Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” فماذا نقول أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ حاشا ” (رو1:6).

          يبدأ الرسول هنا بالحديث عن السلوك الأخلاقي أيضاً دون أن يكون قد أشار إليه من قبل ذلك حتى لا يبدو في نظر الكثيرين أنه مُزعج ومُحزن، لكنه الآن يتحدث عن هذا الموضوع بسبب النتيجة الطبيعية للمنهج الذي تبناه في حديثه. ويظهر بوضوح هذا التنوع في أسلوبه وطريقة كلامه، ويرجع هذا إلى رغبته في ألا تسبب رسالته امتعاضاً لدى الذين يتلقونها، ولهذا قال: ” ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئياً” [1] ، ولو إنه قد انتهج أسلوباً آخراً، لكان يبدو أمام هؤلاء بصورة أكثر قسوة. ولكن بعدما لجأ لهذا الأسلوب أظهر عظمة النعمة من حيث إنها شفت خطايا كثيرة وكبيرة، وقد بدا للحمقى أن هذا الكلام يمثل تحريضاً على ارتكاب الخطية (فإن كان قد بدا لهم أن النعمة ازدادت بسبب ارتكاب خطايا كثيرة فلنستمر في ارتكاب الخطية لتزداد النعمة) إذاً ولكي لا يقولوا هذا ولا حتى يلمحون له، لاحظ كيف أنه يُزيل التناقض أولاً بالنفي قائلاً “حاشا”، الأمر الذي اعتاد أن يفعله تجاه أولئك الذين يعترفون بما يتنافى مع الحقيقة، ثم بعد ذلك طرح فكراً لا يحتمل الخلاف.

          ما هو هذا الفكر؟ هو ما أشار إليه بقوله:

” نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها ؟ ” (رو2:6).

ما معنى “مُتنا”؟ يعني إما أننا جميعاً قد قبلنا الخطيئة وخضعنا لها كقرار اتخذناه، أو أننا قد صرنا أمواتاً بالنسبة للخطية لأننا آمنا واعتمدنا، وهو الأمر الذي نرجحه بالأكثر. هذا ما يُظهره الكلام الذي يأتي فيما بعد. ولكن ما معنى نحن الذين متنا عن الخطية؟ تعني أننا لا نخضع بعد للخطية على الإطلاق. لأن هذا هو ما صنعته المعمودية مرة واحدة، إذ أمتتنا من جهة الخطية، لكن ينبغي علينا فيما بعد أن نتمكن من الاستمرار في ذلك أي في حالة الموت عن الخطية من خلال جهادنا، وحتى لو كانت الخطية تفرض علينا في مرات عديدة أن نخضع لها، فيجب ألا يخضع أحد لها بعد، بل ينبغي أن يبقى ثابتاً غير متحرك تجاهها تماماً مثل الميت. وإن كان الرسول بولس يقول في موضع آخر إن الخطية ذاتها قد ماتت. فقد قال هذا لأنه أراد أن يُبيّن كيف أن الفضيلة تعد أمراً سهلاً، بينما هنا لأنه أراد أن يثير انتباه المستمع لرسالته، فتحدث عن فكرة الموت. ولأن هذا الذي طُرح لم يكن واضحاً فقد أخذ يفسره مرة أخرى ويتكلّم بصورة التأنيب والتوبيخ قائلاً:

” أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟” (رو3:6).

إذاً فإننا دفنا معه في المعمودية. ماذا تعني عبارة “اعتمدنا لموته؟” تعني أننا نحن أيضاً نموت كما مات هو، لأن الصليب هو المعمودية. فهذا الذي جازه المسيح، أي الصليب والقبر، يتحقق في المعمودية التي نُتممها، وإن لم يكن بنفس الطريقة. لأن المسيح مات بالجسد ودُفن، بينما نحن نجوز نفس الأمر بالنسبة للخطية. ولهذا لم يقل إننا قد ذقنا نفس الموت، بل قال “بشبه موته” [2] . لأن الموت يتم في المعمودية وفي الصليب، ولكن ليس بنفس الطريقة كما أنه من نوعين مختلفين. موت المسيح كان موتاً للجسد، لكن موتنا هو موت عن الخطية. وكما أن موت المسيح كان موتاً حقيقياً بالجسد، هكذا تماماً فإن موتنا في المعمودية هو موت حقيقي عن الخطية. لكن على الرغم من أنه موتاً حقيقياً، إلاّ أنه ينبغي علينا أيضاً أن نسلك بما يتفق والحياة الجديدة. ولهذا أضاف:

” حتى كما أُقيم المسيح بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة هذه الحياة” (رو4:6).

          لاحظ أنه يُشير هنا إلى موضوع القيامة بجانب الحديث عن الاهتمام بالسلوك اليومي في حياتنا. كيف؟ أتؤمن أن المسيح مات وقام؟ فإن كنت تؤمن بهذا، فيجب أن تؤمن بموتك أنت وبقيامتك أيضاً. فموتك يشبه موت المسيح، لأن موتك (في المعمودية) هو أيضاً صليب ودفن. إذاً فلو كنت قد اجتزت الموت والدفن، فبالأولى جداً ستجوز القيامة والحياة. لأنه طالما أن الأمر الأكبر قد اضمحل أي الخطية، فيجب ألا نشك بعد في أن الأمر الأصغر أي الموت قد بطل.

          6 ـ بيد أننا نترك التفكير في هذه الأمور لذهن المستمعين أولاً. وبينما يتجه الحديث نحو الأمور الخاصة بالدهر الآتي، نجد الرسول بولس يطالبنا بقيامة أخرى، أي السلوك وفق منهج الحياة الجديدة التي تُستعلن في الحياة الحاضرة بواسطة تغيير سلوكنا. لأنه عندما يصير الزاني عفيفَا، والطماع شفوقاً، والمتوحش هادئاً، حينئذ تتجلى تلك القيامة التي تسبق القيامة من الموت. وكيف حدثت القيامة؟ حدثت بموت الخطية، واستعلان البر، صارت القيامة حين اضمحلت الحياة القديمة وسادت الحياة الجديدة الملائكية. وعندما تسمع عن الحياة الجديدة يجب عليك أن تطلب التغيير وبإصرار وأيضاً أن تسعى نحو التحول الجذري. إلاّ أن ثمة إحساساً بالبكاء والتنهد العميق يتملكني، عندما أفكر في مقدار العفة التي يطلبها منا الرسول بولس، ومقارنتها بمدى اللامبالاة التي نحيا فيها، حيث إننا نعود بعد المعمودية إلى الأشياء العتيقة، نعود إلى الخلف إلى عبودية مصر ونتذكر الثوم بعدما أكلنا المن السماوي. كما أننا نشرع مرة أخرى في ممارسة الأشياء العتيقة بعد أن نكون قد أحرزنا تغييراً لمدة عشرة أو عشرين يوماً.

          ومن المؤكد أن الرسول بولس يطلب السلوك وفق منهج الحياة الجديدة لا لبضعة أيام، بل طوال أيام حياتنا. لكننا نعود مرة أخرى إلى سابق عهدنا في التفوه بكلام بذئ، ممهدين بذلك لعودة الأشياء العتيقة التي أوجدتها الخطايا، كل هذا بعدما دخلنا في الحياة الجديدة التي تأسست بالنعمة. إن محبة المال والعبودية للشهوات الجسدية، وبشكل عام كل خطية تُرتكب هي بالحقيقة التي تجعل من يرتكبها، يشيخ ” وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال” [3] . لأنه يستحيل أن يضعف الجسد بهذا القدر مع مرور الزمن ولا تضعف النفس وتسقط معه من كثرة الخطايا. لأن الخاطئ سيصل فيما بعد إلى أسوأ حالة من الإسفاف بعد سقوطه المتكرر وسيهذى بكلامه، تماماً مثل أولئك الذين شاخوا وصاروا يهذون أو يتحدثون بلا اتزان، فإن نفوسهم ستكون مملوءة بالحماقة والخبل الشديد والغفلة. لأنه بالحقيقة، هذا هو جوهر النفوس التي تخطئ.

          أما نفوس الأبرار فليست هكذا، بل هي متجددة ومملوءة بالحيوية، وتقيم دائماً في هذا العمر المزدهر، مستعدة بصفة دائمة لأية معركة وصراع، بينما نجد أن النفوس الخاطئة عندما تتعرض لهجوم حتى لو كان بسيطاً، تسقط على الفور وتنهار. وهذا ما أظهره النبي بقوله: ” كالعصافة التي تذريها الريح” [4] . هكذا فإن أولئك الذين يحيون في الخطية، ينساقون بسهولة هنا وهناك ويتأثرون بالجميع. لأنهم لا ينظرون بشكل صحيح، ولا يسمعون بانتباه، ولا يتكلمون بنقاوة بل يسيل لعابهم من أفواههم بكثرة. وليته كان لعاباً، فهذا لا يُعد أمراً شاذاً. بل أنهم يخرجون الآن من أفواههم كلاماً أكثر بذاءة من أية بذاءة أخرى، والأكثر فظاعة من كل هذا، أنهم لا يستطيعون أن يبصقوا لعاب هذا الكلام، لكنهم يجمعوه في أيديهم بصورة مشمئزة جداً، ويمضغوه مرة أخرى، لأنه ثقيل ويصعب إذابته. ربما تشعرون بالاشمئزاز من هذا الكلام. غير أنه يجب عليكم بالأولى أن تشعروا بالاشمئزاز من الفعل ذاته وليس من الكلام فقط. لأنه إن كان الكلام البذيء يدعو للاشمئزاز عندما يخرج من الفم، فبالأحرى جداً أن يدعو هذا الأمر للاشمئزاز عندما يحدث داخل النفس.

          هكذا كان الشاب الصغير [5] الذي بذّر ثروته في عيش مسرف، وانحدر إلى أسوأ الشرور، وكان أكثر مرضاً من أي إنسان مختل العقل ومن أي مريض. ولكن لأنه أراد العودة، صار فجأة جديداً بسبب رغبته الداخلية في التغيير. إذاً عندما قال: ” أقوم وأرجع إلى أبى” هذا القول جلب له كل الخيرات، أو من الأفضل أن نقول ليس مجرد القول هو ما جلب له الخيرات بل العمل الذي تبع هذا القول. لأنه لم يقل “سأرجع” ثم انتظر، لكنه قال “أرجع”، وبدأ خطوات الرجوع حيث إنه سلك في طريق العودة. هكذا ينبغي علينا نحن أيضاً أن نفعل هذا. حتى لو كنا قد رحلنا إلى بلد غريبة علينا أن نرجع إلى البيت الأبوي، ولا يجب أن نتردد في اتخاذ القرار بسبب طول الطريق. لأنه لو أردنا ذلك فإن العودة تصير أسهل وأسرع جداً، علينا فقط أن نهجر البلد الأجنبي والغريب. لأن هذه هي طبيعة الخطية، أنها تقودنا بعيداً عن بيت أبينا. إذاً فلنهجر الخطية لكي نرجع بسرعة إلى البيت الأبوي، لأن الأب يتسم بالعطف، وعندما نُغيّر من سلوكنا فلن يكون تكريمه لنا أقل من أولئك الذين يهنئون (داخل البيت)، بل سيكرّمنا أكثر، لأن الابن الضال قد كرَّمه أبوه أكثر جداً من المقيمين معه. خاصةً وأن الأب شعر بسعادة غامرة لأنه ربح ابنه مرة أخرى.

          وكيف قال أرجع؟ إنه لم يقل شيئاً سوى الآن أبدأ العودة، وكل شيء سيتحقق. وأنت أيضاً عليك أن تتوقف عن الشر ولا تذهب إلى كورة بعيدة. فإن فعلت هذا، فستكون قد حققت كل شيء. تماماً مثلما يحدث مع المرضى، فعدم تفاقم حالتهم المرضية يمكن أن يكون بداية لتحسن صحتهم، هذا ما يحدث أيضاً في حالة ارتكابنا الشرور. لا تذهب إلى أبعد من الحالة التي أنت فيها، وستنتهي حالة الخطية التي تحياها، فإن صنعت هذا لمدة يومين ستبتعد عن الشر في اليوم الثالث بأكثر سهولة، ثم بعد ذلك ستكرر هذا لثلاثة أيام، وستحاول أن تستمر لعشرة أيام، ثم لعشرين يوم، ثم لمائة يوم، ثم بعد ذلك كل حياتك. لأنه على قدر ما تتقدم في حياة الفضيلة، على قدر ما ترى الطريق بأكثر سهولة وستقف فوق القمة وستتمتع بخيرات وفيرة. لأنه حين عاد الابن الضال، أُقيمت الموائد على الفور وعزفت آلات الطرب والقيثارات وأُقيمت الاحتفالات لأجل عودته. والأب الذي كان ينبغي أن يعاقب هذا الابن الضال بسبب إنفاقه لثروته بإسراف وبسبب رحيله بعيداً جداً، لم يفعل شيئاً من هذا، بل عندما رآه شعر بالسعادة ولم يوبخه ولا حتى بالكلام أو من الأفضل أن نقول إنه لم يرد حتى مجرد أن يُذكّره بالأمور السابقة، لكنه خرج خارجاً وقبّله وذبح العجل المثمن وألبسه الحلة الأولى، وزيّنه بحلى كثيرة.

          7 ـ إذاً إن كنا نعرف هذه الأمثلة، فلنتشجع ولا نيأس. لأن الله لا يفرح عندما يُدعى سيداً، بل يفرح عندما يُدعى أباً، ولا يفرح عندما يملك عبداً، بقدر فرحه عندما يكون لديه ابناً. وهذا ما يريده بالأكثر. ولهذا تحديداً فإن الآب السماوي قد صنع كل شيء ولم يشفق على ابنه وحيد الجنس، لكي ننال نحن التبني، ولكي لا نحبه كسيد فقط، بل كأب. فإذا نجحنا في تحقيق ذلك فإنه يفتخر بنا، تماماً كما لو أن شخصاً قد نال مجداً، ثم يأتي ذاك الذي هو ليس في احتياج لشيء، ويُعلن افتخاره بهذا أمام الجميع. هذا ما صنعه في حالة إبراهيم قائلاً: ” أنا إله إبراهيم واسحق ويعقوب “، على الرغم من أنه كان ينبغي على العبيد أن يفتخروا بسيدهم، بيد أنه من الواضح الآن أن السيد هو الذي يفتخر بعبيده. ولذلك فهو يقول للقديس بطرس ” أتحبني أكثر من هؤلاء “ [6] . لكي يبرهن على أنه لا يطلب شيئاً آخراً سوى المحبة. ولهذا طلب من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، لكي يُظهر للجميع أنه كان محبوباً جداً لدى إبراهيم (لأن إبراهيم شرع على الفور في تنفيذ ما أمره به الله). إنه يطلب المحبة من الجميع بهذا القدر، لأنه أحب الجميع بدرجة فائقة. ولذلك قال للرسل: ” مَنْ أحب أباً أو أماً أكثر منى فلا يستحقني” [7] .

          ولذلك فهو يأمرنا بأن نضع أنفسنا التي تُعَّد أكثر ألفة ومحبة لدينا من أي شيء آخر، في المرتبة التالية لمحبتنا له، لأنه يريد أن نحبه بكل ما نملك من قوة. هكذا نحن أيضاً إن كانت العلاقة التي تربطنا بشخص ما ليست بهذا القدر من الألفة، فإننا لن نكون في حاجة إلى محبته، فإننا لا نحتاج كثيراً إلى محبته، حتى لو كان ذي شأن عظيم أو كان مشهوراً. لكن عندما نُحب شخصاً ما بحق وبقوة، حتى لو لم يكن له شأن كبير بل وكان صغيراً، فإننا نعتبر محبته لنا مجداً عظيماً ولهذا فإن ذاك (أي الابن) هو مستحق أن نبادله الحب ليس فقط بسبب ما جازه من آلام، بل لأنه دعى العار الذي جازه من أجلنا مجداً [8] . هذه الأمور المخجلة التي جازها تُدعى مجداً بسبب محبته فقط، بينما الأمور التي سنعاينها نحن من أجله يمكن أن تُدعى وبحق مجداً وهي كذلك بالفعل مجداً، ليس بسبب محبتنا فقط، بل بسبب عظمة وقيمة هذا الذي نترجاه من كل قلوبنا، فلنجوز المخاطر إذاً لأجله كما لو كنا نركض للحصول على تيجان عظيمة جداً، وعلينا ألا نعتبر الفقر أو حتى الموت نفسه شيئاً ثقيلاً أو مُحزناً، عندما نحتمله من أجله. فلو كنا حريصين ومُتيقظين فسنربح من وراء هذا الجهاد أموراً فائقة، بينما لو كنا غير متيقظين، فلن نربح أي شيء حسن.

          لكن احذر. هل يهددك أحد ويحاربك؟ إن فعل هذا فهو بذلك يُهيئك لكي تكون يقظاً ويعطيك الدافع لتكون متشبهاً بالله. لأنه إن أحببت ذاك الذي يفكر في أن يصنع بك شراً، ستكون متشبهاً بذاك الذي يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين. هل سلب أحد منك أموالاً؟ لو أنك تحتمله بشجاعة ستأخذ نفس الشيء الذي سيأخذه أولئك الذين أعطوا كل شيء للفقراء. لأن الرسول بولس يقول ” قبلتم سلب أموالكم بفرح عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السموات وباقياً” [9] . هل أساء إليك أحد واتهمك بشيء؟ فسواء كان ذلك حقيقة أم كذباً فيكون قد نسج لك أعظم تاج لو أنك احتملت هذه الإساءة بإختيارك. لأن المُسيء إلينا يُقدم لنا أجراً عظيماً، لأن الكتاب يقول ” طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلى كاذبين افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات” [10] . وهذا أيضاً الذي يقول أمور حقيقية يُفيدنا جداً، إن احتملنا ما يُقال باختيارنا. لأن الفريسي وهو يتكلّم بالحقيقة أساء إلى العشار، ولكن هذا الذي قيل، حوّل العشار إلى بار.

          ولماذا أشير إلى ما يحدث لكل واحد بشكل منفصل؟ فمن الممكن أن أشير إلى نجاح أيوب في اجتياز المصاعب الكثيرة، التي يمكننا أن نعرف تفاصيلها. ولهذا أيضاً قال الرسول بولس ” إن كان الله معنا فمن علينا” [11] ، وهذا يتفق مع حقيقة أنه عندما نجاهد فإننا نربح من خلال احتمالنا لتلك الأمور التي تُسبب لنا الآلام، ولكن عندما لا نبالي بأي شيء فإننا لا نصير أفضل حتى عن طريق الأمور التي تُفيدنا. أخبرني إذاً بماذا انتفع يهوذا من عشرته مع المسيح؟ ماذا كان يعني الناموس بالنسبة لليهود؟ وما هو الفردوس بالنسبة لآدم؟ ما هي مكانة موسى بالنسبة لمَن كانوا في البرية؟ أما نحن فإذ قد هجرنا كل شيء، ينبغي علينا أن نعتني بشيء واحد فقط وهي الطريقة التدبيرية التي سوف ننظم بها أمور حياتنا بشكل حسن. فلو أننا صنعنا هذا، لن يستطيع ولا الشيطان ذاته أن ينتصر علينا أبداً، بل إن هذا سيصبح بالأكثر لفائدتنا إذ يُهيئنا أن نكون مُتيقظين. هكذا شجع الرسول بولس أهل أفسس عندما أخبرهم بمدى وحشية المعاند.

          لكننا نتكاسل وننام ونغط في نوم عميق في اللحظة التي تنشب فيها حرب شديدة ضد عدو مثل هذا خبيث ومخادع. فإذا عرفنا أن هناك ثعبان يُعشش في فراشنا، فمن المؤكد أننا سنبذل قصارى جهدنا لنقتله، أما الآن فالذي يُعشش داخل نفوسنا هو الشيطان، ومع هذا نعتقد أننا لن نصاب بأذى ونبقى غير مبالين. ويرجع السبب في ذلك إلى أننا لا نراه بعيوننا الجسدية. إلاّ أنه ـ لهذا السبب بالذات ـ ينبغي بالأكثر أن نكون مُتيقظين وحريصين. لأنه يمكن للمرء أن يحترس بسهولة من العدو المرئي، أما من جهة العدو غير المرئي، فنحن لسنا على الدوام مُسلحين ضده، ولن نستطيع أن نتجنبه بسهولة لأنه لم يعتاد على أن يحارب مواجهة أو علناً، لأنه يفرض حصاره وبسرعة، وبينما يتظاهر بالصداقة، نجده ينفث فينا سم وحشيته. هكذا هيأ زوجة أيوب بعدما ارتدى قناع الرأفة، لكي يُعطيها تلك النصيحة الخبيثة [12] . وهكذا تملق مع آدم، مظهراً كيف أنه مهتم بحمايته وقال له: ” الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما “ [13] . وهكذا سقط يفتاح الجلعادي بحجة التقوى، إذ ذبح ابنته وقدم ذبيحة لا تتفق مع وصايا الناموس [14] . أرأيت أساليب العدو الخادعة؟ أرأيت حربه المتنوعة الأشكال؟ إذاً فلتكن حذراً في كل مكان وتسلّح بالأسلحة الروحية، وتعرّف على دسائسه بالتدقيق، حتى تكون مُتحصناً ولكي تنتصر عليه بسهولة. لأنه على هذا النحو انتصر الرسول بولس عليه لأنه كان يعرف كل هذه الأمور بمنتهي الدقة. ولهذا قال: ” لأننا لا نجهل أفكاره” [15] . إذاً فلنحاول أن نعرف وأن نتجنب سهامه، حتى عندما ننتصر عليه يُنادى علينا كمنتصرين في الحياة الحاضرة وحياة الدهر الآتي ونفوز بالخيرات الوفيرة بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة مع الآب والروح القدس من الآن وإلى الأبد آمين.


[1] رو15:15.

[2] رو5:6.

[3] عب13:8.

[4] مز4:1.

[5] يشير هنا إلى مثل الابن الضال (لو11:15ـ32).

[6] يو15:21.

[7] مت37:10.

[8] من أجلهم أنا أمجد ذاتى.

[9] عب34:10.

[10] مت11:5ـ12.

[11] رو31:8.

[12] لأن زوجة أيوب تكلمت بالسوء نحو زوجها قائلة ” أنت متمسك بعد بكمالك. بارك الله ومت ” (أيوب9:2).

[13] تك5:3.

[14] قض29:11ـ40.

[15] 2كو11:2.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى