما سلّمه الله “دفعة واحدة الى القدّيسين”، فالله ابو ربنا يسوع المسيح كلّم الناس، كما يقول كاتب الرسالة الى العرانيين، “الله بعدما كلّم الآباء قديما بالأنبياء مرات كثيرة بوجوه كثيرة، كلّمنا في آخر الأيام هذه بابنه…” (1 :1و2). ولكون الله تكلّم عبر التاريخ كله فهذا يفترض وجود اشخاص يسمعون الكلمة ويطيعونها. الا أن الفائدة الروحية يجتنبها من أحب الله حبا جما وتاب اليه، لأن الذي يحب الله تائبا هو وحده يتقن الإصغاء الى كلماته، اذ تهمّه وتصير بالنسبة اليه مقدَّسة، وحينئذ الكلمة هي إيّاها وجه من وجوه حضور صاحبها.

كل مسيحي هو تلميذ ليسوع، والتلميذ يدرس على معلّمه، واجتهاده يدل عليه حفظه للكلمات في القلب والفكر وترجمتها في الحياة. يقول الإنجيل المقدس عن مريم والدة الإله انها “كانت تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأمّلها في قلبها” (لوقا 1: 19). هذا الفكر الإنجيلي الذي كشف لنا الفصحُ قوَّتَه هو الذي يقيمنا في الاستقامة وينقذنا من الضلال.

يعرف الكتابَ المقدس من عرف نصوصه. فالقارئ الحقيقي يتدرج من الحرف الى الروح، ولذلك على كل مسيحي أن يقتني كتابا مقدسا بعهديه القديم والجديد،  كان هو القنية الوحيدة لكثير من القديسين، وأن يلازمه وقتا معيَّنا كل يوم. وصية بولس الموجَّهة الى تلميذه “واظب على القراءة” (1 تيموثاوس 4: 13)، والمقصود القراءة في الكتاب المقدس، هي بحقيقتها وصية موجَّهة الى كل واحد منّا، ذلك ان الكلمة الإلهية بالنسبة الى المؤمن الحقيقي هي غذاء يومي ومتّكأ يرمي همومه عليها ويحيا بها. من يجهل الكتاب المقدس -يقول القديس إيرونيمس (420+)- يجهل المسيح. وهي ايضا مع الصلاة اليومية، التي لا غنى عنها، تُكمل وجهَي الحوار مع الله. يقول القديس إيريناوس أسقف ليون (+202): “عندما نقرأ كتابه هو يكلّمنا وعندما نجيب على كلامه بالصلاة نحن نخاطبه”.

دراسة الكتاب المقدس أساسية لكل مسيحي، فالعودة الى الآباء القدّيسين والى بعض المفسّرين المعاصرين، عن طريق مطالعة كتبهم او اقتنائها اذا أمكن، لهي دعوة الى تعميق القراءة حتى يتمكن الانسان من الغَرْف من بهاء المحبة الإلهية التي تهدف اليها كل كلمة من بدء سفر التكوين الى “تعال، ايها الرب يسوع، آمين”، آخر كلام العهد الجديد.

القرار هو قرارنا، فالله يدعونا الى الحياة وهو الباقي على قوله القديم، يُجدّده لكل واحد منا: “لقد جعلتُ أمامك الحياة والموت” (تثنية 30: 19). وعلى كل واحد ان يختار الطريق الذي يريده.

عن نشرة رعيتي 1995

arArabic
انتقل إلى أعلى