Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

القسم الأول

تاريخ عقيدة التجسد الإلهي

الكتاب المقدس يتألف من قسمين، العهد القديم والعهد الجديد. العهد القديم خاص باليهود ومكتوب بالعبرية وبعضه بالآرامية. وقد ترجمه اليهود قبل الميلاد إلى اللغة اليونانية لأن اليهود الذين تفرَّقوا بعد فتوحات الاسكندر الكبير نطقوا باليونانية ونسوا العبرية والآرامية. وعلى هامش الكتاب المقدس نشأت عندهم سنَّة جمعوها بدءاً من القرون الأولى بعد الميلاد وهي المعروفة باسم التلمود. المسيحيون يأخذون بالعهد القديم ويرفضون التلمود الذي جُمعَ بعد المسيح. العهد القديم يتألف من قسم عَقَدي يتعلق بالوحدانية الإلهية ولتنزيه وخلق الإنسان ومصيره، وقسم تشريعي دنيوي مطبوع بروح أخلاقية، وقسم أخلاقي، وقسم تاريخي، وقسم نبوي، وقسم العبادات. أهم أركانه الإيمان بالله الأحد المنزه عن جميع المفاهيم المادية، وتنظيم معين لسلوك الإنسان الجيّد، وتسابيح روحية أهمها “المزامير”، ونبؤات عن مجيء المسيح. يرى الاختصاصيون أن موسى كتب شيئاً ما. ولكنه ثابت لديهم أن القسم القديم من التوراة جمع في القرن الثامن. وبعده ظهرت أقسام أخرى عديدة. عدد الكتبة كبير: امتدت الكتابة حتى منتصف القرن الأول قبل الميلاد. إذاً: هناك كتاب تم تأليفه ما بين القرنين الرابع عشر والأول قبل الميلاد.

العهد الجديد هو مجموعة أسفار أي كتب. منها الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورسائل الرسل ورؤيا يوحنا كاتب الإنجيل الرابع. المسيح علّم شفوياً ولم يترك أي أثر كتابي. تلاميذه بشروا وتركوا لنا العهد الجديد في اللغة اليونانية. ورد في التاريخ القديم أن تلميذه متى كتب أولاً بالعبرية بل ربما بالآرامية. إلا أنه ليس لدينا سوى النص اليوناني. العهد الجديد يتضمن مواضيع البشارة الشفوية. تناقل المسيحيون العهد الجديد والبشارة الشفوية جنباً إلى جنب (1). باستمرار كان يظهر مبتدعون فتفرزهم الكنيسة. ومستند الفرز هو مجافاة لتعليم الكنيسة المتناقل كابراً عن كابر، والذي يطلق عليه المسيحيون الأرثوذكس والكاثوليك اسم “تقليد” ليس معادلاً للسنَّة الإسلامية والتلمود اليهودي، لأنه يقتصر فقط على التعليم المتسلسل. ولذلك فالعهد الجديد هو القطعة الذهبية المركزية في هذا التقليد. فالمبتدع الذي يفسر العهد الجديد خلافاً لما هو متداول في الكنيسة يُطرح خارجاً.

النظرة المسيحية في الوحي تعتمد على أن الله ألهم كتبة الكتاب المقدس، فتناولوا القلم وكتبوا. اللغة هي لغة الكاتب والموضوع الديني هو ما يقوم الله بإلهامه. الإنشاء مختلف جداً. العهد القديم هو تحفة الأدب العبري. سفر أيوب منه هو رائعة الأدب العبري الفريدة وإحدى روائع الأدب العالمي. في العهد الجديد، لوقا الإنجيلي، وترسيوس كاتب الرسالة إلى الرومانيين، وكاتب الرسالة إلى العبرانيين، من ألمع كتبة اللغة اليونانية في عهدهم. بتعبير آخر لا ينسب المسيحيون نص الكتابة إلى الله، لا يؤمنون بالإنزال نصاً ومعنى. وليس لديهم حتى إنزال. يؤمنون بإلهام الله للكاتب. الكتابة كتابة إنسان.

رفض اليهود يسوع وتلاميذه بضراوة في فلسطين. انتقلت الرسالة على أيادي الرسل إلى بلدان حوض المتوسط الشرقي فالشمالي فالغربي حتى اسبانيا. كما غزت مصر وبلاد القيروان في ليبيا وانتقلت إلى شواطئ البحر الأسود. لاقت الرواج في الساحل الشرقي للمتوسط من قيصرية فلسطين (الواقعة بين حيفا ويافا) حتى نهاية الساحل الشرقي فروما. وامتدت إلى دمشق وبعض أنحاء سوريا الداخلية كحوران وسواها (2).

لغوياً تمركزت البشارة حول اللغة اليونانية التي كانت اللغة الدولية حتى في قلب روما. السريان واللاتين تلاميذ لليونان. في قلب روما بقيت اللغة اليونانية لغة الكتبة للمسيحيين حتى منتصف القرن الثالث. لم يخرج نسبياً عن التأثر بالتراث اليوناني سوى اوغسطين الذي لم يكن يعرف اليونانية، فاستعمل الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، فاستقل في بعض النقاط عن التراث اليوناني، لا عن سوء نية بل عن جهل. يمتد هذا الأدب المسيحي منذ القرن الأول حتى اليوم. في القرن التاسع عشر صدرت منه مجموعة يونانية ومجموعة لاتينية بمئات المجلدات بإشراف الأب Migne. وأخذت تظهر في هذا القرن مجموعة سريانية. وتطبع جميعاً في باريس. وفي بلاد اليونان أخذت تظهر طبعة جديدة كاملة للأدب اليوناني المسيحي في مئات المجلدات. ولكل هذا ترجمات كاملة أو جزئية إلى اللاتينية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والروسية وسواها من اللغات الأوربية.

أرض البدع المختارة كانت بالدرجة الأولى سوريا الطبيعية. يذكر لاروس Larousse القرن التاسع عشر الكبير تحت لفظة “سوريا” أنها أصبحت في القرن الثاني للميلاد خليفة أثنيا في بابي الأدب والفنون الجميلة. وبسبب الفتوحات كانت سوريا أيضاً الأرض المختارة لتلاقح الحضارات من فارسية ويونانية ورومانية وعراقية ومصرية. بظهور المسيحية ضمت فئة الغنوسطية إليها قشور الفكر المسيحي.

اصطدم الإسلام بهذا الواقع أيضاً. عبد القاهر البغدادي في كتابه “الفَرق بين الفِرَق” يذكر أن مذاهب الشيعة في العراق كانت مائة في القرن الرابع الهجري. النوبختي (من رجال القرن الرابع) يؤرخ للمذاهب الشيعية العراقية في زمنه ويرى كيف أن وفاة كل إمام من الإئمة كانت تفرخ مذاهب جديدة. القديس ابيفانيوس القبرصي (في القرن الرابع) كتب في البدع المسيحية وأحصاها فبلغت 84 بدعة. طبعاً أغلبيتها الساحقة نشأت في سوريا، حتى المبتدع الكبير آريوس (في الربع الأول من القرن الرابع) تعلم في أنطاكية عاصمة سوريا. الغنوسطيون يركزون على المعرفة، في العام 1935 تم اكتشاف مكتبتهم في ناج حمادي بمصر. لم تطبع إلا جزئياً.

ظهر المسيح في منطقة لها تاريخها الطويل. فلسطين ودويلات سوريا كانت في الألفين الأولين قبل المسيح مسرحاً للمنازعات المحلية والدولية. في الألف الأول دخلن الصراع المصري-الأشوري ثم المصري البابلي. يقول ديبون سومير (3) وسواه أن تشققهن وتناحرهن أودى بدولهن. وبالفعل محتهن أشور العام 721 وجرفتهن بابل العام 586 حتى جاء الفتح الفارسي (العام 539) صديق اليهود احتلالاً دائماً لا غزواً عابراً. فجعل سوريا ولاية خامسة. عقمها سياسياً إلى حد بعيد فنشطت ثقافياً حتى صارت لغتها الآرامية لغة الدبلوماسية في المنطقة. وتوحدت في ولاية واحدة بدلاً من التمزق إلى دويلات. وأتى الفتح اليوناني في العام 333 فنشطت ثفافياً وحل تناحر جديد هو التناحر بين يونان سوريا ويونان مصر. وأتى الرومان يؤسسون أمبراطورية كبيرة، فإذا بأنطاكية والإسكندرية تستمران في التنافس الثقافي خاصةً. وظهر المسيح في فلسطين فرفضه أبناء جنسه. وانتقل مركز ثقل البشارة من أورشليم إلى أنطاكية. وكان الرسل يهوداً. ونقلوا إلينا البشارة بمنطق يتحدى الثقافة اليونانية وعلى الثقافة اليونانية أن تنتصر بجهالة الإنجيل لا بحكمتها. ولكن بقي على المسيحيين أن يقتربوا من أذهان المثقفين باليونانية وأن يردوا على تخرصاتهم.

ومضمون الوحي الإلهي الجديد بسيط. ولكن وضعه على مشرحة العقل اليوناني ليس بالعسير: “الثالوث هو الإله الواحد؛ يسوع الرب الواحد هو الإله والإنسان معاً” إنهما عقيدتان تصلبان حتى عقل الملائكة.

في الإسكندرية قام مجتهدون كبار. إلا أن طبيعة مصر هي التكتل وراء الرئيس سواء كان فرعوناً أم أثناسيوس أم كيرلس أم ديسقوروس أم أي رئيس حتى يومنا هذا.

في سوريا تعددت قلاع الفكر حتى ذكر لاروس القرن التاسع عشر أنها حلت في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد في بابي الأدب والفنون الجميلة محل أثينا القديمة. وبدلاً من تنازع ميكرو-دويلات الأراميين ولد صراع رجال الفكر والأساقفة.

روما عاصمة أمبراطورية ضخمة حريصة على السلطة المركزية. يلعب أبو العائلة فيها دوراً حاسماً في حياة الأفراد. فكان بابوات روما رؤساء يحرصون على الوحدة واللحمة.

تعثر آباء القرنين الثاني والثالث كثيراً في شق الطريق لمفاهيم لاهوتية تدني الإيمان من العقل.

شيئاً فشيئاً طرح الناطقون باللغة اليونانية ألفاظاً: “الجوهر، والأقنوم، والشخص، والمساوي بالجوهر”.

ترتليانوس نحت للغرب ألفاظاً لاهوتية تعبر إلى حد ما عن كون يسوع شخص في طبيعتين لاهوتية وبشرية متحدتين.

استعمل الغرب لفظة “المساوي بالجوهر”. رفضها ديونيسيوس الإسكندري فكاتبه ديونيسيوس روما، فأجاب الأول بأن اللفظة لم ترد في الكتاب المقدس. وعرض له إيمانه وأعلن أنه لا مانع لديه، مع ذلك، من استعمال اللفظة. واستعملها بولس السميساطي (4) أسقف أنطاكية بمعنى سابليوسي (5).

وكان سابيلوس ينكر التثليث ويعتبر الثالوث أوجهاً للإله الواحد. كانا في النتيجة متهودين. وبولس كان محمي الملكة زنوبيا (6)، والنافذين اليهود في قصرها غالباً. اجتمع عليه الأساقفة ثلاث مرات تقريباً في أنطاكية. في المجمع الأخير (268) استعانوا بكاهن ضليع اسمه ملخيون فغلبه. فرزه المجمع وشجب استعماله للفظة “المساوي بالجوهر” أو بصورة أدق “ذو الجوهر الواحد” homoousios.


(1) [المسيح قد أتى ليؤسس كنيسة (متى 16: 18) لأن الكنيسة هي امتداد وغاية وقمة وملء كل عمل المسيح الخلاصي (أفسس 1: 20- 23 و3: 20-21). وما الكنيسة سوى جسد المسيح (كولو 1: 24) الذي يضم الأعضاء الذين آمنوا بالبشارة وتابوا فصارت لهم شركة مع الآب بالابن في الروح القدس (1يو 1: 3 و3: 24) بواسطة الأسرار الإلهية المؤسسة من الرب يسوع كالمعمودية (متى 28: 19-20) والميرون (أع 2: 33) وسر الشكر (متى 26: 26- 27) والمعطاة بالتسليم الكنسي. وفي الواقع فكل التسليمات الكنسية (التقليد) بما فيها الكتاب المقدس هي ثمرة لحياة الروح القدس في الكنيسة. ولذلك لا يمكن أن تُفهم وتُعاش خارج الكنيسة التي هي عمود الحق وقاعدته (1 تي 1: 15) والتي فيها يعمل الروح القدس ويوهب (1 كو 12: 28). من أجل ذلك يقول القديس إريناؤس : “حيث تكون الكنيسة هناك يكون روح الله”. ثم يتابع : “الهراطقة بما أنهم ليسوا في التقليد إذن ليسوا في الكنيسة، وعلى العكس لأنهم غير موجودين في الكنيسة ليس في التقليد ولا يعيشون في التيار الحي لروح الله”…. في الكنيسة الأولى لم تكن هناك ثنائية البتة بين ما كان يحمله الرسل وتلاميذهم من بشارة شفهية حياتية وبين ما سجلوه منها كتابة، فيما بعد، بحسب الاحتياجات الرعائية للكنائس، بصيغة رسائل وأناجيل وأعمال رسل الخ… فكل هذا مع أسفار العهد القديم كان محور تعليم وحياة الكنيسة التي كانت تتسلّمه وتسلّمه بأمانة بمعونة الروح القدس… والحقيقة أن الثنائية بين الكتاب المقدس والتسليم لم تطرح، كقضية لاهوتية إلا في القرن السادس عشر حين رفض المحتجون (البروتستانت) على كنيستهم الغربية، تقليدها بسبب عدد من التجاوزات والانحرافات، كصكوك الغفران، فاعلنوا وجوب الاعتماد على الكتاب المقدس وحده من خلال شعارهم اللاهوتي الشهير: “Sola Scriptura” أي “الكتاب المقدس حصراً”. وكان جواب لاهوتيي الحركة الباباوية المضادة للصلاح البروتستانتي هو وجوب الاعتماد على “الكتاب المقدس والتسليم”…. (الأب د. جورج عطية، اللاهوت العقائدي والمقارن)]… (الشبكة)

(2) غلاطية وأعمال الرسل

(3) His. Des Araméens

(4) راجع تاريخه في تاريخ الكنيسة حتى القرن الرابع – كنيسة القرون الأولى على الموقع… (الشبكة)

(5) نسبةً إلى سابيليوس الذي قال أن الآب والابن والروح القدس هم أوجه ظهر فيها الأقنوم الواحد. الآب قبل التجسد، الابن اثناء التجسد والروح القدس بعد الصعود… (الشبكة)

(6) إن الملكة زنوبيا كانت من الذين حاربوا واضطهدوا الكنيسة. راجع دعمها لهرطقة بولس السمسياطي في قسم التاريخ الكنسي، حتى القرن الرابع، بولس السمسياطي… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى