العهد القديم: كتاب الكنيسة أم أساطير العبرانيين؟

يُعتبر اكتشاف حضارات مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، التي كانت منسية على مدى قرون، واحد من أهم إنجازات القرن الثامن عشر. كما أن توسع الأفق التاريخي الذي نتج عن هذا الإكتشاف أثر لا محالة في طريقة النظرة إلى الكتاب ومقاربته.

إن العدد الهائل من النصوص الذي جاءت به الاكتشافات الأثرية إلى النور جعل الكتاب اليوم من أقدم الكتب في العالم، وهو نسبياً أحدث إنتاج في تاريخ الحضارة الإنسانية المغرقة في القدم، طالما أن المسافة الزمنية لأكبر جزء من محتواه منذ بدايات الحضارات القديمة يساوي تقريباً 2500 سنة بالقياس إلى بعده عن الزمن الحاضر.

وهكذا فإن العالم الكتابي لديه إمكانية رؤية نصوص الكتاب في خضمّ تيار واسع من تراثات مختلفة المنشأ والنوع تفتح له آفاقاً جديدة للتفسير وتقدم له إمكانيات جديدة لفهم أفضل وأكمل لها.

ولكن بالإضافة إلى النتائج الإيجابية التي تمخضت عنها المقاربات التفسيرية الحديثة، فقد طرح في نفس الوقت تساؤل خطير: بماذا يختلف الكتاب عن أساطير الشعوب الأخرى المجاورة لإسرائيل ؟

تتزايد في السنوات الأخيرة أصوات مختلفة، تشكك بطريقة وبأخرى بقيمة “الكتب اليهودية” أي الجزء الأول من الكتاب المقدس المسيحي والذي يسمى “العهد القديم” في الكنيسة.

يعتقد البعض أن دراسة العهد الجديد كافية للإيمان المسيحي، طالما أنه فيه ينكشف إله المسيحيين بشكل حقيقي. والبعض الآخر يتجرأ ويطرح السؤال التالي مباشرة : لماذا يجب على المسيحيين أن يدرسوا “أساطير العبرانيين” ؟ وبالأحرى هل هي ضرورية لإيمانهم ؟

إن القضية كلّها ذات هيكلين :

  • الأول يتعلق بالسؤال عن علاقة العهد القديم ونصوص أساطير الشعوب المختلفة
  • والثاني يتعلق بأهمية العهد القديم بالنسبة للإيمان المسيحي

ولكي يجيب المرء على السؤال الأول ينبغي أولاً أن يعطي إجابة واضحة على السؤال التالي: كيف وجدت كتب الكتاب المقدس ؟ هذا ضروري جداً لأنه عندما يدور الحديث عن الكتاب تسيطر في أذهان الكثير من الناس فكرة الكتاب الذي “نزل” من السماء.. ونتيجة لهذه المفاهيم تواجه أية فكرة نقدية عن تاريخ تجميع كتب الكتاب المقدس بريبة وشكوك من قبل المؤمنين. ولكن إذا كان الإيمان المسيحي مرتكز بالتأكيد على حقيقة أن الله لكي يقترب من الناس وصل إلى حدّ أن يصير هو نفسه إنساناً، نفس الشيء يجب أن يسري على هذا الكتاب الذي يشهد على هذه الحقيقة.

وبالتالي فإن الكتاب المقدس لم يُملَ على الناس من قبل الله، ولكنه ثمرة عمل الله المشترك مع البشر، أي أنه كُتِبَ من قبل الناس بلغة يفهمها الناس، وإذا استنار الكتّاب القديسون بنعمة الروح القدس صاروا أدوات إلهية وحملةً للكشف الإلهي، آخذين على عاتقهم نقله إلى الناس. ولكنهم لم يعملوا بشكل آلي سلبي بل احتفظوا بشخصيتهم كاملة، محاولين أن يجعلوا الحقائق الإلهية قريبة من أخوتهم في الإنسانية، لذلك اختار كل واحد منهم بحسب مستواه الثقافي وإمكاناته الروحية الوسائل التعبيرية والأشكال اللغوية (سرد، شعر، إلخ) والتي بحسب رأيهم تساهم أكثر في نجاح مهمتهم المقدسة.

يتدخل الوحي في الحقائق الإلهية فقط وليس في الوسائل التي تعبر عن هذه الحقائق وفي مفاهيم العصر عن تركيبة الكون والأحكام الإجتماعية واعتبارات أخرى. بالتالي فإن النصوص الكتابية هي انعكاسات أفكار ومفاهيم كل عصر ومعطيات الحقبة التاريخية والإجتماعية التي تتناولها هذه النصوص. إذاً فالفهم الصحيح للنصوص الكتابية يتطلب بالضرورة معرفة كل مفاهيم ومعطيات عصر إسرائيل الكتابي.

هناك خطأ شائع يحدث دائماً في طريقة التفكير المعاصر وهو أنه يعتبر صحيحاً فقط ما يمكن أن تقبله وسائل العلوم التاريخية على أنه صحيح. وهكذا أمام الخوف من التشكيك في صحة الكتاب يجاهد الكثير من المفسرين لكي يبرهنوا على صحة كل الروايات تاريخياً. هذه المشكلة طُرحت يقوة في القرن الثامن عشر بعد اكتشاف ما سُمّي بالكتابة المسمارية وقراءتها. إن الحماس الذي نشأ عن هذا الاكتشاف عند الباحثين بالإضافة إلى التشابه الملحوظ بين نصوص أساطير بلاد ما بين النهرين ونصوص الكتاب إلى دفع البعض من أولئك الباحثين في بداية القرن إلى رأي متطرف بأن العهد القديم ليس إلا نسخة إسرائيلية عن أساطير الشعوب المجاورة.

بديهي أن هذا الموقف خلق ردات فعل عنيفة من قبل اللاهوتيين ولكن بالرغم من ردّات الفعل المتطرفة التي صدرت من كلا الجانبين فإن نظرة جادة إلى الأمور تقود إلى التأكد بأنه في الحقيقة يوجد بعض التشابه بين النصوص الأسطورية والكتاب. مثلاً حديقة عدن لا شك أنها صورة تجدها في أساطير بلاد ما بين النهرين عن حديقة الآلهة، الأشجار التي تهب الحياة والمعرفة وتوجد في وسط الفردوس تذكر أيضاً بعرض أسطوري مشابه في ذلك العصر.

ولكن هذه التأكيدات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبرر وتدعم رفض الحقيقة الكتابية لأن الكتّاب القديسون في محاولتهم إيجاد طرق تجعل الحقيقة قريبة لقرّائهم ما كان لهم أن يتجاهلوا الأساطير التي كانت منتشرة بشكل واسع في المنطقة. ثم أنه من الواضح أن حقيقة شيء ما لا تتوقف على النمط الأدبي الذي يعبّر عنها. المشكلة يمكن أن تُطرح عندما تكون العناصر الأسطورية مأخوذة شكلاً ومضموناً ولكننا لا نلاحظ شيئاً من هذا القبيل في أي نص كتابي، إنه ولا في حالة واحدة لا نجد شكلاً متكاملاً ومستقلاً للأسطورة ولا هي بالتالي هدف الرواية.

مثلاً إن رواية تمشي الله بعد الظهر في حديقة عدن (تك3: 8) هي صورة تذكر بمشاهد أسطورية ولكن الحديث عن تمشي الله ليس هو هدف الرواية وإنما انقطاع علاقة الإنسان مع الله. إن الصورة هنا تخدم المشهد فقط وليست هي جوهر الرؤية.

الشيء نفسه ينطبق على رواية الطوفان، فكما أنه في الكتاب كذلك في الملحمة البابلية “جلجامش” يصير الحديث عن “فلك” يُبنى بأمر إلهي لكي ينجو بعض البشر وبعض الحيوانات من الكارثة، ولكن كل قصة نوح تدور حول موضوع واحد وهو فساد الإنسان وعدل الله وقمة هذه القصة نجدها في التشديد على محبة الله الذي بالرغم من فساد الإنسان يعقد اتفاقاً معه. هنا ما يتعلق بالطوفان من عناصر يشكل فقط مجالاً لإعلان حقائق الإيمان الكتابي. بعكس ذلك فإن موضوع ملحمة جلجامش هو صراع وفساد الآلهة مع غياب أي بُعد تربوي للطوفان. هنا يستخدم المؤلفون الكتابيون موضوعاً معروفاً ويضعونه في قالب يفقده كلياً عناصره الأسطورية.

يتضح مما سبق أن استخدام الصور التي تخدم التعبير عن الحقائق الكتابية لا يعني تبني الأفكار الأسطورية. إن جوهر الأسطورة يكمن في اعتبار الآلهة جزء من هذا العالم بينما التشديد على سموّ إله الكتاب يدحض أي علاقة له بالنصوص الأسطورية. بديهي أن اللغة الكتابية تستعمل غالباً ما تستعمل الصور والأساطير المتداولة في المنطقة طالما أن المؤلفين يستقون مادتهم من روايات أدب البيئة التي يعيشون فيها وخاصة عندما تأتي هذه الروايات على ذكر الخلق، مصدر الشر، علاقة الإنسان بالله… الخ والتي تشغلهم هم أيضاً.

ولكن بالرغم من ذلك فإن ما يدعو إلى العجب بالحقيقة أن هذه الصور تستعمل دائماً كمساهمة لغوية للإعلان بطريقة روائية عن حقيقة الإله الواحد والوحيد والذي خلق العالم كاملاً وجبل الإنسان على صورته ومثاله ويتدخل خلاصياً في التاريخ.

وفي رواية الإصحاحات الإحدى عشرة الأولى من التكوين، يعرض بطريقة تصويرية رائعة مسيرة سقوط الإنسان بتفكك سلسة العلاقات نتيجة لانقطاع علاقته بالله، فكل مرة يحاول الإنسان أن يساوي نفسه بالله إما باقتنائه المعرفة “الأكل من الثمرة المحرّمة” (تك 3: 1)، وبالسعي إلى تحسين جنسه (زواج كائنات خارقة بنساء أموات) (تك6: 1) وبالتقدم التقني (بناء برج عالٍ) (تك 11: 1)، يعيش انقطاعاً جديداً لعلاقاته مع أخيه الإنسان، تهديم العلاقات بين الزوجين (آدم وحواء) وبين الأخوة (قايين وهابيل) وبين الأب والابن (نوح وحام) وفي النهاية انقطاعاً تاماً للتواصل (انعدام التفاهم). وإن كان سرد مسيرة السقوط يستخدم صوراً تظهر تشابهاً مع بعض النصوص الإسطورية فإن هذا لا يقلل من قيمة الحقيقة القائلة بأن انقطاع علاقات الإنسان مع الله يقود إلى انقطاع علاقات البشر فيما بينهم. وطبيعي فإن استعمال مثل هذه الصور على أية حال لا يبرر وصف العهد القديم على أساس انه كتاب أساطير العبرانيين.

 فيما سبق من أمثلة وفي كل ما يماثلها حيث نلاحظ تأثر المؤلفين الكتابيين بمحيطهم الثقافي فإن استعمال الصور لا يشكّل هدفاً بحد ذاته ولكنه يندرج في سياق السرد لخدمة أهدافه. فالطريقة التي اتّبعها الكتاب في ترتيب الروايات بين دفّتي الكتاب المقدس تشهد على رغبتهم الواضحة في أن تكون رواياتهم تاريخاً وليس مؤلَّفاً أسطورياً. تاريخاً بالأحرى عالمياً يبدأ بخلق العالم ويصل حتى الأخرويات. تاريخاً لا يسعى إلى تسجيل أخبار المجتمع الإنساني في الزمن الماضي بل إلى وصف علاقة الله بالإنسان، وهذا هو بالضبط المنطلق الذي يميز العهد القديم عن كل أساطير الشعوب الأخرى. لأنه بينما عند باقي الشعوب الله يُعبَد لشيء تؤكده الأسطورة، العكس تماماً عند إسرائيل فالتاريخ بالدرجة الأولى هو المجال الذي تظهر فيه قوة الله الخلاصية. هذا يتضح جلياً في الوصية الأولى (خر20: 2) الي يُدعى بها إسرائيل كي يعبد الله لا لقوىً له ظهرت في ماضٍ أسطوري سحيق (الخلق، الطوفان، إفناء قوى الخراب والفوضى…) ولكن لتدخّله المحدود في الخروج من مصر.

وإذ يبدأ الكتاب تاريخه “في البدء” فهو يعني في الوقت نفسه أن هذه البداية تقابلها نهاية ما، وكل ما بينهما يشكّل التاريخ كما فهمه مؤلفو الكتاب أي الحوار بين مبادرات الله واستجابات الإنسان. إن طريقة وصف العهد القديم لعلاقة الله بالإنسان هي وضعها في قالب قصصي، ولكن هذا القالب لتاريخ علاقة الله مع شعب ما لا يفقد أبداً علاقته بالتاريخ العام تاريخ البشرية والعالم. العهد القديم يبدأ وينتهي بنفس النمط؛ في البداية يعمل الله في العالم والبشرية كوحدة متكاملة ويعمل الشيء نفسه في النهاية في النصوص الرؤيوية (النبوية). يوجد تناظر مباشر بين زمن البدايات والنهايات كما يتضح من اللغة والمصطلحات التي يستعملها الكتّاب القديسون. بين البدايات والنهايات تحدث أحداث تاريخية معينة بين الله ومجموعة محددة من البشر؛ إن هذا التاريخ يبدأ بدعوة راعٍ متجول هو إبراهيم وهو الإنسان الأول الذي يقبل دون تحفظ إرادة الله، لذلك يؤهله الله لكي يصير رئيس شعب سيحمل خبرة تعامل الله مع الإنسان على مستوى التاريخ. يستمر التاريخ بخلاص الشعب الذي تحدّر من إبراهيم من مصر، الذي يقابل خلاص إسرائيل من بابل ويصل هذا التاريخ إلى هدفه بالخلاص بالمسيح الذي بدوره يؤسس لتاريخ الكنيسة المسيحية وهو من جهته يتعلق بكل البشرية.

إن علاقة الله الخاصة بمجموعة معينة تتعلق بالأفعال الخلاصية، إنها تاريخ الخلاص الذي يُسمّى عادة “تاريخ التدبير الإلهي”، هذا التحديد وإن يكن غير واضح دائماً في اللغة اللاهوتية بشكل عام لذلك يحتاج لبعض الشرح. إلا أن ما هو أساسي في هذا التاريخ ليس الحالات الخلاصية ولكن خيرات الخلاص. ولكن هذا التاريخ لا يشمل فقط أعمال الله الخلاصية نحو شعبه. إن التاريخ لا يمكن أن يحوي فقط أعمالاً وخيرات خلاصية لأنه يظل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً باهتمام الله بالعالم. فالقاضي ينبغي أن يولد والنبي ينبغي أن يأكل والكاهن يحتاج إلى حيوانات كي يقدم الذبيحة. وهكذا فإن عناية الله تهتم بالعائلة، بالمحاصيل في الحقول، بالحيوانات في المراعي… وهكذا تتضح الصورة الكونية لعناية الله فهي تحفظ العائلات، القبائل، الشعوب، وحتى الذين هم خارج إسرائيل وحتى أعداء إسرائيل وكل البشرية التي لا تزال في يد الخالق. إن بركة الله تمتد لتطال كل المخلوقات الحية في البشرية جمعاء.

إن ارتباط الأفعال الخلاصية بعناية الله في روايات العهد القديم كانت نتيجة أن يتضمن التاريخ الخاص بعلاقة الله بشعبه رؤيا عالمية شاملة، وتبدو هذه الرؤية واضحة مع بداية تاريخ البطاركة بالوعد الذي قطعه الله لإبراهيم “وتتبارك بك كل قبائل الأرض” (تك3: 22). في تاريخ الأنبياء كل ما يحدث في إسرائيل يتركز في أساس تاريخ الشعوب والتاريخ العالمي. في نهاية النبوءة توجد “عبد السيد” الذي يرسل “نوراً للأمم… للخلاص إلى أقاصي الأرض” (اشعياء6: 49) وفيما بعد في النبوءات الأخروية ينفتح الخلاص على كل الشعوب وفي النهاية يموت المسيح على الصليب لأنه “هكذا أحب الله العالم” (يو16: 3). بالتالي يُمسي واضحاً أن تاريخ الله مع شعبه منذ البداية وحتى النهاية كان هدفه البشرية جمعاء. وعندما يضيع هذا الهدف وهذا ما يحدث في كل مرة ينعزل فيها حدث كتابي ما عن مجرى تاريخ التدبير الإلهي وينقل الواقع حرفياً، فحتى أكثر الروايات تشويقاً أسمى التعاليم الأخلاقية واللاهوتية تتوقف عن أن تكون كتاباً مقدساً وتصبح قصصاً شريفة.

إذاً طالما أن العهد القديم بالنسبة إلى المسيحيين ليس هو أساطير العبرانيين ولكنه ظهور الله للبشر وتسجيل تاريخ علاقات الله مع الإنسان فإن كتب هذا العهد ليست قصص أحد الشعوب وحسب ولكنها الإرث الروحي للبشرية جمعاء التي يدعوها يسوع المسيح لتصير شعب الله.

هكذا فالإجابة عن السؤال الثاني عن أهمية العهد القديم بالنسبة للإيمان المسيحي تظهر من إيمان الكنيسة نفسها بشخص يسوع المسيح. فلو أراد المرء أن يختصر بجملة واحدة كل لاهوت الكنيسة فيما يختص بالأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس فربما لن يجد ما يناسب أكثر مما يذكر في نهاية الكتاب الأخير من الكتاب المقدس “الكائن والذي كان والذي يأتي (رؤ1: 4-8 وانظر4: 8). في هذه الجملة يختصر المبدآن الرئيسيان اللذان يميزان المسيحي عن سواه من باقي الأديان، أي أن الإيمان المسيحي ليس ثمرة تفتيش فكري قام به أحد المفكرين وأنه تركيبة بعض الكهان، ولكنه نتيجة إعلان الله في التاريخ وأن الكتاب المقدس هو تسجيل خبرة الإعلان هذا من قبل المجموعة التي عاشت هذه الخبرة وحفظتها حية في تقليدها (تراثها).

لكي يصير معنى الجملة السابقة مفهوماً، يجب أن يعود المرء إلى مسافة تبعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة من عصرنا آنذاك، عندما نفى واحد من حاشية فرعون نفسه إلى البرية ووجد نفسه في مواجهة منظر غريب. من خلال علّيقة كانت تلتهب من دون أن تحترق، الله يدعو موسى كي يحرر شعبه المستعبد من قبل المصريين. وفي الحوار الذي يلي يبدي موسى تحفظات حيال قدرته على الاستجابة للمهمة الصعبة التي أوكلت إليه فهو لا يكتفي فقط بتأكيدات الله بأنه سيكون معه ويساعده، ولكنه يطلب منه شيئاً أهم بكثير. إنه يطلب أن يعرف اسم الإله الذي يدعوه. إن الأسلوب غير المباشر الذي يتّبعه في طرح هذا السؤال وتحفّظه الشديد (خر3: 13) يُظهران أهمية طلبه.

بحسب مفاهيم ذلك العصر فإن الاسم لا يشكل خصوصية خارجية فقط يميز شخصاً عن آخر، ولكنه يتعلق بطبيعة ودور وشخصية ذلك الذي يحمله. موسى إذاً بطلبه أن يعرف اسم الله لا يبغي الحصول على معلومة ما، ولكنه يريد أن يعرف الله نفسه ولهذا السبب كان جواب الله مناسباً، الله لا يجيب مباشرةً مصرّحاً باسم ما، ولكن واصفاً إحدى خصائصه “أكون الكائن” (خر3: 14). إذاً السمة الأساسية لله التي تُكشف لموسى هي “الوجود” بعكس كل الآلهة الأخرى التي يعبدها البشر والتي لا وجود حقيقي لها.

إن كشف الله في سيناء يشكّل واحدة من أعظم اللحظات ليس فقط في تاريخ العهد القديم المقدس ولكن في التاريخ العالمي، ومثل ذلك الحدث كذلك العهد الذي تبعه سيصيران في المستقبل نقطة انطلاق تغيير تاريخي عالمي في مسيرة البشرية الروحية.

إن صفة الفكر الكتابي اللاهوتية الرئيسة هي أن الله يكشف نفسه للبشر بكلمته، وهكذا تولد علاقة خاصة بين الله والإنسان. فبينما الله يتكلم الإنسان يسمع. بقدر ما تبدو هذه الفكرة واضحة ومفهومة في الفكر اللاهوتي المعاصر، فهي تشكل ثورة حقيقية في مفاهيم ذلك العصر. إن الديانة المصرية المجاورة لإسرائيل مثلاً لا تستند إلى كشف الألوهة، لن آلهة المصريين لا يظهرون بكلمتهم التي يسمعها الإنسان، بل يظهرون بصورهم التي يراها الإنسان وبالأشكال الطقسية التي يقيمها الإنسان. إن ظهور الآلهة في كل الديانات القديمة الأخرى يُعبَّر عنه برموز وأفعال طقوسية كانت نتيجتها غياب العلاقة المباشرة بين الحياة الأخلاقية والممارسات العبادية في تلك الديانات. كما يغيب عن تلك الديانات الـ “أنا أكون” الذي يتوجه به الإله الكتابي نحو البشر.

إذاً بالرغم من أن آلهة العالم الوثني كلها تحمل اسماً ما يصفها ويميزها عن الآلهة الأخرى الواردة في الأسطورة. نجد في إسرائيل أن اسم الله يلعب دوراً مختلفاً تماماً لأنه يتعلق مباشرة ليس بالأسطورة ولكن بأحداث تاريخية معينة. لأن الله عندما يتوجه نحو البشر بـ “أنا أكون” لا يعرّف عن نفسه كشخص غير معروف ولكنه يصرّح أنه هو ذاك الذي عرفه البشر من خلال تاريخهم (تك15: 7، خر7: 20). يعرف إسرائيل من هو وما هو الله من خلال اختباره للقوى الإلهية عبر التاريخ وليس من روايات أسطورية وتساؤلات فلسفية. إذاً عندما يتوجه الله نحو البشر معلناً اسمه، لا يظهر كحاكم مضطهد ينشر اسمه الرعب في نفوس سامعيه وهو يصدر لهم الأوامر، ولكنه يظهر كأب عطوف يطلب من البشر مبادلته التصرف نفسه. هذا هو المعنى الذي يحمله بتكرار الجملة الثابتة التي تتبع كل وصية وهي “أنا هو الرب” (الذي هو موجود) (لاويين 18: 4-6. 19: 10 – 18، وأخرى) إن ارتباط اسم الله أي ذكر الأفعال الإلهية مع وصاياه إلى البشر ليس له مثيل في محيط إسرائيل الوثني. دائماً أفعال الله في التاريخ تسبق مطالبه من البشر (خر70: 7) وهكذا يتخذ التاريخ البشري معنى مختلفاً تماماً طالما أن هدفه لم يعد أبعد من معرفة “أنا هو الرب” (خر7: 7) أي استجابة البشر لمبادرات الله من أجل خلاصهم.

عندما يحلل كتاب الرؤيا اسم الله بـِ “الكائن والذي كان والآتي” يعلن بأحسن طريقة ليس فقط أن الله يعلن باستمرار ضمن التاريخ؛ ولكن أيضاً أن وجوده يظل غير متغير مع الزمن. وبهذه الطريقة تتشدد بقوة وحدة العهدين (القديم والجديد) واللذين يؤلفان الكتاب المسيحي كما يظهر بوضوح تام في الأيقونات الأرثوذكسية كتابة “Ο، Ω، Ν” الكائن في الهالة المحيطة برأس السيد المسيح أنه هو نفسه الله الذي يعمل دائماً في كل مراحل التاريخ الإنساني. إن وحدة العهدين هذه تبدو جلية في الطريقة التي اتبعتها الكنيسة في دمج كتب العهد القديم في كتابها المقدس. بتفصيل أكثر إن ترتيب النصوص الكتابية في “قانون” أي كتاب المجمع اليهودي يهدف إلى التشديد على قيمة “الناموس”. بالتالي إن الكتب التي تؤلف مجموعة “الناموس” لها المكانة الأولى في هذا القانون، بعدها مباشرة تأتي مجموعة “الأنبياء” وفي الكتاب الأول في هذه المجموعة “يشوع بن نون” يظهر الله منذ اللحظة الأولى وهو يعطي خليفة موسى الوصية التالية: “تشجع جداً لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي، لا تمل عنها يميناً وشمالاً لكي تفلح حيثما تذهب لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه فإنك حينئذٍ تصلح طريقك وحينئذٍ تفلح” (يش1: 7-8). الكتاب الثاني من المجموعة “ملاخي” ينتهي بوصية مماثلة “اذكروا شريعة موسى عبدي التي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام” (ملا4: 4). إذاً فإن كل المجموعة الثانية للمؤلفات الكتابية تبدأ وتنتهي بالتذكير بوجوب حفظ الناموس بأمانة ونفس الشيء يتكرر في المجموعة الثالثة. الكتب المقدسة تبدأ بكتاب “المزامير” الذي يطوّب في أولها الإنسان الذي “… يجد في ناموس الرب مسرّته” وفي ناموسه يلهج ليلاً ونهاراً (مز1: 2). وبطريقة مماثلة يشكل الكتاب الأخير من المجموعة “أخبار الأيام” ملخصاً لتاريخ إسرائيل بهدف تذكير شعب يهوذا الذي يستعدّ للتجمع ثانية بعد سبي بابل بأن حياته تتوقف على أمانته بحفظ الناموس وتأديته الصحيحة للعبادة.

على العكس، فإن هدف ترتيب المؤلفات الكتابية في قانون الكتاب في الكنيسة هو أن تشكل هذه المؤلفات نوعاً من المدخل إلى العهد الجديد. إن “الناموس” في العهد القديم المسيحي لا يشكل مجموعة كتب قائمة بحد ذاتها ولكنها تصنَّف في مجموعة أوسع تحت عنوان “كتب تاريخية”. في هذه المجموعة تصنف بحسب ترتيب تاريخي للأحداث. المؤلفات الكتابية ذات الطابع السردي بحيث تنتج رواية متكاملة تبدأ بخلق العالم وتصل إلى آخر قرون ما قبل المسيحية وهدف هذه الرواية هو إظهار مسؤولية الإنسان عن دخول الشر إلى العالم مما استدعى ضرورة تدخل الله في التاريخ البشري من أجل تأهيل البشرية لقبول الخلاص الذي سيحمله يسوع المسيح. هكذا يكتسب تاريخ ما قبل المسيحية الذي استمر على مدى قرون والذي كتب في العهد القديم معنىً بدءاً من يوم وحيد، اليوم “الذي تهلل أن يراه إبراهيم” (يو8: 56)، أي يوم ظهور يسوع المسيح.

بعد هذا يفقد الناموس معناه المركزي ويصبح “مرشداً إلى المسيح”. في المجموعة الثانية من المؤلفات الكتابية بحسب القانون المسيحي، تصنف الكتب ذات الطابع الشعري والتعليمي.. في “الكتب الشعرية” يسبح الشعب إلهه ويتوجه نحوه بدعائه وشكواه، وأيضاً يشكره للعطايا التي يتلقاها منه. وقبل كل شيء يعبر عن رجائه بمجيء المسيح. وفي “الكتب التعليمية” تكتنز الحكمة الإلهية التي وهي قيّمة على عرش الله فهي “صاحبة أسرار علم الله والمتخيرة لأعماله” (حكمة سليمان 9: 4). وكموجودة قبل الزمن والتكوين “منذ الأزل مُسِحتُ من الأول من قبل أن كانت الأرض ولدت من قبل أن تكون الغمار والينابيع الكثيرة المياه، قبل أن أُقِرَّت الجبال وقبل التلال ولدت، إذ كان لم يصنع الأرض ولا ما في خارجها ولا مبدأ أتربة المسكونة. حين هيأ السماوات كنت هناك وحين رسم حداً حول وجه الغمر. حين ثبت الغيوم في العلاء وقرّر ينابيع الغمر وحين وضع للبحر رسمه فالمياه لا تتعدى أمره وحين رسم أسس الأرض. وكنت عنده مهندساً وكنت في نعيم يوماً فيوماً ألعب معه في كل حين. ألعب في مسكونة أرضه ونعيمي مع بني البشر. فالآن أيها البنون اسمعوا لي فطوبى للذين يحفظون طرقي اسمعوا التأديب وكونوا حكماء ولا تهملوه” (أمثال8: 22-33) و”فإنها بخار قوة الله وصخور مجد القدير الخالص فلذلك لا يشوبها شيء نجس، لأن ضياء النور الأزلي ومرآة عمل الله النقية وصورة وجوده” (حكمة سليمان7: 25-26)، سوف توحَّد من قبل الكنيسة المسيحية بالشخص الثاني للثالوث القدوس “وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله” (1كور1: 24). تختم مجموعة “الكتب النبوية” القانون المسيحي. إن فحوى هذه الكتب يُفهم من قبل الكنيسة خاصة كإعلان مسبق لظهور المسيح وباقي الكتب تُصنَّف بنفس الطريقة بحيث تتضح تدريجياً صورة المخلص المنتظر.

ينتهي العهد القديم المسيحي بكتاب “دانيال” الذي يعلن قيامة الموتى (دا 17: 1-3) ويصف من خلال رؤيا هائلة شكل “ابن الإنسان” الآتي “على سحاب السماء” الذي “أعطيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لن ينقرض” (دا7: 13-14). “ابن الإنسان” هذه التسمية نفسها يستعملها النص الذي يلي مباشرة في الكتاب المسيحي في إنجيل متى، المسيح، في كل مرة يتكلم فيها عن نفسه (متى 8: 20، 9: 6، 10: 23، 11: 19، 12: 8 و23 و40 وأخرى). إذاً عندما تفسر الكنيسة نصوص العهد القديم خريستولوجياً تعطيها معنىً مختلفاً تماماً عن ذلك الذي تأخذه نفس النصوص في المجمع اليهودي. بهذا المعنى الجديد تدمج الكنيسة كتب العهد القديم في كتابها المقدس وتعتبرها جزءاً من تراثها وتشرع في الوقت نفسه حقّها أن تكون هي “إسرائيل الجديد” ووارثة مواعيد الله وليس المجمع اليهودي. مما سبق، يصبح واضحاً أن مجموع كتب قانون الكنيسة تشكل الكتاب المسيحي وليس بعضاً منها فقط، لأن نبذ بعض هذه الكتب يعني التمييز الواضح بين إله العهد القديم والإله الذي يُستَعلن بواسطة يسوع المسيح في العهد الجديد.

إن مثل هذا التمييز لا يزعزع فقط المبدأ الأساسي الذي يختلف به الإيمان المسيحي عن كل ما عداه بان الله يظهر في التاريخ البشري، ولكنه يقود أيضاً إلى صورة مختلفة كلياً عن يسوع المسيح ويصبح الخلاص المعلن عنه بدون مضمون.

هذا يدركه المرء بكل سهولة عندما يحاول أن ينزع من العهد الجديد الآيات المذكورة في العهد القديم، وسيتأكد حينذاك أنه لا يبقَ من شخص المسيح سوى صورة صانع عجائب متجول، وفي أفضل الحالات، واحد من معلمي الحقائق الفلسفية الذي ينجح دائماً في (قلب/دحض) حجج محدثيه الفلسفية، لكن صورة المسيح هذه غريبة جداً عن إيمان الكنيسة بشخصه.

إذا كان حقيقة أن الإيمان المسيحي ليس نتاج (أبحاث/ تأملات) فلسفية على مستوى نظري بحت، ولكنه يعتمد على ظهور الله في التاريخ البشري فإن وحدة العهدين تصير لا بد منها. لأنه في هذه الوحدة يظهر بوضوح تام أبعاد حضور الله في التاريخ، فليس من قبيل المصادفة أن كل البدع التي ظهرت في العصور المسحية الأولى تحت تأثير أفلاطوني حاربت بعنف العهد القديم. لذلك فإن الكتّاب الكنسيين والآباء لا يميزون أبداً في مؤلفاتهم العقائدية بين العهد القديم والجديد نوعياً، ولكن فقط تاريخياً وفنياً. وكذلك قوانين المجامع المحلية والمسكونية لا تجد فرقاً بالاستناد إلى العهدين القديم والجديد. يظهر هذا الارتباط الوثيق بين العهدين بشكل رئيسي وجليّ في عبادة الكنيسة حيث يصعب على المرء إيجاد تسبحة واحدة لم تُشِر مباشرة إلى أحد أشخاص وحدث من العهد القديم غير متأثرة بمواضيعه وتعابيره. إضافة إلى أنه في كل الخدم الكنسية تُقرأ مقاطع كبيرة وصغيرة من العهد القديم. فقط بهذه النظرة إلى وحدة العهدين غير المنفصلة سيتمكن يوحنا من مواجهة العقيدة الأفلاطونية “الله لا يخالط البشر” الفكرة التي كانت سائدة في ذلك العصر بـ “في البدء كان الكلمة…. والله كان الكلمة…. والكلمة صار جسداً وحل بيننا” (يو1: 1-4) التي هي أساس الإيمان المسيحي.

العهد القديم: كتاب الكنيسة أم أساطير العبرانيين؟
د. ملتياديس كونستانتينو
ترجمه عن اليونانية السيدة سميرة حموي- عطية
نقلاً عن كتاب: حوليات (ج2، ص178-190)

Is the Old Testament
a Group of Jewish Mythologies،
or is it the Book of the Church?
Dr. Militiades Constantinou

University of Thessaloniky – University of Balamand

Professor Dr. Constantinou begins his article on the basis that the Holy Bible is the outcome of the synergy between God and Man. Then he tackles the mechanism through which، and by which، the Bible was formed، besides، the people who contributed to its formation، and had left their seal and effect on it، from different perspectives. In addition to that، the author of the article does not neglect or minimize the presence of some similarities in imageries through the appeal to a certain quality of narration that prevailed at a definite time، so as to make easy the idea، to the minds of the people of the past
Meanwhile، he draws a clear comparison between the myths of the Gentiles، and the Biblical events.
Finally he leads us to the goal of the O.T.، i.e.، to the Lord Jesus Christ، and says: “When the church puts all the books of the O.T. in what we call the Bible، it legislates its right of being herself، the New Israel and the only inheritor of the divine promises.

arArabic
انتقل إلى أعلى