Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

1  ” فماذا. ما يطلبه إسرائيل لم ينله؟ ولكن المختارون نالوه. واما الباقون فتقسوا ” (رو7:11).

          قال الرسول بولس إن الله لم يُبعد شعبه بعيداً عنه، ولكي يُظهر كيف أنه لم يرفضه، لجأ مرة أخرى إلى الأنبياء. وبعدما أعلن مع هؤلاء، أن الجزء الأكبر من اليهود قد هلكوا، ولكي لا يظهر أيضاً أنه يعبر عن الإدانة بشكل شخصي، وأنه يتعمد أن يجعل كلامه قاسياً، ويتوجه نحوهم كعدو، فإنه يلجأ إلى داود وإشعياء، قائلاً:

” كما هو مكتوب وأعطاهم الله روح سبات ” (رو8:11).

          لكن من الأفضل أن نبدأ الحديث من الأمور القديمة. لأنه بعدما قال الأمور التي تتعلق بإيليا، وبعدما أظهر ماهية النعمة، أضاف ” فماذا ما يطلبه إسرائيل لم ينله “؟ إلاّ أن هذا لا يقوله إنسان يسأل، بل إنسان يُدين. لأنه يتحدث لنفسه، إن اليهودي يصارع من أجل طلب البر، الذي لا يريد أن يأخذه. ثم بعد ذلك يحرمهم أيضاً من الصفح. مُظهراً جحودهم بالمقارنة بهؤلاء الذين نالوا البر، قائلاً: “ولكن المختارون نالوه”. وهؤلاء المختارون قد أدانوا أولئك الجاحدين. هذا ما قاله المسيح له المجد بالضبط ” فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناءكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم “ [1] .

          إذاً لكي لا يتهم أحداً طبيعة الشيء، بل يُدين رغبتهم، فهو يُشير أيضاً إلى أولئك الذين نالوه (أي البر). ولهذا يستخدم الكلمة بتشديد كبير جداً، لكي يُظهر نعمة الله، ويُظهر محاولتهم أيضاً. وبالطبع فهو لا يريد أن يُبطل حرية الإرادة، لذلك قال نالوه، بل لكي يُعلن أيضاً عن مقدار الخيرات أو النعم، وأن الجزء الأكبر مرتبط بالنعمة، وليس الكل. خاصةً وأننا اعتدنا أن نقول، إن فلاناً نال، وفلاناً حقق، عندما يكون الأمر متعلقاً بربح كبير جداً. إن الجزء الأكبر لم يتحقق بجهد إنساني، لكن بالعطية الإلهية. ” أم الباقون فتقسوا “. انتبه متى تجرأ على الحديث عن رفض الباقين. لأنه تكلم عن الرفض من قبل حين عرض للأنبياء كديانيين. بل هو نفسه هنا، يُعبر عن رأيه. ولكنه لا يكتفي هنا أيضاً يعرض وجهة نظره، بل يُقدم إشعياء النبي لأنه بعدما قال “تقسوا” أضاف ” كما هو مكتوب أعطاهم الله روح سبات “.

          ومن أين أتت هذه القسوة؟ لقد أورد الأسباب لاحقاً، وحوّل كل شيء ضدهم، مبيّناً أنهم قبلوا هذا السبات بسبب منازعات باطلة، لكنه يُشير إليها الآن. لأنه عندما يقول: ” وعيوناً حتى لا يبصروا وآذاناً حتى لا يسمعوا “، فإنه لا يدين شيئاً، سوى رغبتهم في النزاع. لأنهم بالرغم من أن لهم عيوناً لكي يروا المعجزات، وآذاناً ليسمعوا كل التعاليم المدهشة، فإنهم لم يستخدموا أياً من هذه الأمور كما ينبغي. وكلمة “أعطى” هنا لا تعني العمل، بل الرضا أو القبول. وكلمة “سبات” هنا، هي تعني أيضاً أسوأ ما في النفس، والذي هو عدم القابلية للشفاء، والجمود. كذلك فإن داود النبي يقول في موضع آخر  ” لكي تترنم لك روحي ولا تسكت “ [2] . أي لن أنتقل أو أتحول. لأنه تماماً كما أن ذاك الذي تعمق في التقوى لا يستطيع ان ينتقل عنها بسهولة، هكذا من تعمق في الشر، لن يتحول عنه بسهولة. إذاً العمق ما هو إلاّ أن يثبت المرء في مكان ما، وأن يبقى راسخاً فيه. ولكي يعلن كيف أن رغبتهم غير قابلة للشفاء، وكم يصعب تغييرها، قال “روح سبات”.

          2  بعد ذلك، ولكي يُظهر أنهم سيعاقبون بأشد العقاب عن عدم الإيمان هذا، فإنه يعرض مرة أخرى للنبي الذي يُهدد بكل هذه الأمور التي تحققت واكتملت،

” لتصر مائدتهم فخاً وقنصاً وعثرة لتُظلم أعينهم لكي لا يبصروا ولتحن ظهورهم كل حين ” (رو11: 9-10).

          لتتحول وتتحطم كل المتع والخيرات، وليهزموا بسهولة من الجميع. ولكي يُعلن أنهم يدانون من أجل خطاياهم، عندما يعانون من هذه الأمور، أضاف ” ومجازاة لهم”. ” لتظلم أعينهم كي لا يبصروا ولتحن ظهورهم في كل حين “. إذاً هل تحتاج هذه الأمور لتفسير معين، أليست واضحة لدى أكثر الناس غباءاً؟ وقبل كلامنا عن هذا الشأن، فإن عاقبة الأمور تثبت وتؤكد ما قيل. إذاً متى صار من السهل هزيمتهم بهذا القدر؟ متى صاروا خانعين؟ متى انحنت ظهورهم إلى هذا الحد؟ متى عانوا مثل هذه العبودية؟ والأكثر من هذا، أنه لن يوجد خلاص من هذه المآسي، الأمر الذي أشار إليه النبي. لأنه لم يقل فقط ” لتحن ظهورهم ” بل قال أيضاً ” كل حين “.

          لكن إن كنت أيها اليهودي تنازع حول النهاية، فلتعرف الأمور الحاضرة، عن طريق الأمور السابقة. لقد نزلت إلى مصر، ومرت مائتي عام، والله خلصك من تلك العبودية سريعاً، وكل هذا حدث، برغم من عدم تقواك، وممارستك لأسوأ أنواع الزنا. تحررت من مصر، وسجدت للعجل الذهبي، وضحيت بأبنائك للبعل (فاغور)، دنست الهيكل، ومارست كل أنواع الشرور، لم تعرف الطبيعة، والحدود، والوديان، والجبال، والمنابع، والأنهار. ملأت الحدائق بذبائح ملوثة، ذبحت أنبياء، هدمت مذابح، وأظهرت كل زنا وكل جحود بشكل مبالغ فيه. وعندما سلّمك إلى البابليين لمدة سبعين سنة، أعادك مرة أخرى إلى الحرية السابقة، اعادك إلى الهيكل والوطن، وإلى الشكل القديم من نظام الحكم، ومرة أخرى يعود الأنبياء وتعود نعمة الروح. وحتى في زمن السبي، لم يُترك، بل هناك كان دانيال، وحزقيال، وفي مصر كان إرميا، وفي البرية كان معك موسى. وبعد هذه الأمور أيضاً رجعت إلى الشرور السابقة، صرت مهووساً، وانتقلت إلى طريقة الحياة الوثنية في عصر أنطيوخوس الجاحد. لكن بعد ثلاثة سنوات أو أكثر بقليل، من استسلامكم لأنطيوخوس، أقمتم النُصب مع المكابيين مرة أخرى.

          أما الآن فلا يوجد شيئاً مثل هذا، لكن على العكس تماماً فقد حدث ما يُدهش له المرء للغاية، إذ الشر قد انقضى، بينما العقوبة تزايدت، ولا يوجد رجاء للتغيير. لأنه قد انقضى سبعون عاماً، أو مائة، أو مائتان فقط، بل ثلثمائة عام وأكثر بكثير، وليس في مقدور أحد أن يجد ظلال مثل هذا الرجاء. وقد حدث كل هذا دون أن تكونوا وثنيين، ولا فعلتم الأمور الأخرى التي تجرأتم على فعلها من قبل. إذاً ما هو السبب في ذلك؟ السبب هو أن الحقيقة حلت محل الرمز، والنعمة أبعدت الناموس بعيداً. هذه ما سبق وتنبأ به النبي منذ البداية، قائلاً: ” لتحن ظهورهم كل حين “. أرأيت مدى دقة النبوءة، كيف سبق وأنبأ بعدم الإيمان، وكشف عن النزاع وعن العقاب الذي سيتبع هذا، وأوضح الجحيم الأبدي؟ لأن كثيرين من الحمقى يتشككون فيما يختص بالدهر الآتي، ويريدون أن يروا هنا في هذه الحياة الحاضرة الأمور المستقبلية، والله قد أعطى من جهة الحاضر والمستقبل، الدليل على قدرته. فقد سما بأولئك الذين آمنوا من الأمم، أعلى من السماء، وهبط بأولئك الذين لم يؤمنوا من اليهود إلى عمق الهاوية، وسلّمهم إلى قيود الشر.

          3  بعدما بكّتهم بشدة، لعدم إيمانهم بتلك الأمور، وأيضاً بعدما تحدث عن تلك التي عانوها، والتي سوف يعانونها، فإنه يعزّيهم مرة أخرى بشان الأمور السابقة، قائلاً: ً:

” ألعلهم عثروا لكي يسقطوا. حاشا ” (رو11:11).

          عندما أظهر كيف أنهم مسئولون عن شرور كثيرة، فإنه قدّم التعزية. ولاحظ حكمة الرسول بولس. فهو يُشير للإدانة من قِبل الأنبياء، بينما التعزية يقدمها هو نفسه. لا يوجد من يعترض على أنهم ارتكبوا خطايا كبيرة، لكن لنرَ إن كان سقوطهم هو هكذا، حتى وإن كان سقوطاً فظيعاً وغير قابل للإصلاح، إلاّ إنه ليس كذلك. أرأيت كيف أنه يؤنّبهم مرة أخرى، وكيف أنه برجاء التعزية، يجعلهم مسئولين عن خطاياهم التي أقروا بإرتكابها؟ لكن لنرَ أية تعزية يقدّم لهم. فما هي هذه التعزية؟ هي أنه ” عندما يدخل ملؤ الأمم. هكذا سيخلص جميع إسرائيل ” أي زمن المجيء الثاني ونهاية العالم.

          وهو لم يقل هذا مباشرة، إذ أنه إتهمهم بشدة، وأضاف إتهامات إلى الإتهامات، ويقدم أنبياء بعد أنبياء يصرخون ضدهم، إشعياء وإيليا وداود، وموسى وهوشع، يصرخون مرة ومرتين ومرات عديدة، ولكي لا يسحقهم هكذا، ويقودهم إلى اليأس، فهو يحضهم على الرجوع إلى الإيمان. وأيضاً لكي لا يقود أولئك الذين آمنوا من الأمم إلى الافتخار، إذ أنهم يؤذون أنفسهم عندما يفتخرون في موضوع الإيمان. لذلك يُعزيهم مرة أخرى، قائلاً: ” بل بزلتهم صار الخلاص للأمم “. لكن ينبغي علينا ألا نسمع هذا الكلام بغير اكتراث، بل يجب أن نعرف رغبة وهدف قائله، وماذا أراد أن يُحقق؟ إنه الأمر الذي أترجى محبتكم أن تعرفوه. لأنه لو قبلنا الأمور السابقة بهذا الفكر، فلن نجد أية صعوبة في أي منها. إن محاولته آنذاك، كانت تهدف إلى أن يبعد الزهو أو الافتخار الذي كان من الممكن أن ينشأ لدى المؤمنين القادمين من الأمم. لأن هؤلاء كان ينبغي أن يبقوا في إيمان راسخ بأكثر ثبات، بعدما تعلموا أن يكونوا متواضعين. أما أولئك القادمين من اليهود، فبعدما يتخلصون من اليأس، يأتون برغبة أكثر إلى النعمة.

          فلننتبه إذاً إلى هذا الهدف، ولنستمع إلى كل ما يُقال في هذا الجزء. حسناً ماذا يقول؟ ومن أين يتضح أنهم لم يسقطوا بصورة لا تقبل الاصلاح، وأنهم لم يُرفَضوا في النهاية؟ يتضح هذا، مما حدث للأمم، لأنه يقول ” بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم “. وهذا الكلام لم ينادِ به الرسول بولس فقط، بل إن الأمثال التي ذُكرت في الأناجيل تقول نفس الشيء. لأن ذاك الذي صنع عرساً لابنه، وحدث أن رفض المدعوون الدعوة، دعا الذين هم في مُفترق الطرق [3] . وذاك الذي غرس كرماً، وحدث أن ذبح الكرامون الوارث، سلَّم الكرم لآخرين [4] . وبدون مثل قال عن الأمم ” لم أرسل إلاّ لخراف بيت إسرائيل الضالة “، ولإمرأة صرفة صيدا قال شيئاً أكثر من ذلك، قال: ” ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب “ [5] .

          هكذا تكلم ق. بولس أيضاً قائلاً لليهود الذين قاوموه: ” كان يجب أن تُكلّموا أنتم أولاً بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم “ [6] . ويتضح من كل هذا أن ترتيب كل هذه الأمور كان أن يأتي هؤلاء اليهود إلى الإيمان أولاً، ثم بعد ذلك يأتي الذين من الأمم. ولكن لأن اليهود لم يؤمنوا، فقد تغير هذا الترتيب، وتسبب عدم إيمانهم وخطيتهم في مجيء الأمم أولاً للخلاص. ولهذا يقول: ” بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم “. لكن إن كان يُشير إلى الحدث الذي سيحدث، كما لو كان قد حدث بالفعل، فلا تشك، لأنه يُريد أن يُعزي نفوسهم المجروحة. وما يقوله يعني الآتي: إن يسوع أتى لليهود، ولم يقبلوه على الرغم من أنه صنع معجزات لا حصر لها، بل وصلبوه. بعد ذلك جذب الأمم حتى تسبب الكرامة التي أعطيت للأمم، في تحريك مشاعرهم المتجمدة وتقنعهم بأن يأتوا إلى الإيمان، على الأقل بتأثير الغيرة من الآخرين. لأنه كان ينبغي على اليهود أن يقبلوا المسيح أولاً، ثم نأتي نحن الأمم بعدهم، ولهذا قال ق. بولس ” لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولاً ثم لليوناني” [7] ، لكن لأن هؤلاء اليهود ابتعدوا، دخل الأمم إلى الإيمان أولاً. أرأيت مقدار الكرامة التي ينسبها لهؤلاء (أي للأمم) في هذه الحياة الحاضرة أيضاً؟ أولاً أننا دُعينا، عندما رفض هؤلاء اليهود الدعوة. ثانياً من أجل هذا (أي من أجل أنهم رفضوا) دُعينا نحن، لا لكي نخلص نحن فقط، بل لكي يصير هؤلاء أفضل، عندما يغارون من خلاصنا. إذاً ماذا يقول؟ لو لم يكن اليهود هم السبب، هل ما كنا قد دعينا، وما كان لنا خلاص؟ ما كان سيدعونا قبل هؤلاء، لكن (كان سيدعونا) بحسب الترتيب الذي يجب أن يكون. لذلك عندما تكلم المسيح مع تلاميذه، لم يقل فقط، اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، بل قال ” اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” [8] ، أي يجب أن يذهبوا إلى خراف بني إسرائيل أولاً ثم بعد ذلك إلى خراف الأمم. والقديس بولس أيضاً لم يقل إنه كان يجب أن تُكلّموا بكلمة الله، بل قال ” كان يجب أن تُكلّموا أولاً بكلمة الله ” لكي يُبيّن أنه بعد الكلام بكلمة الله لليهود أولاً، بعد ذلك يجب أن يُكرز بالكلمة لنا نحن الأمم. وهذه الأمور قد حدثت وقيلت، لكي لا يكون لديهم حجة سمجة أو تافهة بأنه  قد تجاهلهم لعدم إيمانهم. إذاً فلأجل ذلك، وبرغم أن المسيح كان يعرف كل هذا مسبقاً، إلاّ أنه جاء أولاً لليهود.

4  ” فإن كانت زلتهم غنى للعالم ونقصانهم غنى للأمم فكم بالحرى ملؤهم” (رو12:11).

          إنه يتكلّم هنا برفق عن هؤلاء. لأنهم وإن أخطأوا آلاف المرات، فلن يخلّص الأمم إن لم يظهروا إيماناً، كما أنه من المؤكد أيضاً أن اليهود ما كانوا قد ضلوا لو لم يرفضوا الإيمان، ولو لم يتنازعوا فيما بينهم. لكن كما سبق وأشرت، أنه يُعزيهم، بينما هم محبطين، ويُعدّهم لمستوى أسمى، بألا يخافوا على خلاصهم، إن غيّروا رؤيتهم وآمنوا بالمسيح. إذاً إن كانوا عندما رفضوا، قد دُعوا إلى هذا المستوى، فكّر ما الذي سوف سيحدث حين يعودون. لكنه لم يقل هذا، أي أنه لم يقل عندما يعودوا. لأنه لم يقل كم بالحرى عودتهم، ولا تحوّلهم، ولا تمكّنهم من تحقيق شيء، لكنه قال ” كم بالحرى ملؤهم “، أي عندما سيحدث أن يأتوا جميعاً. هذا قاله، لكي يُظهر أن الأكثرية سترتبط عندئذٍ بنعمة الله، وعطية الله، بل بالحري كأنه يقول إنهم سيرتبطون بهذه النعمة.

” فإني أقول لكم أيها الأمم بما إني رسول للأمم أمجد خدمتى لعلي أغير أنسبائي وأُخلص أناساً منهم ” (رو11: 13-14).

          مرة أخرى يحاول أن ينفي عن نفسه أي شبهة سيئة. ومن الواضح أنه يوبَّخ المسيحيين الذين أتوا من الأمم، معلّماً إياهم أن يتضعوا في تصرفهم، بينما يثير اليهود رويداً رويداً، ويحاول أن يُحد وأن يُقلل من هلاكهم بهذا القدر الكبير، إلاّ أنه لم يجدهم جديرين بشيء بسبب طبيعة أوضاعهم. إذ كانوا يستحقون إدانة أكبر من التي ذكرها، لأن الأمور التي كانت مُعدة لهم، قد أخذها آخرون وإن كانوا في مرتبة أدنى منهم. ولهذا انتقل من الحديث عن اليهود، وذهب إلى المسيحيين الذين أتوا من الأمم، وبدأ يحصر حديثه فيهم، لأنه أراد أن يبرهن لهم، أنه يقول كل هذه الأمور، لكي يُعلّمهم أن يكونوا مُتضعين. لأنه يقول، إني أمتدحكم لأمرين، الأول لأنني تعهدت بخدمتكم، والثاني، لكي أُخلص آخرين بواسطتكم. ولم يقل اخوتي وأقاربي، لكن ” أنسبائي (حسب الجسد) “.

          ثم بعد ذلك، لكي يُظهر نزاعهم، لم يقل ربما أُقنع، لكنه قال ” لعلي أُغير .. وأخلّص ” ولم يتكلم هنا عن الجميع، بل عن “أناساً منهم”. كم كانوا قساة. لكنه بهذا التوبيخ يُظهر أيضاً الأمور المشرقة المختصة بالأمم، الذين قد صاروا سبباً لخلاص هؤلاء (اليهود). أي بينما صار اليهود دافعاً لخيرات كثيرة للأمم بسبب عدم إيمانهم، إلاّ أن أولئك الأمم صاروا سبباً لخلاص اليهود بسبب إيمانهم. وبناء على ذلك فمن الواضح أن الأمم لهم نفس الاستحقاق، بل وأسمى. إذاً ماذا يمكن أن تقول أيها اليهودي، حسناً ما الذي سوف تقوله، لو أننا نحن اليهود لم نرفض، لما دعيتم أيها الأمم؟ نفس الأمر يقوله المسيحي القادم من الأمم، لو لم أخلص أنا لما كانت لك غيرة نحو الخلاص؟ لكن إن كنت تريد أن تعرف الأمر الذي لأجله نحن أسمى، أقول لك لأنني آمنت، منحتك فرصة للخلاص في حين أنك حاربت الإيمان، فتنازلت لنا عن العبور إلى الإيمان قبلك.

          5  ثم بعد ذلك أيضاً، لأنه (أي ق. بولس) أدرك أنه أهانهم، كرر ما سبق قوله:

” لأنه إن كان رفضهم هو مصالحة العالم فماذا يكون اقتبالهم إلاّ حياة من الأموات ” (رو15:11).

          لكن هذا أيضاً قد أدان اليهود، طالما أن آخرين ربحوا بسبب خطاياهم بينما هم لم يستفيدوا مما حققه غيرهم. يصيغ الرسول كلامه بهذه الطريقة، وهو الأمر الذي قلته مرات عديدة حتى يحفظ هؤلاء الأمم في الإيمان، ويحث أولئك اليهود على قبول الإيمان. لأنه كما سبق وأشرت، لو أن اليهود كانوا قد رُفضوا مرات عديدة، ولو أن الأمم لم يقبلوا الإيمان، ما كان لليهود أن يخلصوا أبداً. لكن الرسول، يظهر عون ومساعدة للجزء الضعيف، ويساعد ذاك الذي يتألم. لكن لاحظ كيف أنه يمنحهم عوناً، معزياً هؤلاء بالكلام فقط: ” إن كان رفضهم هو مصالحة للعالم “. وأي علاقة لهذا باليهود؟ ” فماذا يكون اقتبالهم إلاّ حياة من الأموات؟ ” لكن هذا أيضاً لم ينفعهم في شيء، إن لم يصيروا مقبولين لدى الله بالإيمان.

          ما يقوله يعني الآتي: إن كان الله عندما غضب على هؤلاء اليهود، منح آخرين عطايا كثيرة جداً، حين تصالح معهم، فهل هناك شيء لم يقدمه؟ لكن كما أن قيامة الأموات لن تحدث بسبب انضمام هؤلاء اليهود، هكذا فإنه حتى خلاصنا الآن لن يتم بسببهم. هؤلاء اليهود رُفضوا بسبب حماقتهم، بينما نحن خَلُصنا بسبب إيماننا، وبسبب نعمة الله. لكن لا شيء من كل هذا، يمكن أن يُفيد هؤلاء اليهود، إن لم يُظهروا الإيمان اللائق. لكن بالإضافة إلى هذا الأسلوب الخاص به، فهو يوجَّه كلمته لمديح آخر، والذي ليس هو بالمديح، لكنه يبدو كذلك، ويحاكي الأطباء المتميزين، الذين يطمئنون المرضى كثيراً، بقدر ما تسمح به طبيعة المرض. إذاً ماذا يقول؟:

” وإن كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين. وإن كان الأصل مقدساً فكذلك الأغصان ” (رو16:11).

          هو هنا يقول إن إبراهيم، واسحق ويعقوب والأنبياء، والبطاركة، وكل هؤلاء الذين ابتهجوا في العهد القديم، هم الباكورة والأصل، بينما الأغصان هم أحفادهم الذين آمنوا.

ولأنه كان ضد فكرة أن كثيرين لم يؤمنوا، لاحظ كيف أنه يُحدد أو يحصر هذا الأمر أيضاً بقوله:

” فإن كان قد قُطع بعض الأغصان ” (رو17:11).

          قد قال قبلاً إن كثيرين هلكوا، وقليلين خلصوا، إذاً كيف تُشير هنا لهؤلاء الذين هلكوا بأنهم “بعض”، الأمر الذي يُشير إلى عدد قليل؟ الرسول هنا لا يناقض نفسه بنفسه، لكن ما يفعله هو أنه يحاول أن يُعالج وأن يُقوي الضعفاء. أرأيت كيف أنه في كل هذا الجزء، كما هو واضح يسعى نحو تحقيق هذا الهدف، أي أنه يُريد أن يُعزي هؤلاء اليهود؟ وإن رفضت هذا المنطق، فسيتبع هذا تناقضات كثيرة. لكن أرجو أن تنتبه إلى حكمته، كيف يبدو أنه يمتدحهم ويقصد تعزيتهم، إلاّ أنه يؤنبهم بطريقة غير مدركة، ويُبيّن أنه ليس لديهم ما يدافعوا به عن أنفسهم، من الأصل ومن الباكورة. أي فكّر أو تأمل في خبث الأغصان، حين تحاول أن تتخذ شكل الأصل المقدس، وكذلك العجين الشرير حين لا يتغير، رغم كون الباكورة مقدسة.

          يقول ” فإن كان قد قُطع بعض الأغصان ” ولكن الجزء الأكبر قد قُطع، هو هنا أراد أن يُعزيهم، وهو ما سبق وأشار إليه. ولهذا لم يُقدم الكلام باعتبار أنه صادر منه، بل من هؤلاء (أي من الأنبياء)، حتى يتمكن بذلك أن يقترب من اليهود بطريقة خفية، ولكي يُظهر أنهم قد فقدوا قرابتهم لإبراهيم لأن هذا هو ما أراد أن يقوله، إنه ليس لهم أي شيء مشترك مع هؤلاء الأنبياء. لأنه إن كان الأصل مقدس، إلاّ أن هؤلاء اليهود ليسوا قديسين، إذاً فهم بعيدون عن الأصل. وبعد ذلك، وبينما يبدو أنه يُعزى اليهودي، إلاّ أنه يوجَّه مرة أخرى نقداً للقادمين من الأمم. لأنه بعدما قال: ” فإن كان قد قطع بعض الأغصان” أضاف “وأنت زيتونة برية طُعمت فيها” لأنه بقدر ما يكون ذاك الذي يأتي من الأمم هو صغير القيمة، بقدر ما يحزن اليهودي بالأكثر، إذ ينظر أن الأممي يتمتع بكل ما كان لليهودي. أما بالنسبة للأممي فهو لا يخجل من تفاهته بهذا القدر الكبير، إذا ما قورن بالكرامة التي نالها بتحوّله عن طريق الإيمان. ولاحظ حكمة ق. بولس، لم يقل زُرعت أو غُرست لكنه قال “طُعمت”. فيجرح اليهودي مرة أخرى بهذا الأمر، ويُظهر أن القادم من الأمم هو فوق شجرة اليهودي، بينما ذلك اليهودي هو على الأرض. لهذا تحديداً لم يتوقف عند هذا الحد، ولا بعدما قال “طُعمت” توقف، برغم من أنه قد عبّر عن كل شيء بهذا التعبير، لكنه يُصّر على هذه الغبطة التي نالها الأممي، ويُزيد من ارتقائه قائلاً: ” فصرت شريكاً في أصل الزيتونة ودسمها “. ومن الواضح أنه وضعه، كإضافة، لكنه يُظهر أن الأممي لم يُصبه ضرر على الإطلاق، بل قد نال كل شيء، بنفس القدر الذي يناله الغصن الذي نبت من الأصل.

          ولكي لا تعتقد، وأنت تستمع إلى عبارة “وأنت .. طُعمت”، أن ذلك إقلال من قدر الأممي، مُقارناً إياه بالغصن المزروع، لاحظ كيف يُساويه بالأصل، قائلاً: ” فصرت شريكاً في أصل الزيتونة ودسمها ” أي أنه وصل إلى نفس الأصل النبيل، ونفس الطبيعة. ثم يُبكّته فيما بعد قائلاً:

” فلا تفتخر على الأغصان ” (رو18:11).

الواضح أنه يُعزي اليهودي، لكنه في نفس الوقت يُظهر قيمة الأممي التافهة، وخزيه الكبير. ولهذا لم يقل “لا تتباهي”، بل قال “لا تفتخر”، لا تفتخر في مواجهة اليهود، لكي لا يرفضوك، خاصةً وأنت موجود فوق شجرتهم، وتتمتع بما لديهم. أرأيت كيف يبدو أنه يُبكّت اليهود، لكنه يوبّخ هؤلاء الأمم؟ ” إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك يحمل “. إذاً ما هي العلاقة بين هذا، وبين الأغصان التي قُطعت؟ لا توجد أي علاقة. لأنه كما سبق وأشرت، من الواضح أنه يُشير إلى شجرة تين ضعيفة وذلك لأجل التعزية، ويتوجّه إلى ذاك القادم من الأمم، ويوجه له لطمة شديدة. لأنه بعدما قال “فلا تفتخر” وأنه “إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل”، فقد أظهر لليهودي أن كل ما حدث (أي إيمان الأمم) يدعو إلى الافتخار، وإن كان لا يجب أن يفتخروا (أي الأمم)، وفي نفس الوقت يدفعه (أي اليهودي) ويحثه على الإيمان، واضعاً إياه في وضع المدافع، ويبيّن له الضرر الذي أصابه، وأن ما لديه يمتلكه آخرون.

6  ” فستقول قُطعت الأغصان لأُطعم أنا ” (رو19:11).

          مرة أخرى يُبيّن عكس ما سبق، في شكل تباين، لكي يُظهر أن كل ما قيل في الجزء السابق مباشرةً، لم يذكره بدون سبب، بل لكي يجذبهم إلى جانبه. إذاً ليس بزلة اليهود، قد أتى الخلاص إلى الأمم، ولا بزلتهم صار الغنى للعالم، ولا لهذا قد خَلُصنا، أي لا لأنهم سقطوا، بل العكس هو ما حدث. ويُبيّن أن عناية الله بالأمم قد استُعلنت من قبل، وإن كان من الواضح أنه يعرض لهذه الأقوال بمعنى مختلف، وكل هذا الجزء يكتبه في شكل مفارقات، محرراً نفسه من شبهة العداء أو البغضة لليهود، ويجعل كلامه سهل القبول. ثم بعد ذلك يُخيف قائلاً:

” حسناً من أجل عدم الإيمان قطعت وأنت بالإيمان ثَبَت ” (رو20:11).

          ها هو مرة أخرى، يقدم مدحاً آخر، وإدانة لآخرين. لكنه أيضاً يضبط افتخارهم، فيُضيف قائلاً: ” لا تستكبر بل خف “. لأن الأمر لا يعتبر نتيجة طبيعية، بل يرتبط بالإيمان او عدم الإيمان. ويتضح بالطبع أنه يُغلق فم القادم من الأمم، بل ويُعلم اليهودي أنه لا ينبغي أن يهتم بالقرابة الطبيعية. ولهذا أضاف ” لا تستكبر ” ولم يقل اظهر تواضعاً، بل قال ” خف “، لأن الاستكبار يُثير احتقاراً ولامبالاة.

          بعد ذلك أراد أن يحكي لهم مآساتهم حتى يجعل كلامه أقل إزعاجاً فيتوجه إلى الأممي في شكل تأنيب قائلاً: ” لأنه إن كان الله لم يُشفق على الأغصان الطبيعية “، ولم يقل ولا عليك شيُشفق، لكنه قال:

” فلعله لا يشفق عليك أيضاً ” (رو21:1).

مخففاً هكذا من ثقل الكلام، وواضعاً المؤمن في حيرة، وأيضاً لكي يجذب هؤلاء اليهود ويضبطهم.

” فهوذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلاّ فأنت أيضاً ستُقطع ” (رو22:11).

          لم يقل انظر إذاً إلى ما أنجزته، انظر إذاً إلى أتعابك، لكنه قال “لطف الله”، مُظهراً أن كل شيء مدين لنعمة الله، ويهيئه كي يخيفه. هذا بالضبط هو سبب الافتخار، أن يجعلك تخاف لأن الرب أظهر لطفاً نحوك ولهذا يجب أن تخاف. لأن النعم لا تبقَ ثابتة فيك، إن كنت لا تهتم بها، وبالمثل فإن الشرور لا تظل ثابتة لدى هؤلاء اليهود إذا غيّروا من رغبتهم. وأنت أيضاً إن لم تبقى في الإيمان، فستُقطع.

” وهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيُطعمون ” (رو23:11).

          لأن الله لم يقطع هؤلاء اليهود، لكنهم هم قد قطعوا أنفسهم وسقطوا. وبالصواب قال “قُطعوا”، لأنه لم يحدث أبداً أن قطعهم الله هكذا، وإن كانوا مرات عديدة قد ارتكبوا خطايا كثيرة. أرأيت مقدار قوة الاختيار؟ أرأيت مدى سيادة الرغبة؟ لأنه لا يوجد شيء ثابت من كل هذا، لا صلاحك أنت ولا شروره. أرأيت كيف أقام ذلك البائس، وضبط ذلك الذي يمتلك الجرأة؟ إذاً فأنت أيضاً لا يجب أن تيأس عندما تسمع عن الصرامة، ولا تغتر بشجاعتك حين تسمع عن اللطف. ولهذا قد قطعك فجأة، لكي تتمنى أن تعود مرة أخرى، وكذلك أظهر لطفاً نحوك، لكي تبقى ثابتاً. ولم يقل في الإيمان، لكنه قال “في اللطف” أي إن عملت أعمال تستحق لطف الله، لأن الأمر لا يحتاج إيماناً فقط.

          أرأيت كيف أنه لم يترك هؤلاء اليهود في وضع متأزم، ولا ترك أولئك الأمم أن يفتخروا، بل وبَّخ غيرة اليهود والأمم معاً، مُعطياً لليهودي إمكانية أن يقف مكان الأممي، تماماً مثلما يأخذ الأممي وضع اليهودي؟ ويُخيف القادم من الأمم، عن طريق كل ما قد حدث لليهود، لكي لا يفتخر في مواجهتهم، بينما بالنسبة لليهودي، فيُعده لكي يتشجع بكل ما أُعطى للأممي. لأنه بالحقيقة، كما يقول ق. بولس، وأنت أيضاً ستُقطع، إن كنت لا تُبالي، كما قُطع اليهودي، وذاك اليهودي سيُطعم، لو أنه آمن، كما طُعمت أنت. حوّل القديس كلمته بحكمة كبيرة نحو القادم من الأمم، الأمر الذي اعتاد دوماً أن يفعله، مُصلحاً الضعفاء، من خلال تأنيب الأقوياء. هذا يفعله في نهاية الرسالة، متكلماً عن التمييز بين الأطعمة.

          7  ثم يبرهن على ذلك ومن خلال الأمور السابقة ، وليس فقط من خلال الأمور المستقبلية، الأمر الذي أقنع بالأكثر المستمع إليه. وأراد ان يطرح سلسلة أفكار غير متعارضة، فيُشير أولاً إلى الدليل على ما يقوله من خلال قوة الله. ويوصي بعدم اليأس حتى وإن كان اليهود قد قُطعوا ورُفضوا، وآخرون أخذوا ما لهم. ” لأن الله قادر أن يُطعّمهم أيضاً “، ذاك إذاً يصنع ما يعلو على كل رجاء. لكن إن كنت تطلب ترتيب الأمور، وتتابع الأفكار، فلك أن تُحقق ذلك بغنى من خلال طبيعة المثل الذي يذكره.

” لأنه إن كنت أنت قد قُطعت من الزيتونة البرية حسب الطبيعة وطعّمت بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة فكم بالحرى يطعم هؤلاء الذين حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة ” (رو24:11).

          لأنه إن كان الإيمان قد انتصر على ما هو بخلاف الطبيعة، فبالأكثر سينتصر على ما هو موافق للطبيعة. إذاً لو أن ذاك الأممي، بعدما قُطع من آبائه بحسب الجسد، وأتى بخلاف طبيعته إلى الإيمان الذي كان لإبراهيم، فبالأكثر جداً ستستطيع أنت أن تأخذ مرة أخرى ما هو لك. لأن شر الأممي كان طبيعياً، لأنه بطبيعته كان زيتونة برية، بينما الصلاح كان بخلاف طبيعته، إذ على خلاف طبيعته طُعم في إبراهيم، أما صلاحك فهو على العكس من ذلك فهو بحسب طبيعتك، لأنك لن تُطعم في أصل غريب، مثل الأممي، بل في أصلك أنت (أي إبراهيم)، إن كنت تريد أن ترجع مرة أخرى. إذاً لماذا تكون مستحقاً أن تطعم، في حين أن الأممي يستطيع أن يحقق ما هو على خلاف طبيعته، بينما أنت لا تستطيع أن تُحقق ما هو وفقاً لطبيعتك، بل تخونه؟

          ولكي لا تعتقد أن اليهودي يمتلك شيئاً أكثر نظراً لأنه قال “بخلاف الطبيعة” و “طُعّمت”، فهو يصحح هذا الأمر مرة أخرى، ويقول إنه يطعم اليهودي أيضاً: ” فكم بالحرى يطعم هؤلاء الذين هم حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة “. وأيضاً ” الله قادر أن يطعمهم “. إلاّ أنه قال قبل ذلك، إن لم يبقوا في عدم إيمان، فإنهم سيطعمون. وعندما تسمع ق. بولس يتحدث دائماً عن تعبير “بخلاف الطبيعة”،   و”بحسب الطبيعة”، لا تتصور أنه يقصد تلك الطبيعة الثابتة، لكنه من خلال أفعال وأوصاف، يعلن عن الطبيعي، كما يُعلن عن غير الطبيعي أيضاً ” لأن الأمور الصالحة، والأمور الشريرة، ليس شيئاً طبيعياً، بل هي تعتمد على الإرادة والاختيار فقط “. لكن انتبه إلى ق. بولس هذا الإنسان الرقيق، لأنه بعدما قال وأنت أيضاً ستُقطع، إن لم تبقَ في الإيمان، وأولئك اليهود سيُطعمون، إن لم يبقوا في عدم الإيمان، فهو يتجاوز الأمر الأكثر حزناً، ويقدم الأمر الأكثر صلاحاً أو نفعاً، ويُنهي به حديثه، معطياً رجاء كبيراً لليهود، إن أرادوا ذلك.

          ولهذا يُضيف ويقول:

” فإني لست أريد أيها الاخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء ” (رو25:11).

          يقصد بالسر هنا السر غير المعروف والمكتوم الذي يثير الدهشة والتعجب تماماً مثلما يقول في موضع آخر: ” هوذا سر أقوله لكم. لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير “ [9] . إذاً ما هو هذا السر؟ ” أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل “. هنا أيضاً يوجه ضربة لليهودي، معطياً إنطباع أنه يضبط القادم من الأمم. إن ما يقوله يعني تحديداً ما سبق وقاله، أن عدم الإيمان لم يسرِ على الجميع، بل على جزء واحد فقط، كما قال: ” ولكن إن أحد قد أحزن فإنه لم يحزّني بل أحزن جميعكم بعض الحزن “ [10] . هكذا هنا أيضاً، يقول نفس الشيء، الذي قاله في الجزء السابق ” لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه “، وأيضاً: ” ألعلهم عثروا لكي يسقطوا ” ويكون سقوطهم تام؟ حاشا. هذا ما يقوله هنا، أي أنه لم يرفض كل الأمة، بل وكثيرون قد آمنوا بالفعل، وأن كثيرين سيؤمنوا.

          8  ولأنه وعد بشيء عظيم، فهو يستشهد بعد ذلك بالنبي الذي يقول الآتي: فمن حيث إن القساوة قد حصلت جزئياً، فهو لا يقدم شهادة على ذلك، لأن هذا الأمر كان واضحاً للجميع، أما من جهة أنهم سيؤمنون، وسيخلصون، يستشهد مرة أخرى بإشعياء الذي يصرخ ويقول:

” سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب ” (رو26:11).

          وبعدما أشار إلى الرمز المميز للخلاص، ولكي لا يذكره أحد ويربطه بالأزمنة السابقة، يقول:

” وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم ” (رو27:11).

          هذا هو العهد الذي صار لهم، لا عندما اختتنوا، ولا عندما قدموا ذبائحهم، ولا عندما تمموا وصايا الناموس الأخرى، بل عندما نالوا غفراناً لخطاياهم. إذاً إن كان قد وعد بذلك، ولم يتحقق فيهم الوعد حتى الآن، ولم يتمتعوا بالغفران الذي أُعطى بالمعمودية، إلاّ أنه سيتحقق على أية حال. ولهذا فقد أضاف:

” لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة ” (رو29:11).

          ولم يعزيهم فقط بهذا، لكن بذلك الذي حدث بالفعل، وهذا الذي حدث كشيء لاحق، يذكره كأمر أوّلي، قائلاً:

” من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم. وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء ” (رو28:11).

          إذاً لكي لا يفتخر القادم من الأمم، قائلاً، إنني مُدعَّم ومسنود، لا تقل لي ما الذي سوف يصير، لكن ماذا صار. ومن هنا يضبط ذاك الأممي بقوله: ” من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم “. إذاً لأنكم دُعيتم أنتم، فقد صار هؤلاء اليهود بالأكثر أعداء. لكن ولا هكذا توقفت دعوة الله لكم، لكنه ينتظر أن يأتي كل أولئك الذين سيؤمنون من الأمم، وحينئذٍ سيأتي أيضاً هؤلاء اليهود. ثم بعد ذلك يقدم لهم خدمة أخرى قائلاً: ” وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء”. وما معنى هذا؟ أي أنه من حيث إنهم أعداء، توجد عقوبة لهم، لكن من حيث إنهم أحباء، فإن فضيلة آبائهم ليست لها أي علاقة بهم، إن لم يؤمنوا. لكن وكما سبق وأن أشرت، لم يتوقف ق. بولس عن أن يُعزيهم بالكلام، لكي يجذبهم إلى الإيمان. ولهذا يبرهن على ما سبق من موضع آخر بقوله:

” فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء. هكذا هؤلاء أيضاً الآن لم يطيعوا لكي يُرحموا هم أيضاً برحمتكم ” (رو11: 30-31).

          هنا يُبيّن أن الأمم دُعوا أولاً، ثم بعد ذلك بسبب عدم قبولهم الدعوة، فقد اختار الله اليهود، ونفس الأمر حدث بعد ذلك. أي نظراً لأن اليهود لم يريدوا أن يؤمنوا، قاد الله الأمم أيضاً للإيمان. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، ولا برفضهم ينتهي كل شيء، بل إن هؤلاء أيضاً سيُرحمون. لاحظ مقدار ما يقدمه للأمم، كما قدم في السابق لليهود. لأنه يقول، أنتم أيها الأمم لم تطيعوا مرة، فأتى اليهود للإيمان، ولأن اليهود أيضاً لم يطيعوا، أتيتم أنتم للإيمان. لكن من المؤكد أنهم لن يهلكوا في النهاية. ” لأن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع “. أي أنه بكّتهم، وأظهر أنهم قد عصوا، لا لكي يبقوا في العصيان، بل لكي يُخلّص الآخرين بعصيانهم، يُخلّص هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء. ولاحظ قوله، عصيتم أنتم الأمم وخلص هؤلاء، وأيضاً هؤلاء اليهود عصوا، وأنتم الأمم خلصتم. لكن لم تخلصوا هكذا، حتى تبتعدوا مرة أخرى، تماماً مثل اليهود، لكن لكي تجذبوا هؤلاء اليهود، وأنتم ثابتين في غيرتكم الإيمانية.

9  ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء ” (رو33:11).

          هنا وبعدما فكّر في الأزمنة السابقة، وأدرك خطة التدبير الإلهي منذ البدء، منذ خلق العالم حتى اليوم، وبعدما تأمل كيف أنه بطرق متنوعة دبر كل شيء، تملكته الدهشة، وصرخ بقوة، مؤكداً لسامعيه، أن ما قاله سوف يحدث على كل الأحوال. لأنه ما كان له أن يصرخ، أو يشعر بالدهشة، ما لم يكن كل هذا سوف يحدث. ومن حيث إنه يوجد عمق لغنى الله، فهو يعرف ذلك، ولكن ما مقدار هذا العمق، فهذا لم يكن يعرفه. لأن هذا التعبير، هو تعبير إنسان مندهش، برغم أنه لا يعرف كل شيء. وبعدما اندهش وتعجب لأجل صلاح الله، على قدر ما استطاع، نادى بكلمتين مملؤتين بالتركيز، وهما الغنى، والعمق. وتملّكته الدهشة، لأن الله أراد، واستطاع تحقيق كل هذا، وحقق المفارقات بالمفارقات. “ما أبعد أحكامه عن الفحص”. لأنه ليس فقط أن هذه الأحكام يستحيل إدراكها ، بل ولا يمكن فحصها. ” وطرقه عن الاستقصاء ” أي تدابيره، كما وأن هذه الطرق ليست فقط لا يمكن أن تصير معروفة، بل ولا أن تُستقصى. لأنه هكذا يقول (ق. بولس) ولا أنا أعرفها كلها، بل أعرف جزءاً صغيراً، وليس كل شيء. لأن الله وحده، هو الذي يعرف ما له بوضوح. ولهذا أضاف:

” لأن من عرف فكر الرب أو صار له مشيراً  أو من سبق فأعطاه فيُكافأ” (رو11: 34-35).

          ما يقوله يعني الآتي: أن الله يتسم بالحكمة الفائقة، وهو ليس حكيم من قِبَل آخر، بل هو نبع الصالحات، وأنه برغم أنه صنع الكثير ومنحه لنا، فهو لم يُعطه مستديناً من آخر، بل أن كل شيء تدفق أو نبع من ذاته، دون أن يكون مديون بإعطاء مكافأة لشخص، نظير إحسان قدمه له هذا الشخص، فالله هو دوماً منبع كل الخيرات. لأن هذا هو على كل حال، ملمح الغنى، أن ينثر أو يوزع غناه بوفرة، وأن لا يكون هناك احتياج أن يأخذ من آخر. ولهذا أضاف:

” لأن منه وبه كل شيء ” (رو36:11).

          إن الله يملك كل الأشياء، هو خالق كل الأشياء، وهو الذي يضبطها. كما أنه غنى، وليس لديه احتياج أن يأخذ من آخر، وهو حكيم وليس بحاجة لمشير.

          ولماذا أتكلم عن مشير؟ ولا يستطيع أحد أن يعرف ما لديه، إلاّ سواه، فهو الغني والحكيم. كما أنه برهان كبير على الغنى، ان يجعل القادمين من الأمم أغنياء، ودلالة على حكمة فائقة، أن يجعل الأدنياء من اليهود مُعلّمين لليهود. ثم بعد ذلك، يقدم الرسول الشكر لأنه اندهش وتعجب كثيراً جداً لغنى الله وحكمته قائلاً: ” له المجد إلى الأبد آمين “. لأنه حين يقول شيئاً عظيماً مثل هذا ولا يمكن شرحه، فإنه ينتهي إلى الشكر بدهشة كبيرة. نفس الأمر يفعله في حالة الابن. كما حدث في الاصحاح التاسع، فبعدما تملكته الدهشة، أضاف ما قاله هنا بالتحديد ” ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين “ [11] .

          10  فلنتمثل نحن أيضاً بالقديس بولس، ولنقدم الشكر لله في كل مكان مهتمين بالطريقة التي نحيا بها، وألاّ نعتمد على فضائل آبائنا، واضعين نصب أعيننا المثال الخاص باليهود. لأن هذه القرابة البشرية لا تسري على المسيحيين، لكن ما يسري عليهم هو فقط القرابة الروحية. هكذا فإن السكيثي، صار ابناً لإبراهيم، كما أن ابن إبراهيم أيضاً صار غريباً أكثر من السكيثي. إذاً ينبغي ألا نعتمد على إنجازات آبائنا، بل حتى وإن كان لك بعد أباً يستحق الإعجاب، لا يجب أن تتصور أن هذا كاف لخلاصك أو لكرامتك ولمجدك، إن لم تصر قريباً له من جهة سلوكك في الحياة. وبالتالي أيضاً لو أن لك أباً شريراً، لا تتصور أن يكون هذا سبب إدانة وخجل، طالما أنك تسلك بطريقة صحيحة. لأنه هل هناك من هم أكثر خزياً من الوثنيين؟ لكنهم بالإيمان، صاروا سريعاً أقرباء للقديسين. أيضاً هل وُجِد من هم أكثر عِشرة ومودة من اليهود؟ لكنهم بسبب عدم إيمانهم صاروا غرباء. لأن تلك القرابة هي طبيعية وإلزامية، والتي بحسبها نحن جميعاً أقرباء، طالما أننا جميعاً ولدنا أو ننحدر من آدم، ولا يمكن للواحد أن يكون أكثر قرابة من الآخر، ويرجع السبب في ذلك إلى آدم، ونوح، والأرض التي تعد أُماً لجميعنا. بينما القرابة التي تستحق المكافأة هي تلك التي تميّزنا عن الأشرار (أي القرابة الروحية).

          لأنه من غير الممكن أن يكون الجميع هنا أقرباء، بل الأقرباء هم فقط أولئك الذين لهم طريقة الحياة ذاتها. ولا الذين يولدون معنا من نفس الرَحِم ندعوهم إخوة، بل الإخوة هم أولئك الذين يُظهرون نفس الغيرة في الإيمان. بهذا المعنى يتحدث المسيح عن أولاد الله. أيضاً يكون الحديث عن أولاد إبليس من وجهة نظر عكسية، وبهذا المعنى يكون الحديث عن أبناء الطاعة، وأبناء الجحيم، وأبناء الهلاك. هكذا فإن تيموثاوس بسبب فضيلته، دُعي ابناً لبولس [12] ، بينما نحن لا نعرف اسم ابن اخته، وإن كان من المؤكد أن أحدهما هو قريبه بالطبيعة، لكن هذا لا يفيد بشيء، بينما الآخر، هو بعيد عنه بحسب الطبيعة وبحسب المكان خاصةً وأنه كان يقيم في لسترا، لكنه كان قريباً له أكثر من الجميع. إذاً فلنصِر نحن أيضاً أبناء للقديسين، أو من الأفضل أن نقول لنصِر أبناء لله. ومن حيث إنه من الممكن أن نصير أبناء لله، اسمع ماذا يقول: ” فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل “ [13] . ولهذا فإننا ندعو الله في صلواتنا أباً لنا، مُذكرين أنفسنا ليس فقط بالنعمة، بل أيضاً بالفضيلة، لكي لا نفعل شيئاً غير لائق بمثل هذه القرابة.

          وكيف يكون ممكناً أن أصير ابناً لله؟ هذا ممكن لو تحررت من كل الشهوات، لو تصرفت برأفة تجاه أولئك الذين يشتمونك ويظلمونك، لأن أباك هكذا سلك تجاه أولئك الذين يجدفون. ولهذا، برغم أنه قال الكثير مرات عديدة، لم يقل في أي موضع ” لكي تصيروا مثل أبيكم “، بل عندما قال: ” صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم “ [14] ، أضاف عندئذٍ هذه المكافأة لأنه لا يوجد شيئاً يقودنا إلى الله بهذا االقدر الكبير، ويجعلنا مثل الآب، إلاّ تحقيق هذا الأمر (أي الصلاة من أجل الذين يسيئون إلينا). ولهذا فإن بولس عندما قال: ” فكونوا متمثلين بالله “ [15] . هكذا يقول أن تصيروا متمثلين به (في هذا الأمر). من المؤكد أننا في احتياج لكل الإمكانات، خاصةً من حيث المحبة للبشر والوداعة، لأننا نحن أنفسنا نحتاج لمراحم كثيرة. خاصةً لأننا نرتكب خطايا عديدة كل يوم، ولهذا نحتاج لرأفة كبيرة. لكن الكثير، والقليل لا يُحكم عليه بمعيار أولئك الذين يأخذون، بل بمقدار ثروة الذين يعطون. إذاً فلا الغني يفتخر، ولا الفقير يشعر بنقص، عندما يعطي قليلاً، لأنه في مرات كثيرة، يكون قد أعطى أكثر من الغني.

          ولا ينبغي أن نتضايق بسبب الفقر، لأنه يجعل عمل الرحمة بالنسبة لنا أكثر سهولة. لأن ذاك الذي يمتلك الكثير يسود عليه الزهو، وتتمكن منه رغبة الحصول على المزيد، بينما مَن يملك القليل فهو متحرر من هاتين الصفتين المذلتين، ولهذا يجد دوافع أكثر لكي يُقدم إحساناً. لأن هذا الفقير سيذهب إلى السجن بسهولة ليفتقد المساجين، وسيزور المرضى، وسيُقدم ماء بارداً، أما الغني فلن يقبل أن يفعل أي شيء من كل هذا، لأنه منشغل بالغنى. إذاً ينبغي ألا تتضايق بسبب الفقر، وأن التجارة في الأمور السمائية، ستجعل عمل الرحمة بالنسبة لك أكثر سهولة. وإن كنت لا تملك أي شيء، لكن تملك نفساً تشارك في أحزان الآخرين، فسيهبك الله مكافاة لهذا. ولذلك فإن ق. بولس أوصانا أن نبكي مع الباكين، ومع المحبوسين، كأننا محبوسين معهم. لأنه يجب على الإنسان ليس فقط أن يحمل تعزية لكل من يبكي، إذ يوجد كثيرون ممن يشاركون في الأحزان، بل عليه أيضاً أن يقدم تعزية لكل من يوجد في حالات أخرى صعبة. لأنه في بعض الحالات، يمكن للكلمة أن تُشدد الحزين، بصورة ليست أقل من تأثير المال.

          ولهذا فقد أوصانا الله أن نُعطى أموالاً لأولئك الذين هم في احتياج، لا لكي نصحح فقط من أوضاعهم الفقيرة، بل ولكي يُعلّمنا أن نشارك القريب أحزانه. ولهذا فإن البخيل مكروه، لا لأنه يبغض الفقراء فقط، بل لأنه يُحرّض على القسوة والوحشية بشدة. أما الذي يحتقر المال ويوزعه على الفقراء، فهذا يصبح محبوباً، لأنه يصير رحيماً، ومحباً للناس. بل والمسيح حين يُطوّب الرحماء، يُطوّب ويمتدح ليس فقط كل من يرحم بالمال، بل وكل الذين يفعلون هذا برغبتهم أو اختيارهم. ليتنا نقدم هذه الرغبة إذاً بشكل لائق لعمل الرحمة، وعندئذٍ ستتبع ذلك كل الخيرات. لأن مَن له رغبة حب الناس ومشاركتهم أحزانهم، إن كان يمتلك أموالاً، سيُعطي بوفرة، وإن رأى أحداً في كارثة، سيبكي ويحزن، وإن تقابل مع شخص مظلوم سيحميه أو سيدافع عنه، وإن رأى شخصاً يُساء إليه بقسوة سيمد له يد العون. لأنه يملك كنز الصالحات، أي نفس مُحبة للبشر ومشاركة في أحزانهم، وسيتدفق من هذه النفس، أي من هذا النبع، كل ما هو لخدمة اخوته، وسيتمتع بكل المكافأت التي هي عند الله.

          لكي نحقق نحن أيضاً هذا، لنجعل أنفسنا قبل كل شيء مشاركة في الأحزان. لأنه هنا في هذه الحياة الحاضرة سننال خيرات لا تُحصى، وسنحصل على مجازاة الدهر الآتي، فليتنا ننالها جميعاً بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.


[1] لو19:11.

[2] مز12:30.

[3] مت1:22ـ14.

[4] مت33:21ـ36.

[5] مت24:15ـ26.

[6] أع46:13.

[7] رو16:1.

[8] مت6:10.

[9] 1كو51:15.

[10] 2كو5:2.

[11] رو5:9.

[12] انظر 1تيمو2:1.

[13] مت48:5.

[14] مت44:5.

[15] أف1:5.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى