18: 18-27 – الرجل الغني

في ذلك الزمان دنا إلى يسوع إنسان مجرباً له وقائلاً: “18…«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 19 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. 20 أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 21 فَقَالَ:«هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». 22 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذلِكَ قَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ: بعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». 23 فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً. 24 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 لأَنَّ دُخُولَ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». 26 فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَقَالَ:«غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ».

 

 

الشرح عن نشرة رعيتي:

اعتقد الربانيون أن الغنى نعمة من لدن الله وان حُسْن استعماله زينة للإنسان البار. قد يُصاب الإنسان بالفقر قصاصاً بسبب خطيئة ما، أو ليمتحن الله إخلاصه. بالرغم من هذا المعتقد، علّمت الديانة اليهودية أيضاً أن في الغنى أخطاراً ومغريات مضرة، وان الإنسان الفقير يمكن أن يتحلى بالحرية الداخلية والمواهب الروحية.

“ايها المعلم الصالح ماذا اعمل لأرث الحياة الأبدية؟”. ينطلق هذا الرجل من المعتقد اليهودي بأن الحياة الأبدية تُكتسب بالأعمال. الحياة الأبدية أي الحياة في ملكوت الله في الدهر الآتي هي هبة من الله مجانية موهوبة إلى المؤمن في يسوع المسيح. ما من إنسان أهل لنوالها، أفاضها الله علينا عندما تجسد وافتدانا بنفسه على الصليب. عندها أصبحت في متناول الجميع لان الله هكذا ارتضى. يأتي التشديد على حفظ وصايا الله ليس أننا بها ننال الحياة الأبدية بل بها “نثبت في الله والله يثبت فينا” (انظر 1يوحنا 3: 24) أي بحفظها نجذب أنظار الله فلا نغيب عن ذهنه ونصبح محط أنظاره باسطين أنفسنا مسرحاً لحياته التي لا تفنى.

“ما صالح إلا واحد وهو الله”. هذا الكلام لا يعني أن الرب يسوع يفتقر إلى الصلاح أو انه اقل صلاحاً من الآب. الهدف من هذا الكلام توجيه أنظار الرجل إلى أن الله نفسه نبع الصلاح. وكأني بالرب يسوع قائلاً للرجل: الله هو الصلاح المطلق وها أنت تدعوني صالحاً فهل ترى الله في؟

“أنت تعرف الوصايا”. يخبرنا الإنجيلي انه رئيس، فعلى الأرجح هو احد أعضاء الجسم الإداري في احد المجامع اليهودية. إذاً هو بالطبع يعرف الوصايا وقد حفظها جيداً ويشهد على هذا مركزه المرموق في المجمع.

“واحدة تعوزك بعد، بع كل شيء ووزعه على المساكين فيكون لك كنز في السماء”. يقول له الرب يسوع: بدد ما تملك لوجه الله، اجعل من الله متكلك عوض المال، ارتمِ في أحضان الله جاعلا إياه همّك الوحيد، وعندها يكون لك كنزٌ في السماء أي أن الله نفسه يكون كنزك.

“تعال اتبعني”. يدعوه الرب ليتبعه ويصير تلميذاً كما دعا التلاميذ قبله. لا شك أن دعوة يسوع رسمت أمام وجهه حياة من التجوال الدائم والفاقة.

“حزن لأنه كان غنياً جداً”. حزن لأنه كان متعلقاً بماله حتى التنفس. بدا المال وكأنه اعز عليه من نفسه. لم يبدِ أي استعداد ليبذله لوجه الله. المال بالنسبة له اضمن من الله وأثمن.

“ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله”. يرد عند الإنجيلي مرقس مثل هذه الآية القول الآتي: “ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله” (مرقس 10 :24). لماذا أصبح المال عقبة أمام من يبتغي ملكوت الله؟ يعطي الرب يسوع للمال صفة السيد الموازي لله نفسه إذ يقول: “لا يقدر احد أن يخدم سيدين… لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (متى 6 :24 ولوقا 16 :13). الرسول بولس يقول أن “محبة المال هي أصل لكل الشرور” (1تيموثاوس 6: 10).

طغى على أذهان الناس أن المال يضمن وجودهم وعنفوانهم وكبرياءهم وسلطتهم، هو مثبت كيانهم وحاميهم ومتكلهم الأول. المال سلطة، ورغبة التسلط احتقار للآخر المخلوق على صورة الله ومثاله. هكذا محبة المال تقطع الوصال بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والله، هي عقبة مزدوجة تعزل الإنسان عن الوجود، فيتهيأ له انه سيدٌ على الموجودات في حين انه رهن للمال عابدٌ للوثن باذلٌ في سبيله كل طاقاته.

دخول الجمل في ثقب الإبرة أمر مستحيل. المستحيل أسهل من دخول المتكل على الأموال إلى ملكوت السموات.

“ما لا يُستطاع عند الناس مستطاع عند الله”. لا يقول الرب يسوع أن من الممكن بواسطة معجزة إلهية دخول غني متشبث بغناه إلى ملكوت الله، بل أن الله يجعل من الممكن ما يراه الناس غير ممكن وهو أن ينبذ غني غناه مهما عظم، وهكذا يجعل الله الخلاص ممكناً.

لا يريد الرب يسوع أن يدين الأغنياء بسبب غناهم ولا يريد أن يؤكد أن الله أغلق أبواب الملكوت في وجههم. الرب يسوع يُنذر إلى الخطر المحدق بمن هو أسير ماله إذ هو أمام خطر فقدان الحياة الأبدية. لم يعلّم يسوع أن الفقير سيدخل ملكوت السموات تلقائياً بسبب فقره، وان الغني سوف يفقده بسبب غناه. الغنى حاجزٌ أمام الملكوت على الإنسان أن يتخطاه هادماً إياه.

 

الشرح عن نشرة مطرانية اللاذقية:

مرٌّة جديدة يُسأل الربُ عن الحياة!… كلُّنا نعشق الحياة ونرغب ﺑﻬا، ونكره الموت ولا نشتاق إليه. لكن هل هذا يكفي؟ لننتبه! القضية ليست بهذه البساطة، فإن شئنا الحياة علينا أن نفهم الطرقَ المؤدية إليها وأن نتَّبِعها.

كمرحلةٍ أولى علينا أن نبدأ بحفظِ الوصايا، لأنها تروّض نفوسنا وتدرِّبُها في الارتقاء على درجات الحياة الروحية، ومن لا يستطيع على الأسهل لن يستطيع على الأصعب. جيدٌ يا أحبة أن نتساءل: هل نحن في هذا الزمن بعيدون عن الزنى والقتل والسرقة والكذب؟ وهل نحن قريبون من احترام الأهل ومحبتهم وعدم تركهم في شيخوختهم؟ الجواب يعرفه كلُّ واحدٍ منا وإن اختلفَ من إنسانٍ لآخر.

أما المرحلة الثانية فهي أبعد من الوصايا وأعمق منها، إﻧﻬا أن يعمل الإنسان شيئاً يجعل الله في نفوس الآخرين، أن نحبهم ونخدمهم ونغسل أقدامهم ونوزع من أموالنا بسخاءٍ غير متباخلين. لكن هذا الرجل بقي عند حدودٍ لم يشأ أن يتخطاها ليدخل في المحبة، حزِن لأن أشياء هذه الدنيا كانت تعرقله، فبادرنا السيد بكلامٍ صعب: “ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله، إنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيٌّ ملكوت الله”.أمرٌ بالغ الأهمية أن نفهم أن هذا الكلام ليس حُكماً قاسياً يُطلقه الله، بل هو مُصارحٌة من الرب لنا، يريد من خلالها أن نعرف حالتنا بوضوح والنتائج المنطقية المترتبة عليها. في الحياة قوانينٌ لا تش ّ ذ نقبلها كلنا، ألا نقبل كلُّنا أنه عسيرٌ على من يحمل فوق َ كتَفيه كيساً يزن 100 كغ أن يتسّلق الجبال أو حتى أن يسير بسرعة نحو الأمام؟! هكذا علينا أن نفهم أن كلَّ ما عندنا يعرقل صعودنا نحو المطلق الذي لا يُحَدّ.

من أراد الانطلاق إذاً عليه أن يرمي الأحمال ويدبّر أمواله بتوزيعها بحكمةٍ، متخلياً عن كلِّ عشقٍ وعن كلِّ انشغال، ومتكِّلاً على الله، ليتحقق قول السيد: “ما لا يُستطاع عند الناس مُستطاعٌ عند الله”، وسنختبر أننا نجد عند الله ما لا نجده عند الناس أي “الحياة”.

arArabic
انتقل إلى أعلى