08: 34-38، 09: 1 – اتباع يسوع

34 وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. 35 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. 36 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ 37 أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ 38 لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ».

9: 1 وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ».

الشرح، عن نشرة رعيتي

سأل الرب يسوع تلاميذه قائلا: “من تقولون اني انا. فأجاب بطرس وقال له انت المسيح” (مرقس 8 : 29)، عندها اعلن الرب لهم انه سيتألم ويُقتل وبعد ثلاثة ايام يقوم (انظر مرقس 8 : 31) والهدف من هذا هو اعطاء الصورة الحقيقية للمسيح وإبعاد المعتقد السائد بأن المسيح هو ملك يهودي قومي ذو مجد أرضي.ان يكون يسوع هو المسيح يُترجم بالآلام وتتجلى بالصليب والقيامة. يُعرف يسوع مسيحا في سياق آلامه وتنشأ العلاقة به عند الجلجلة، لذلك قال للجمع مع التلاميذ “من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”.

” فليكفر بنفسه ويحمل صليبه”. الصليب ليس شعارا اخترعه يسوع، وجده في صميم الانسانية واتخذه على نفسه كما اتخذ الانسانية نفسها. الحقيقة التي اعتلنت بآلام يسوع هي ان الانسانية في مصلوبية منذ السقوط في الخطيئة. هذه الحقيقة تضعك امام قرار حاسم، اما ان ترتضي صليبك ورفعك عليه جاعلا آلامك مسرحا ليسوع تابعا اياه الى القيامة، واما ان تنوء تحت ثقل الخطيئة منقادا الى الموت.

خطيئة الانسان العظمى هي ان يجعل نفسه محور الوجود، يجعل نفسه قطبا وكل شيء ينساب اليه، لذلك يقول الرب يسوع “فليكفر بنفسه”. الكفر بالنفس هو قمع “الأنا”، هو ان تعي انك واحد مع الكل وليس الكل بالكل، ان تعي ان مواهبك وإمكانياتك وقدراتك وممتلكاتك ليست امتيازا بل مسؤولية ملقاة على عاتقك. مَن زهد بنفسه كفّ عن تسخير كل شيء لمصلحته وسلك بحسب قول الرسول بولس “مع المسيح صُلبتُ فأحيا لا انا بل المسيح يحيا فيّ. وما لي من الحياة في الجسد انا أحياه في إيمان ابن الله الذي أحبني وبذل نفسه عني”. اذاً محور الحياة هو البذل والعطاء والتضحية والمحبة وهذا بالضرورة الاتجاه المعاكس بالكلية لحركية “الأنا”.

” من أجلي ومن أجل الإنجيل” الرب يسوع هو إطار الحياة الحق، كل سعي لتثبيت الحياة بمعزل عن يسوع يقود بالضرورة الى الهلاك، هكذا “من أراد ان يخلص نفسه يهلكها”، اي من التجأ الى الكيانات الفانية ليثبّت حياته فني بفنائها. أما من أفنى نفسه مندفعا بمجمل طاقاته تابعا يسوع في نهجه عاملا بالإنجيل وللإنجيل فقد وضع حياته في عهدة يسوع ليستردها في اليوم الأخير حياةً أبدية لا تنتهي.

” ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟” بالطبع لا شيء. “أم ماذا يُعطي الانسان فداء عن نفسه؟” يتنازل بالضرورة عن العالم كله. لكن في اليوم الأخير عندما يأتي “ابن البشر مع الملائكة القديسين” ويحاسب الناس، لن يجد الانسان الملتصق بالعالم ما يفدي به نفسه لأن العالم الساقط سيزول بزوال الخطيئة، عندها يقف الانسان عاريا بالكلية امام الله. يسوع فادينا وهو يتشفع لنا امام الله الآب، هو رجاؤنا الاول والاخير فمَن استحى به وحجبه ناكرا اياه “في هذا الجيل الفاسق الخاطئ” فقد رجاءه.

” ان قوما من القائمين ههنا” عَنى الرب يسوع مجموعة من سامعيه والأرجح تلاميذه. الملكوت حاضر بيسوع ولكنه ما زال محجوبا عن الأنظار وهذا يؤكده النص الذي يلي هذه الآية مباشرة إذ يتحدّث عن تجلّي الرب يسوع امام بعض من تلاميذه (انظر مرقس 9 : 2 – 8). ان يأتي الملكوت بقوة يعني ان تسود شريعته وان يسري فعلها في الوجود وهذا تمَّ بالصليب والقيامة إذ بهما غُلب الموت. التلاميذ عاينوا الرب بعد القيامة ظافرا على الموت فتيقنوا ان الملكوت اجتاح الوجود.

 

الشرح، عن نشرة مطرانية اللاذقية

تساؤلات حول المقطع الانجيلي:

1- لماذا قال الرب “من أراد”؟

الرب لم يسلب للحظة واحدة حرية الإنسان حتى في أمر الخلاص ومنذ لحظة خلقه في الفردوس. قال له افعل ما تشاء لكن هذه الشجرة لا تأكل منها. هو لم يضع الشجرة في سور ومنع الإنسان بشكل فعلي من الاقتراب منها لكنه أعطاه الحرية أن يأكل أو لا، أن يموت أو يحيا. وهنا يتابع السيد في ممارسة الحرية مع أبنائه. فالمسيحية ديانة الحرية بلا منازع. لاتفرض على الإنسان أن يتبع يسوع بل تدعو فقط إلى ذلك.

2- ما هي شروط اتباع يسوع؟

إن شرط اتباع يسوع كما ورد في الإنجيل هو إنكار النفس وحمل الصليب على الكتفين. انكار النفس يعني إماتة الرغبة الطبيعية للأنا من أجل الحياة والمظاهر التي فيها. إنكار النفس يعني ألا يبقى الإنسان منتمياً إلى نفسه، وأن يتبع يسوع في طريق الصليب والآلام. لاتضيف العبارة “أن يحمل صليبه…” شرطاً جديداً، وكذلك العبارة التي تليها “ويتبعني”. إنها تشرح وتحدد العبارة الأولى لأن حرف العطف هنا “و” الذي يربط بين العبارات الثلاث هو للتفسير.

3- ماذا تعني كلمة نفس في عبارة “وخسر نفسه”؟

إن كلمة “نفس” المستعملة هنا تحمل معنى الحياة كما ترد في الكتاب المقدس وليس المعنى الفلسفي للعنصر اللامادي الموجود في الانسان. بهذا المعنى ُتستعمل كلمة “نفس” في كل العهد الجديد. إن إنقاذ الحياة والحفاظ عليها في هذا العالم يشكل اهتماماً طبيعياً للانسان لكن الحياة، الحياة الحّقة، نربحها عن طريق الصليب أي عن طريق الآلام، وهذا يتناقض مع منطق عالمنا الحاضر.

4- من هَم القوم الذين لا يذوقون الموت؟

هناك تفاسير كثيرة وإذ أراد الرب أن يُدخل تلاميذه إلى الملكوت بطريقة ملموسة سمح لثلاثة من تلاميذه أن ينعموا بتجليه ليختبروا لحظات من الحياة الملكوتية الأخروية. فلعله قصد بهؤلاء القوم التلاميذ الثلاثة. إذ جاء الحديث عن التجلي بعد هذا القول مباشرة، ولعله قصد بالقوم التلاميذ الذين رأوا ملكوت الّله يُعلن بين شعوب الأمم. ولعلهم الذين عاينوا السماء مثل القديس بولس الرسول.

5- ماذا يعني مجيء ملكوت الّله بقوة؟

يربط آباء الكنيسة هذه الآية والنبوءة التي فيها إمّا بالحدث الذي يلي وهو تجّلي يسوع أمام ثلاثة من تلاميذه، إمّا بالقيامة والصعود، إما بنزول الروح القدس في العنصرة وإمّا بخراب أورشليم. على كل حال يربطون الآية بشكل وثيق بمجيء ملكوت الّله بقوة إلى الكنيسة. طبعاً ليس بمعنى التوحيد الكامل بين الحقيقتين (السماوية والأرضية) بل بمعنى أنه في الكنيسة التي يؤسسها يسوع على الأرض. يتذوق المؤمن منذ اليوم خيرات ملكوت الّله الآتي. أما عن العبارة “بقوة” فيقولون إنها تشير إلى إعلانات الروح القدس النبوية.

في معاني الإنجيل:

“من أرادَ أن يتبَعني فليكفِر بنفسه ويحمل صليبَه ويتبَعني…”، في هذه الأقوال يُشير الرب إلى شروط إتباعه وإلى النتائج المترتبة على ذلك، إنه يكشف “صليب التلميذ الحقيقي” الذي يسير في العالم -مثل معلِّمه- على طريق الآلام التي تقود إلى اﻟﻤﺠد. أيها الأحباء، أن يُنكرَ الإنسان نفسَه ويحم َ ل صليبَه، يعني أن يتَّخذ قرارات ويتصرف في حياته بطريقةٍ تناقضُ أنانيَّتَه وجبروتَه، وتناقضُ تيَّارَ العالم الجارف في كل شيء (الموضة، حب المال، حب التسلُّط، الاستغلال، الانحلال ا ُ لخُلقي…) وأن يقبل الألم والصليب والصبر كلِّ يوم وعلى كلِّ شيء. الكثيرون منَّا يريدون أن يتبعوا الرب، وقد يعبِّرون عن ذلك باﻟﻤﺠيء إلى الكنيسة، ولكن كثيراً ما نكون كبقية الأمم، أي نحتسب أنه يكفي أن نتمِّم الطقوس أو نقدِّم إحساناً نكفِّر به عن ذنوبنا. نظن أن القضية هي قضيُة مراسم أو إشارات مع صلوات وإنشاد، وهذه أمور لا تكلِّفنا جهداً كبيراً.ولكن يسوع يطلب أكثر من ذلك، إنه يريد تحوي ً لا كلِّياً للكيان وتسليماً للنفس إليه، يريد أن يغيِّرَ حياتنا من جذورها وأن يقتلع أصل الشر وجذور الخطيئة من النفس البشرية. بكلامٍ آخر يسوعُ يريد أن يحرِّرَنا من ذواتنا من أهوائنا من عبوديتنا لعاداتنا ولخطايانا، وهذا هو الصليب الداخلي والحقيقي، فإن أردنا أن نكون مسيحيين حقيقيين علينا أن نسعى إلى الحرية الداخلية بحيث نتطهر من أصول البغض والحقد والاشتهاء والطمع…، وهذا يكون عن طريق الصلاة والصوم والاعتراف الواعي والمستمرّ بضعفاتِ النفس وشرورها وتمرّدها، وبممارسة الفضيلة والمحبة. لأنه وبطريقةٍ تناقض منطق العالم، فإنَّ حياة النفس تُقتَنى عن طريق التضحية والبذل من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل، وليس من طريقٍ آخر، ومن أراد فليُجرِّب! سنواجه صعوبات كثيرة من اﻟﻤﺠتمع والعائلة ومن نفوسنا لأنَّ صراعنا هو مع هذا الإنسان العتيق الفاسد الكامن فينا والذي يستيقظ حيناً بعد حين ليقضي على الإنسان الإلهي ويُشوِّهَ صورة الرب التي خُلِقنا عليها. إن شئنا أن نقطف ثمار هذا العيد، فلنذكر صليب الرب ولنتذكَّر أننا دُعينا إلى حمله ليس معدناً نعلِّقه على صدورنا، ولكن صراعاً وجهاداً ضد الشرِّ والأنانية التي فينا، إلى أن يُزهِرَ الخيرُ وتُضيءَ شمعُة المحبة في قلوبنا.

رؤية تربوية !!!

يقول السيد المسيح في إنجيل اليوم: “فإن من أراد أن يخّلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخّلصها”

سحبت هذه الآية فكر كثير من رجال التربية الحديثة، في أبحاثهم عن تربية الأطفال، إذ كشفت لهم عن مفهوم الحب الوالدي الحق، فإنه لايستطيع أحد أن يخلص أولاده ما لم يهلك ذاته أو “الأنا”.

فإن كثيرن يحبون أنفسهم أو ذواتهم في أولادهم، يريدون أن يشكلوا أبناءهم حسب أهوائهم وميولهم وإشتياقهم هم، لا حسب فكر الأبناء ومواهبهم وإمكانياتهم. إنهم في الحقيقة يأسرون أولادهم في سجن “الذات” الذي يصعب على الوالدين أن يحرروا أبناءهم منه! ونحن نستطيع أن نقول بأننا إذ نطلب مع المسيح ننكر ذواتنا، لنعيش أعضاء أحياء في جسد المسيح، هنا لا نأسر أولادنا في “الأنا” إنما نشعر بهم كأشخاص وأعضاء معنا في الجسد الواحد، لهم شخصياتهم المستقلة ومواهبهم وطاقاتهم وإمكانياتهم التي يضرمها فيهم روح الّله القدوس نفسه، أما نحن فنخدمهم ونوجههم بالحب الحق بلا أنانية إذاً الصليب هو سرّ حياة كل عضو في حياته الخاصة، وفي علاقاته الأسرية، وفي علاقاته الكنسية والاجتماعية… إذ يعيش باذلاً في الرب لا يطلب لنفسه شيئاً فينال كل شيء.

انتقل إلى أعلى