استعمال العهد القديم في الكنيسة وفي الليتورجيا

مكانة العهد القديم في الكنيسة الأولى:

كان العهد القديم كتاب يسوع والرسل وبشكل عام كتاب الكنيسة الأول. يسوع قال، في موعظته على الجبل (متى ٥:١٧ ) “لا تظنوا أني جئت أنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل”؛ وهنا “أكمل” لها معنى الاتمام كما يستنتج من متابعة قول المسيح (متى ٥:٢١ ) “إني أقول لكم إن لم يزد برّكم على الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السموات”. فقوله هنا يتعلق بإكمال الناموس وأيضاً بتعميقه.

وهذا يظهر من كتابات بولس رسول إلى الأمم ومن الرسالة إلى العبرانيين نفسها. فبولس، متبعاً آثار معلمه يسوع، يعتبر أن الناموس ازدهر ونما في المسيح، ويستعمل أحياناً آيات من الناموس تحت اسم “المكتوبة”: “لا تفتكروا أيها الاخوة… فوق ما هو مكتوب” ( ١ كور ٤:٦). هذا الرسول، كما المسيح قبله، يرى في العهد القديم أساساً وتحضيراً للعهد الجديد الذي هو متضمّن في القديم إما كإعلانات مباشرة (مثل النبوءات) أو بشكل غير مباشر (صور) ويعتبر ناموس العهد القديم مكمّلاً في محبة الجديد (عب ١٠:١) هذا الناموس كان فقط “مؤدِّباً إلى المسيح” (غلا ٣:٢٤ ) و “ظلاً للخيرات المستقبلية”. هذا ما يعبر عنه، بنجاح عظيم وبشكل متفق كلياً مع العهد القديم، نشيد الكنيسة الأرثوذكسية الجميل “ظل الناموس توقف من لحظة مجيء النعمة”. (قطعة ذوكصا كانين، اللحن الثاني، غروب السبت من كتاب المعزي).

لكن العهد القديم رُفِضَ من قبل بعض الجماعات المسيحية الهرطوقية، مثل الغنوسيين (العرفانيّين)، والماركونيين وغيرهم، أو أُرجع إلى إله آخر؛ لكن الكنيسة الأولى رفضت بشدة آراء الغنوسيين. وقد وجدت أممٌ كثيرة من خلال الترجمة السبعينية للعهد القديم الطريق إلى المسيحية. ومعروف أن العهد القديم ساعد ودعم نشاط الكنيسة الرسولي التبشيري، بينما العهد الجديد كان يأخذ شكله، أو كان يصاغ شيئاً فشيئاً وبهدوء. وقد أّلفا معاً، القديم والجديد، وحدة سميت بيبليا  La Bible – Biblosالكتاب المقدَّس والذي يعتبره التقليد المقدَّس كأساس للتعليم المسيحي. الله نفسه يتكلم في كلام العهدين. الروح القدس نفسه ألهم كتاب العهد القديم، والجديد.
وبالضبط صراع الكنيسة الأولى وجهادها ضد هجمات الغنوسيين والماركونيّين على العهد القديم، ألهم الكنيسة الجامعة الأولى واجبها لتشدد على وحدة العهدين. لكن من جهة أخرى، العهد الجديد بالاضافة إلى التقليد المقدَّس اعتبرا دائماً، ومنذ وقت طويل، كمساعدين على تفسير وتحقيق العهد القديم. وبين الآباء الذين اهتمّوا بعلاقة الجديد بالقديم يوحنا ذهبي الفم في رسالته إلى أهل رومية، وأيضاً أوغسطين: “العهد الجديد موجود في القديم، والقديم في الجديد”.

بالرغم من الطابع التحضيري أو الصفة التحضيرية التي يتصف بها العهد القديم، وبالرغم من المكانة المميزة للعهد الجديد، والتي يقرّ ويعترف بها الرسل أنفسهم، وبالرغم من نجاح العهد القديم بواسطة العهد الجديد، يبقى العهد القديم في الكنيسة الجامعة الأولى، ليس فقط كمصدر : مقدس لتأديب وتعليم المؤمنين، بحسب وصية رسول الأمم ( ٢ تم ٣:١٦ ) “كل الكتاب هو موحى  به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ والتقويم والتأديب الذي في البر”. لكنه قد مارس أيضاً تأثيراً عظيماً في صياغة التعليم، والنظام والعبادة وأيضاً، بشكل أو بآخر، كان له اثره على الحياة الاجتماعية للمؤمنين. يفهم من هذا وجود معرفة عميقة وواسعة للعهد القديم، وهذا نتيجة استعماله الخاص والعام.

الاستعمال الخاص للعهد القديم في الكنيسة الأولى:

حول استعمال العهد القديم في الكنيسة الأولى – الفردي والجماعي – عندنا شهادات عديدة مباشرة وغير مباشرة في كتابات آباء الكنيسة، منهم يوحنا الذهبي الفم، الذي كان واحداً من القراء الأكثر اجتهاداً، وربما كان المحرّض الأكثر حرارة على قراءة الكتاب المقدس. مقارناً الفائدة من قراءة العهد القديم مع الفائدة من قراءة العهد الجديد، حيث يلاحظ أن: “العهد القديم من جهة، يجعلنا بشراً، ومن جهة أخرى، العهد الجديد يجعل البشر ملائكة” والقديس ايرونيموس في الغرب كان من أصحاب هذا الرأي.

إن الاضطهاد الكبير الذي شنه الامبراطور دوكليتيانوس، أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، ضد المسيحيين وضد الكتاب المقدس، حيث أصدر مرسوماً يأمر فيه بحرق الكتب المقدسة، لهو كما يلاحظ هرناك، “البرهان الممتاز على المكانة التي كان يحتلها الكتاب المقدَّس عند المسيحيين والشعب عامة”.

كما حّذر آباء كبار في الشرق (مثل غريغوريوس النزينزي) وفي الغرب (مثل أمبروسيوس وايرونيموس وأغسطينوس) من قراءة الكتاب المقدَّس بشكل مبتور وغير دقيق. ليس هذا فحسب، بل إن الكنيسة نفسها كانت تختار المقاطع الليتورجية من العهد القديم بحذر شديد.

من كتب العهد القديم، ومن الكتاب المقدَّس عامة، كانت تقرأ على الأخص في الكنيسة الأولى والكنيسة الأرثوذكسية المزامير، ليس فقط في العبادة الجماعية ولكن بشكل شخصي ايضاً. كما أنها كانت تحفظ غيباً. قرار المجمع المسكوني السابع؛ المنعقد في نيقية، يحدد في القانون الثاني:

“إن المزمع أن يصير أسقفاً يجب أن يعرف المزامير عن ظهر قلبه ويفهم جيداً ما يقرأ. وهذا يتوجب على كل الذين نالوا الكرامة الكهنوتية. (مجموعة الشرع الكنسي عن ٨٨)

 بطريرك القسطنطينية يناذيوس (٤٧١-٨٤٥) يقول: “لا أحد يشرطن إن لم يقرأ المزامير”.

الاستعمال العام للعهد القديم في العبادة في الكنيسة الأولى والكنيسة الأرثوذكسية:

استعمال العهد القديم في الكنيسة الأرثوذكسية كان، وما يزال حتَّى اليوم، غزيراً وخاصة استعمال المزامير. وقد انتقل استعمال المزامير من المجامع اليهودية إلى الكنيسة المسيحية التي، باستخدامها للمزامير في العبادة، أكدت على أهميتها.

القديس يوحنا ذهبي الفم يظهر تفضيل المؤمن للمزامير، ويعبّر عن إعجابه: “الجميع يحبون كتاب داود، ونعمة الروح القدس دبرت الأشياء هكذا حتَّى يُمجد داود في كل فرصة يُقرا فيها كتاب المزامير في الصباح وفي المساء”. بالاضافة إلى المزامير كانت تقرأ كتب أخرى من العهد القديم في مناسبات ليتورجية أساسية. وحول هذا عندنا أربع شهادات.

١- شهادة يوستينوس الفيلسوف الشهيد في دفاعه Apolog ١٦٧: “في الصباح، عند اجتماع المؤمنين، تقرأ كتابات الأنبياء” (الآباء اليونان، الخدمة الرسولية ٣ ص ١٩٨٠)

٢- القوانين الرسولية التي تعود إلى حوالي ٣٠٠ م: “فلنقرأ كتب موسى ويشوع بن نون وأيوب وكتابات لسليمان والأنبياء الستة عشر” (الآباء اليونان ٢،٥٢).

٣- شهادة المدعو ديونيسيوس الأريوباغي حوالي ٥٠٠ م (حول المراتب الكنسية) “بعد التقليد القديم (يقصد العهد القديم) كان يكرز بالعهد الجديد” (الاباء اليونان – مجموعة مين).

٤- شهادة مكسيموس المعترف في القرن السابع: يتكلم عن سر الشكر، يذكر قراءات من الناموس والأنبياء (الآباء اليونان، مجموعة مين ٩١).

هذه المصادر تؤكد على وجود قراءات من العهد القديم، مرتبة قبل العهد الجديد، في الليتورجية. وتشهد على استعمال مثل هذه القراءات من العهد القديم الليتورجيات الرومانية القديمة، والانكليكانية، والسريانية، والأرمنية وغيرها.

ابتداء من القرن السابع يظهر أن القراءات من العهد القديم باستثناء المزامير، بدأت ُتبعد من الليتورجيات الرئيسية، على الأقل في منطقة البطريركية المسكونية؛ وهذا مستمر حتَّى اليوم في الكنيسة الأرثوذكسية، وسبب هذا الابعاد يعود إلى أن الليتورجية الرئيسية، التي كانت ُتقام يوم الأحد يوم قيامة الرب (أنظر رؤيا ١:١٠ “كنت في الروح في يوم الرب”)، كان لها طابع خاص مركز على المسيح، وهذا المركز يؤلف سرّ الشكر. في مثل هذه الليتورجية لا يوجد مكان للعهد القديم باستثناء المزامير، الكتاب المفضل لدى الرب، وبشكل رئيسي كتاب صلوات الكنيسة الأولى والذي رأى فيه الرب والرسل وكل الكنيسة الأولى نبوءات مباشرة أو غير مباشرة تتعلق بحياة الرب وعمله.

توجد شهادات عديدة تبين أن المزامير كانت تستخدم بكثرة في الكنيسة الأولى، مرتبة قراءات من العهد الجديد، وهي موجودة حتَّى يومنا الحاضر حيث نرتل مزامير، ليس فقط في ليتورجية الموعوظين (مثلاً في الأنديفونات – هي تراتيل تقال بالتناوب مثل بشفاعات والدة الإله – وقبل قراءة الرسائل) بل هي أيضاً مستعملة في ليتورجية المؤمنين، مثلاً خلال المناولة الإلهية ترتل بعض المقاطع من المزامير وفقاً لعادة قديمة.

عدا ذلك، في الخدم اليومية المختلفة التي تقام في الكنيسة الأرثوذكسية وفقاً للعادة القديمة فقد قسّم كتاب المزامير إلى عشرين كاثسما تقرأ مرة كل اسبوع (ايضاً في الغرب، القديس بنديكتوس حدد الدور الأسبوعية للمزامير). ففي غروب السبت تقرأ الكاثسما الأولى (المؤلفة من المزامير الثمانية الأولى) وايضاً المزامير ( ١٠٣-١٤٠-١٤١ ). في السحر تقرأ المزامير ( ٣- ١٩-٢٠-٣٧-٥٠-٦٢-٨٧-١٠٢-١١٨-١٤٢). بالاضافة إليها تقرأ في السحرية وبحسب العادة القديمة تسع أوديات (تسابيح) ثمان منها تأتي من العهد القديم.

1-نشيد الخروج وعبور البحر الأحمر (خر 15: 11-19)
2- نشيد موسى (تثنية 32)
3- نشيد حنة أم صموئيل ( 1 ملو 2)
4- صلاة حبقوق (3: 1)
5- صلاة أشعياء ( 26: 9-20)
6- صلاة يونان ( 2: 2)
7- صلاة عزريا (دانيال 3)
8- صلاة القتية الثلاثة في الأتون (أتون النار) (دانيال 3)

أ – الأعياد المتحركة:

بالاضافة إلى المزامير، تقرأ في الكنيسة الأرثوذكسية، وفقاً للعادة القديمة، خلال يومي الأربعاء والجمعة من الأسبوع المسمى بمرفع الجبن، والذي يسبق الصوم الأربعيني الكبير، قراءتان واحدة من يوئيل والثانية من زخريا. وفي الأسابيع الستة الأولى من الصوم الكبير، من الاثنين وحتى الجمعة، تقرأ ثلاث قراءات من أشعياء في صلاة السحّر، ومن التكوين والأمثال في الغروب. أيضاً يُقرأ كتاب التكوين خلال الصوم الكبير، في ذكرى خلق العالم وخاصة خلق الإنسان، وذكرى قصة الخطيئة.

خلال القداس البروجيازميني الذي يقام في الكنيسة الأرثوذكسية في الاسبوع العظيم من يوم الاثنين إلى الأربعاء، وأيضاً في قداس باسيليوس الكبير الذي يُقام في غروب الخميس العظيم، تقرأ قراءات من الخروج، وأشعياء، وأرمياء، وأيوب، على اعتبار أن هؤلاء هم صورة عن المسيح، وأيضاً قراءات من زخريا. كما أن يوم الجمعة العظيمة، يوم تضحية يسوع المسيح الأبدية، لا يقام في كنيستنا القداس الإلهي، لكن تقرأ وترتل الساعات مع الغروب حيث ترنم مزامير مسيانية عديدة وقراءات من أشعياء وأرمياء، والخروج وأيوب ومقاطع من رسائل الرسل والأناجيل الأربعة، بالاضافة إلى ترانيم كنسية كثيرة متعلقة بالآلام في غروب الفصح، ذكرى عشية الفصح وبحسب الخدمة المقدسة التي هي من أجمل وأقدم الخدم في الكنيسة الأرثوذكسية، يُقام قداس باسيليوس الكبير، فتقرأ ١٥ قراءة (خمس عشرة قراءة) من التكوين والخروج وأشعياء ويونان (كل الكتاب)، والحكمة و ٣ و ٤ ملوك، وأرميا ودانيال، مع صلوات عزرا والفتية الثلاثة وهي مقاطع من القانونية الثانية.

ب – أعياد متحركة أخرى:

مقاطع من العهد القديم تقرأ في غروب الأعياد التالية :

– في انتصاف عيد العنصرة تقرأ مقاطع من ميخا وأشعياء وأمثال.

– في العنصرة يقرأ تكوين وتثنية الاشتراع.

– وفي الأحد الذي يلي العنصرة، وهو أحد جميع القديسين، يقرأ أشعياء وحكمة سليمان.

– في غروب الصعود يقرأ اشعياء وزخريا.

ج – الأعياد الثابتة:

الأعياد الأهم بين الأعياد الثابتة، أي عيدا الميلاد والظهور الإلهي، تسبقهما خدم آنية من الكنيسة الأولى، كما في ذكرى عشية الفصح، ففي بارامون (الساعات والغروب) عيد الميلاد تقرأ قراءات من التكوين والعدد وميخا وأشعياء وباروخ ودانيال.

وفي بارامون الظهور تقرأ قراءات من التكوين والخروج وأشعياء ٣ و ٤ ملوك وقضاة. فيما يتعلق ببقية الأعياد الثابتة تقرأ في كل عيد ثلاث قراءات من العهد القديم في الغروب. كما في أعياد السيِّد المسيح الختان والدخول إلى الهيكل والبشارة والتجلي وعيد رفع الصليب) وأعياد السيِّدة العذراء (ميلاد السيِّدة ودخولها للهيكل ورقادها) وأعياد القديس يوحنا المعمدان وأعياد الشهداء وذكرى المجامع المسكونية

استعمال العهد القديم في التعليم والتبشير والوعظ:

العظة جزء أساسي ومهم في القداس الإلهي، وإن كانت لاتمارس بتواتر في الكنيسة الأرثوذكسية، لسبب أو لآخر، وعلى الأخص العظة الكتابية.

العهد القديم استخدم بغزارة في الوعظ والتعليم في الكنيسة الأولى، وهذا ما تدل عليه الكتابات الكنسية القديمة التي لا نجد فيها فقط وعظاً أو تعليماً عن بعض شخصيات وموضوعات العهد القديم بل وأيضاً تعليقات وتفسيراً لكثير من الكتب. كما نجد استعمالاً وافراً للعهد القديم فيما يتعلق بتعليم وتهذيب الشبيبة في الكنيسة الأولى، من قبل أوريجنس والذهبي الفم (ثماني عظات حول المعمودية) وكيرللس الأورشليمي (تعليم حول الأسرار).

كيف نستعمل العهد القديم في العظة :

إذا قبلنا أن العهد القديم هو إعلان إلهي، وهو كلمة الله، علينا أن نستعمله في العظة. العهد الجديد يتوجه إلى الكنيسة، وكذلك العهد القديم، من هنا يمكننا القول أنه يمكننا أن نستخدم العهد القديم في الوعظ والتعليم المسيحي، ولكن لا يمكننا أن نتوقف عنده، لأن بشارة أو عظة العهد القديم ليست عندها مقومات البشارة المسيحية. فالعهد القديم لاهوتياً يبشر بالمسيح، ولكنه لا يظهره تاريخياً. حتَّى نعظ من العهد القديم يجب أن نعطيه النور المسيحي، أي أن نعظ منه على ضوء النور الآتي، ضوء الرب يسوع المسيح.

الأرشمندريت ميشيل بوغوص
نشرة مطرانية اللاذقية
2 / 8 / 1998
العدد 31 ومايليه

arArabic
انتقل إلى أعلى