05: 14 _19 – نور العالم وإكمال الناموس

النص:
14 أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، 15 وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. 16 فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.

17 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18 فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19 فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.

الشرح – عن نشرة رعيتي

يرِد هذا الفصل الإنجيلي في ما يسمى “موعظة الجبل” في إنجيل متى (الإصحاحات 5 – 7), وهو المقطع الثاني في هذه الموعظة بعد “التطوبيات” (5: 1 – 12). فيه نقطتان أساسيتان: الأولى تتعلق بالتلاميذ من حيث هم “نور العالم”, والثانية بوصايا الناموس.

استهل يسوع العظة بالتطويبات: “طوبى للمساكين بالروح … طوبى للودعاء”. بعد هذا يقول السيد: انتم ملح الأرض (نتيجة لحفظكم التطويبات). كذلك أنتم نور العالم. فإذا كنتم حقا نورا فلا بد ان يظهر نوركم. المستنير ينير سواه بالضرورة. فالمهم ليس ان يقف الناس عند نوركم ولكن “ان يمجدوا أباكم الذي في السموات”. أمام هذه الشرعة الأخلاقية التي أجعلها قاعدة حياتكم هناك سؤال يطرح نفسه طبيعيا. ما علاقة تعليمي بالتعليم السابق : الناموس والأنبياء؟ العبارة تدل على العهد القديم كله. عند اليهود الناموس (او الشريعة) هو آخر ما كشفه الله للناس، تعليم كامل للسلوك. يسوع لا يقبل هذا الموقف وهذا ما يراه كل قارئ لعظة الجبل.

“أنتم نور العالم”: المقصود هنا هم التلاميذ, أتباع يسوع. تتوضح صورة ” النور”, من حيث ارتباطها بالأعمال الصالحة, بشكل خاص في الآيتين التاليتين: “ولا يوقدون سراجا…”. ولكن, قبل ذلك, يذكر الإنجيلي صورة المدينة الواقعة على جبل, وهي لا تنطبق بالضرورة على ” الأعمال الصالحة”, بل على الشخص نفسه. لا تشير ” المدينة” هنا إلى مكان محدّد, كأورشليم مثلا, بل إلى مدينة يراها الناس من بعيد لأنها مشعّة بالنور. بهذا المعنى تشبه صورة المدينة الوقعة على جبل صورة السراج الذي على المنارة والذي يضيء ” لجميع الناس “.  من خلال هاتين الصورتين نفهم معنى قوله ” أنتم نور العالم “: أي أن يسوع يقول لتلاميذه إن العالم مظلم, وأن التلاميذ هم الذين يطردون هذه الظلمة.

يذكّرنا هذا الكلام بقول من كتاب إشعياء سبق متّى فأورده (في 4: 16 ) عن النور الذي يبصره الشعب الجالس في الظلمة. المقصود بالشعب الجالس في الظلمة هنا الناس الذين لا يعرفون الإله الحقيقي. النور هو يسوع المسيح الذي أتى إلى هذا الشعب ليعلّمه ويخلّصه من خطيئته. إذا أخذنا هذا بعين الاعتبار يمكننا أن نقول أن وظيفة التلاميذ بحسب مطلع فصلنا الإنجيلي, كوظيفة يسوع نفسه. كما أن يسوع هو النور الذي يبصره الجالسون في الظلمة, فالتلاميذ أيضا نور, أو ينبغي لهم أن يكونوا كذلك, لأنهم يحملون في تعليمهم ورسالتهم النور الحقيقي الذي هو يسوع المسيح نفسه.

لكنّ رسالة التلاميذ, بحسب متّى, لا تقوم فقط في التعليم, بل في ” العمل الصالح ” أيضا. لذلك يضيف “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة”. تُشير صيغة الأمر “فليضئْ” إلى أن الجماعة المسيحية, التي هي نور العالم, ينبغي أن تُظهر هذا النور حتى لا تصبح بلا معنى كسراج موضوع تحت مكيال لا يستفيد من نوره أحدٌ. ينتقل التشديد في هذه الآية من الأشخاص المخاطَبين, أي التلاميذ, إلى “أعمالهم الصالحة”. ليس ها الانتقال اختلافا في المعنى, ولكنه تشديد على الوجه الآخر لكون التلاميذ نور. هذا الوجه الآخر هو العمل الصالح, والعمل الصالح في اللغة الكتابية هو التصرف بمقتضى وصايا الله. والعمل عند متّى مهم, ذلك أن الإنسان في أعماله التي تبرزه ويحيا فيها. التلاميذ, وتاليا كل المسيحيين, يكونون نورا للعالم حين تشع أعمالهم الصالحة ويحفظون وصايا الله. كل هذا يعني أن عبارة ” نور العالم”, إلى جانب كونها تشير إلى التعليم الذي ينقله التلاميذ إلى العالم , تتحقق في ” الأعمال الصالحة”. أهمية هذه الفكرة تكمن في أن البشارة عند متّى بشارة بالكلمة والعمل. المبشر الحقيقي عنده ليس من ينقل التعليم فحسب, بل من يعمل بمقتضى هذا التعليم أيضا , أي بحسب مشيئة ” الآب الذي في السموات” (انظر الحديث عن الثمار الجيدة والثمار الرديئة في متّى 7: 15-20). لأعمال التلاميذ, وتاليا المسيحيين, وظيفة تبشيرية: الشهادة بالحياة والعمل وظيفة الجماعة كلها.  ولا معنى للبشارة بالكلمة أن لم يرافق هذه البشارة العمل الصالح. كل هذا غايته أن يتمجد الله,  أي أن تُطبَّق وصاياه ويرى الناس الذين في الخارج أن أتباعه يعملون بحسب مشيئته.

انطلاقا من الكلام عن النور والأعمال الصالحة ينتقل الإنجيلي إلى الحديث عن الناموس ووصاياه في السياق عينه. الناموس في الفكر اليهودي هو التعبير الأوضح عن مشيئة الله. متّى يستعمل هذه العبارة بهذا المعنى. لا يعني الناموس عنده الحرفَ بل وصية الله أو وصاياه. بهذا المعنى يقول يسوع” لا تظنوا أني أتيتُ لأحلَّ الناموس والأنبياء, أن لم آتِ لأحلّ لكن لأتمم”. إذا كانت وصايا الله ومشيئته معبَّراً عنها في الناموس, فيسوع لم يأتِ ليحلّ هذه الوصايا وينقض هذه المشيئة, بل ليتممها. لا تعني عبارة “يتمم” هنا إضافة شيء إلى شيء ناقص حتى يكمل, بل تحقيق هذا الشيء وإعطاؤه معنى أخيراً لا يُضاف إليه شيء. يتوضح هذا في أقوال يسوع التي تلي والتي تفسر الناموس وتقوده إلى معناه الحقيقي والأخير وهو محبة الله والقريب.

 ما جاء عند متى لا يعبّر بصورة كاملة عن موقف العهد الجديد من الناموس. هناك مواقف متكاملة ومنها ما كتبه بولس في رسالته الى اهل رومية ورسالته الى اهل غلاطية. اما هنا فيقول السيد: لا تظنوا اني أتيت لأحل الناموس والأنبياء. اني لم آت لأحل بل لأكمل. “لم آت لأحل” اي لأنقض او أبطل او أضع ناموسا آخر غير ناموس موسى. عند يسوع لا يحق لإنسان ان يتلاعب بناموس كتب بوحي من الله. لذلك وبّخ الرب الفريسيين لأنهم أوّلوا وصايا الله وفسروها بحسب ميولهم ومنفعتهم (انظر متى 15 : 3 – 6 و23 : 16 – 26).

“لكن لأتمم” اي لأذهب بالعهد القديم الى هدفه النهائي وهذا تحقق على الصليب عندما قدّم نفسه ذبيحة كانت هي إتماما لمقاصد الناموس بالمحبة المطلقة. “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك،  هذه هي الوصية الاولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (متى 22 : 36 – 40). المحبة لا تسقط ابداً (1 كورنثوس 13 : 8) حتى عند زوال السماء والأرض اي حتى عند نهاية العالم.

“فكل من يحل واحدة من هذه الوصايا الصغار ويعلّم الناس هكذا فإنه يُدعى صغيرا في ملكوت السموات”. كلام ضد الفريسيين الذين احصوا 613 وصية في كتب موسى الخمسة (المسماة الناموس) وكانوا يفرقون بين وصايا كبرى لا يجوز التهاون بها ووصايا صغرى ليست على الأهمية نفسها. قال الرب للفريسيين مرة: “لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم” (متى 15 : 3). وكان يشير الى خفضهم لوصية إكرام الوالدين. هو يريد تلميذه ان “يعمل ويعلّم”. يريد التنفيذ الكامل والتعليم الكامل.

طبعاً لم يبقِ الرب على كل أحكام الشريعة لأنه أعطى تفسيرا روحيا للشريعة. تبيّن لنا فكر يسوع  في ممارسة الكنيسة الاولى. انها لم تحافظ على الذبائح بعد ان صار هو الذبيحة الكاملة. كذلك لم يحافظ على الهيكل لأنه صار هو هيكل الله ولا على الختان رمز العهد القديم لأن رمز العهد الجديد صار المعمودية.

ولكن قبل ان تُنسخ هذه الأحكام ادخل يسوع البشرية بفهم أعمق للشريعة. ولهذا قال” : قد سمعتم انه قيل للقدماء  لا تقتل … واما انا فأقول لكم ان كل من يغضب على أخيه يكون مستوجب الحكم”. “سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن واما انا فأقول لكم: من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر ايضا”. “سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك واما انا فأقول لكم أحبوا أعداءكم”. لم يبطل الرب بهذا الشريعة ولكنه ذهب بها الى ما كان القصد منها أعني المحبة. يجب ان تذهبوا الى العمق حيث تنبت الشريعة الأخلاقية. المسيح هو الذي أعطى الناموس قديما وهو الآن يفسرّه بما يتجاوزه الى الحب.

“مَن نقضَ إحدى هذه الوصايا الصغرى….”؛ في هذه الآية حديث موجَّه ضدّ الفريسيين الذين يتهمهم يسوع في إنجيل متّى بأنهم يعرفون الناموس ووصايا الله ويعلّمونه ولكنهم لا يعملون به, مناقضين نفسهم بنفسهم. هؤلاء صغار في ملكوت السموات. أمّا من يعلّم هذه الوصايا ويعمل بها فهذا عظيم. هذه الفكرة تعيدنا إلى مطلع هذا الفصل الإنجيلي حيث الحديث عن ” النور” يربط البشارة والتعليم بالعمل الصالح ربطا لا ينفكّ.

نشرة رعيتي
الأحد 18 تموز 1993
العدد 29

الشرح – عن نشرة مطرانية اللاذقية:

“أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينةٌ موضوعة على جبل”.

كما أن نور العالم ينير العالم، كذلك التلاميذ يشكلون نورَ العالم الروحاني.

في مفهوم العهد القديم تشير صورة النور إلى الله، إلى الناموس الإلهي، وإلى الشعب الإسرائيلي في علاقته مع الأمم.

في العهد الجديد، النور هو قبل كل شيء، المسيح الكلمة المتجسّد وامتداداً – كأعضاء جسد الكلمة – يشير النور إلى الرسل والتلاميذ بصورة عامة.

تلاميذ المسح هم النور، لأنّهم يرون نور ثابور غير المخلوق، ولديهم النعمة غير المخلوقة لأنّهم يسيرون في النور، وأعمالهم كّلها يمكن أن تظهر علانية في النور وتقود العالم إلى النور الأزلي. إن الاستنارة الآتية على يد التلاميذ تقود، وتدين وتخّلص العالم.

“فليُضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات”.

التلاميذ هم نور، ﺑﻬدف أن ينيروا الناس. لذلك لا يستطيعون أن يخفوا ميزﺗﻬم هذه ولا أن يكتفوا بديانة نقيّة داخليّة.

ليست المسيحيّة مسألًة شخصيّة، بقدر ما هي مسألُة خدمة عامة، بشارة حماسيّة بروح التضحية. “لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئتُ لأنقض بل لأكمّل”.

من خلال هذه الآية يبدأ الربّ تعليمه حول موضوع سوف يخلق مشكلة في الكنيسة الأولى، موضوع الناموس الموسويّ، هل هو بعدُ قائمٌ ونافذ؟ وما هي أهميّته في الكنيسة؟

“لقد أتم الربّ أقوال الأنبياء… كما طبّق هو نفسه بطريقةٍ ما الناموس دون أن يتجاوزه بشيء، ومن جهة ثانية أضاف عليه ما كان فيه ناقصاً”، أو كما يقول الآباء “كل ما أملاه الناموس رمزيّاً (ظّلياً) رسمه الربّ بصورةٍ كاملة”. الناموس (العهد القديم) لا يأخذ معناه الحقيقي، لا يكتمل إلا بالمسيح.

“فإنّي الحقّ أقول لكم، إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحدٌ أو نقطٌة من الناموس حتّى يكون الكل”.

الناموس المقصود في هذه الآية هو الناموس الجديد، المكتمل بالمسيح. هذا الناموس يبقى حتّى ﻧﻬاية العالم. لذلك كل مَنْ لا يبالي بناموس المسيح، ويعّلم الناس أن يزودوه متمسّكاً بالحرف القديم وبالتفسير اليهوديّ له، سوف يُقصى عن ملكوت الله، لأنه ازدرى بوصايا الرب.

نشرة مطرانية اللاذقية
17 / 7 / 2005
العدد: 27

arArabic
انتقل إلى أعلى