عصر الروم الذهبي
843-1025
نيقيفوروس فوقاس: (962-969) وتوفي رومانوس الثاني إما مسموماً أو مسقوماً فتسلمت زوجته ثيوفانو زمام الحكم بالوصاية على ولديها القاصرين باسيليوس وقسطنطين. وكانت تكره ابرينكاس وتحب نيقيفوروس. فاستدعت نيقيفوروس من حلب. وسمح هذا لجنوده أن ينادوا به فسيلفساً وهو في طريقه إلى العاصمة. فلما نهض إليها من قيصرية قامت ثورة ضد ابرينكاس ودخل نيقيفوروس العاصمة وتقبّل التاج من يد البطريرك مشتركاً في الحكم مع القاصرين. وبعد شهر واحد تزوج من ثيوفانو الوصية الأرملة. ولما جاء إلى الكنيسة وطلب الدخول من الباب الملوكي اعترضه البطريرك بوليفكتوس بسبب زواجه من الثانية في حياة الأولى خلافاً للناموس.
فتوحات الروم في سوريا: (963-969) وكان نيقيفوروس جندياً مدهشاً وتكتيكياً قديراً وقائداً محنكاً فأحبه الجنود وتعلقوا به. وكان زاهداً قنوعاً قاسياً متصلباً ولكنه في الوقت نفسه محباً عطوفاً. فأصبح رجل الساعة بقوة إرادته وتمسكه بالسلطة وحبه للدولة وإخلاصه لها.
وأوقف الإنقلاب في القسطنطينية الأعمال الحربية في قيليقية وسورية. فعاد سيف الدولة إلى حلب واستعاد عين زربا وغيرها في قيليقية. وحاصر ابن شمشيق مصيصة في صيف السنة 963 ولم يستولِ عليها. وقام إلى أدنه فتحداه حاكم طرسوس فهزمه ابن شمشيق ولكنه اضطر أن يغادر قيليقية لِما حلّ بها من قحط وجوع وأوبئة.
وفي ربيع السنة 964 تولى نيقيفوروس الفسيلفس نفسه قيادة جيوشه. فأنشأ قاعدة هامة للتموين في قيصرية قبدوقية وزحف برجاله فاقتحم عين زربا وأدنه واستولى على اسوس عند مدخل سوريا وعاد إلى قبدوقية لتمضية فصل الشتاء. وفي السنة التالية عادت قيليقية بأسرها إلى الروم بعد أن كانت زهاء ثلاثة قرون قاعدة برية بحرية تنقض منها جيوش الإسلام وأساطيله على الإمبراطورية. وفي شتاء هذه السنة عينها احتل الروم قبرص أيضاً. وفي شتاء السنة 966 أغار نيقيفوروس على الجزيرة فدخل دارا ونصيبين واستولى على الآجرة المقدسة “القرميدة” Karmidion التي كانت تحمل صورة السيد العجائبية. ثم انقض على أنطاكية. وفي خريف السنة 968 عاد الفسيلفس إلى الفتح فحاصر ابن سيف الدولة في حلب وقام بجيشه إلى حمص فدخلها ثم انحدر منها إلى عرقة فطرطوس فجبلة وأبقى فيها حاميات من الروم.
ثم ظهر أمام أنطاكية يشدد الحصار عليها بأمرة ميخائيل بورجيس البطريق ويرمم قلعة بغراس في طريق أنطاكية الإسكندرونة. وأقام ابن أخيه بطرس فوقاس قائداً عاماً وأوصاه بوجوب انتظاره وعدم اقتحام أنطاكية قبل عودته. وقام هو إلى القسطنطينية فدخلها بموكب نصر عظيم في مطلع السنة 969 وفي أثناء غيابه اتصل مسيحيي أنطاكية بقيادة الروم مؤكدين وقوع الفوضى في صفوف المسلمين. فاندفع البطريق وقام ببعض رجاله فتسلق الأسوار ودخل بعض الأبراج وكاد يموت موتاً لولا وصول لاوون واسعافه. وسقطت أنطاكية بيد الروم في الثامن والعشرين من تشرين الأول بعد أن بقيت إسلامية ثلاثة قرون ونيفاً.
واشتد حماس الجند وألحّوا بوجوب اقتحام حلب وفعلوا فسقطت في يدهم في كانون الأول من السنة نفسها. ووقّع صاحبها قرغوية معاهدة مع الروم اعترف بسيادتهم وحمايتهم. واعترف الروم بولايته على حلب وولاية بكجور بعده على أن يعينوا أميراً عليها من يرونه لائقاً من أبناء حلب بعدهما. ومن شروط هذه المعاهدة أن يقيم في حلب ممثل رسمي للفسيلفس وأن يدفع الحلبيون ديناراً عن كل ذكر في كل سنة وأن يمتنعوا عن جباية الجزية من المسيحيين وأن يؤمنوا طرق التجارة وأن تشرف لجنة من الروم والحلبيين على جبارة الكمارك.
التحقيق في مقتل البطريرك: وعاد بطرس فوقاس إلى أنطاكية وحقق في مقتل البطريرك خريستوفوروس الذي أشرنا إليه سابقاً فحبس ابن مانك أياماً ثم أخرجه إلى جسر باب البحر حيث طُرِحَت جثة البطريرك وأمر به فقُطِّع بالسيف عضواً عضواً ورُمي بكل ناحية قطعة. وأما ابن محمود وابن دعامة شريكاه في الجرم فإنهما كانا قد حملا إلى سجن طرسوس وبقيا فيه مدة طويلة. ومات ابن محمود في الحبس وبقي ابن دعامة إلى أن جاء ميخائيل البورجي فاحضره إلى أنطاكية وثقله بالحجارة وطرحه في النهر.
يوحنا جيمسكي: (969-979) ولم ترضَ ثيوفانو الفسيلفسة عن حياتها الزوجية مع نيقيفوروس. وكان ابن اخته يوحنا جيمسكي جميل الصورة لا يزال في الخامسة والأربعين من عمره فأحبته ثيوفانو فأبعده نيقيفوروس. فأقنعت ثيوفانو زوجها فأرجعه إلى البلاط. وكانت مؤامرة بين ثيوفانو ويوحنا فذُبح نيقيفوروس ذبحاً في أواخر السنة 969. ونودي بيوحنا فسيلفساً بالإشتراك مع باسيليوس وقسطنطين القاصرين.
وكان يوحنا جيمسكي أو ابن شمشيق كما عرفه العرب شجاعاً باسلاً متزناً صبوراً لطيفاً كريماً. وكان قد اشترك في معظم حروب نيقيفوروس فعرفه الجنود وأحبوه وتعلقوا به. فأعاد باسيليوس ليكابينوس إلى الإدارة المركزية وانصرف هو إلى السياسة والحرب.
ثيودوروس بطريرك أنطاكية: (970-976) وكان الموقف السياسي في سورة لا يزال حرجاً فطلب الفسيلفس الجديد إلى البطريرك المسكوني بوليفكتوس ومجمعه المحلي أن ينتخبوا بطريركاً على أنطاكية وسائر المشرق لأن هذا الكرسي الرسولي كان لا يزال شاغراً منذ قتل خريستوفوروس. واقترح الفسيلفس انتخاب الراهب ثيودوروس فتم انتخابه في الثامن والعشرين من كانون الثاني سنة 970. ولما وصل ثيودوروس الثاني إلى مركز رئاسته في أنطاكية خرج إلى كنيسة “ارشايا” وحمل جسد سلفه خريستوفوروس إلى القسيان.
دمشق تعترف بسيادة الروم: (975) وأنهى ابن شمشيق مشكلة الروس والبلغار على إزالة خلافة بغداد والاستيلاء على بيت المقدس. ولكن كان عليه قبل هذا وذاك أن يجابه دولة فتية جديدة كانت قد قامت في مصر. فإن المعز لدين الله الخليفة الفاطمي الرابع كان قد سير جوهراً الرومي إلى مصر في السنة 968 فافتتحها وأزال الشعار الأسود العباسي وألبس الخطباء الأبيض وفتح دمشق وأنفذ جيشاً إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر خلال السنة 970-971. وكان الفسيلفس قد اكتفى بأن عيَّن ميخائيل بورجيس دوقاً على أنطاكية وجعلها صالحة للدفاع. وكان قد أنفذ في السنة 973 الدومستيقوس الأرمني مليه Mleh إلى الجزيرة غازياً. فاستولى هذا القائد على ملاطية ولكنه ارتد أمام آمد فاعتقل وأرسل إلى بغداد فتوفي فيها. وفي السنة 974 قام الفسيلفس بنفسه قاصداً بغداد فدخل أرمينيا وحالف ملكها أشوت ثم استولى على آمد وأحرق ميافارقين ودخل نصيبين وأدخل أمير الموصل الحمداني في طاعته. وتعسر عليه تموين جيشه فعاد إلى القسطنطينية.
وفي ربيع السنة 975 انطلق ابن شمشيق من أنطاكية قاصداً أورشليم. وما أن أطلّ على دمشق حتى فاوضه حاكمها فاعترف بسيادة الفسيلفس وتقبل حامية مسيحية ودفع جزية ستين ألف دينار في كل عام. وكتب بذلك كتاباً وأخذ فيه خطوط الإشراف وقدَّم جماعة منهم رهينة. ولما كانت قوات الفاطميين قد التجأت إلى مدن الساحل قام الفسيلفس ابن شمشيق إلى الساحل قبل التوغل في الجنوب فاحتل جبيل وبيروت وأسر أمير هذه المدينة نصر الخادم وحمله إلى بلاد الروم. ونزل على طرابلس فلم يتم له شيء فيها. ثم استولى على بانياس وجبلة وسلم كليب النصراني كاتب رقطاس حصن صهيون فصيرَّه الفسيلفس بطريقاً ثم “باسليقاً” على أنطاكية.
أورشليم: وقام إلى طبرية فدخلها. ثم قام إلى الناصرة فعف عنها احتراماً وإجلالاً وتسلق جبل الطور تيمناً وتضرعاً. وتقبل هناك دخول أورشليم والرملة وعكة في الطاعة وأرسل إليها عسكر يقيمون فيها.
باسيليوس الثاني: (967-1025) وتوفي ابن شمشيق مسموماً. وكان باسيليوس وأخوه قسطنطين قد بلغا سن الرشد أو ما يقرب منها. وكانا يهابان الخصي باسيليوس لأنه قد تولى تربيتهما. وحدثته نفسه بالملك فأرجع أم الفسيلفسين ثيوفانو وعزل القائد الأعلى برداس اسكليروس وعيّنه في وظيفة ثانوية في قيادة جيش الجزيرة. فذهب برداس واتحد مع أعداء باسيليوس الخصي. فكانت بينه وبين جيوش العاصمة مواقع هائلة وحروب شديدة دامت أربع سنوات. ولجأ برداس إلى بغداد وطلب معونة الخليفة العباسي الطائع (974-991).
اغابيوس بطريرك أنطاكية: (977-996) وكان باسيليوس الفسيلفس قد استدعى ثيودوروس الثاني البطريرك الأنطاكي في بدء ثورة برداس. وأرسل إليه “شلندي” يقلّه إلى القسطنطينية بحراً. فسار البطريرك ولمّا بلغ طرسوس توفي فيها. فبعث أهل أنطاكية “يلتمسون بطريركاً يكون عليهم ويتولى تدبيرهم”. فاستقر الأمر على أن يكتبوا إلى الفسيلفس بهم وطلبوا إلى اغابيوس أسقف حلب أن يحمل رسالتهم إلى الفسيلفس. فسألهم اغابيوس أن يضيفوا اسمه إلى جملة الأسماء. فأجابوه إلى ذلك. فشخص بالكتاب إلى حضرة الفسيلفس وأنهى إليه حال أنطاكية وتمسك أهلها بطاعته “وأعلمه أن الصواب يقضي بأن يكون لها بطريركاً يدبرها ويثبت أهلها على طاعته”. فكتب الفسيلفس إلى الماجيسطرس في أنطاكية يستميله ويعده بالإحسان إليه ويضمن له ولاية أنطاكية مدة حياة وأنه إذا تم ما استقر بينهما يكون أغابيوس بطريركاً على أنطاكية.
وعاد اغابيوس إلى أنطاكية متنكراً بزي راهب. ولما وصل إليها اجتمع بالماجيسطروس وقدم له كتاب الفسيلفس فقبله ودعا وقطع اسم فوقاس الثائر واعترف باغابيوس بطريركاً على أنطاكية.
ولما استقر أمر أغابيوس كتب رسائل الجلوس وبعث بواحدة منها إلى إيليا البطريرك الإسكندري وقرن بها “أمانته” ليُعلم منها أنه يقول بما اتفق عليه أصحاب المجامع المسكونية السبعة وطلب إليه أن يذكر اسمه في الذبتيخة. فأنكر إيليا الإسكندري عليه فعله لأنه ترك أبرشيته في حلب ليصير بطريركاً على أنطاكية فأصبح حاله “حال من تزوج ابنة ثم تركها وأخذ والدتها أو كمن طلّق زوجته وتزوج بغيرها”. وأكّد إيليا أن درجات الكهنوت مرتبة على مثال طغمات الملائكة والنجوم والكواكب التي تلزم نظامها ومواضعها. وطلب محضراً من أهل أنطاكية وكهنتها وشيوخها يذكرون فيه واقع الحال. فرد اغابيوس رداً طويلاً وفق فيه بين التقليد الرسولي وبين كيفية وصوله إلى كرسي الرسولين أنطاكية. وإليك نصه بالحرف كما حفظه يحيى ابن سعيد الأنطاكي في تاريخه:
- {“بسم الله الرحمن الرحيم كتابي أيها الأب الروحاني الطاهر المشارك في الخدمة المساوي في الرتبة المتحد في الروحانية من الكرسي السليحي بمدينة الله الفائزة بفخر اسمه المحفوظة بتلميذه وأول رسله يوم السبت السابع من كانون الأول عن سلامة بيع الله المقدسة وأولادها قبلي وسلامتي من بعدهم والحمد لله على ما مَنَّ وأولى وهو المسؤول أن يتم اسبال ستره على هذا الشعب وإكمال نعمته على هذه الأمة قبلي وقبلك وقبل كل راعٍ استرعاه في كل موضع ارتضاء بمنه وكرمه.
- وقد وصل كتابك أيها الأب الروحاني الطاهر على يد أنبا يوحنا الراهب المنفذ من مسكنتنا إلى قدسك. وأحطت علماً بمشتمله وسررت بأخبار سلامتك وما استدللت عليه من الإستقامة قبلك. ثم طار بعد ذلك فكري وتعسف ذهني وذهل عقلي وتقطعت خواطري متأملاً ما كتبته ومتبحراً ما أجبته. ولا أدري ما السبب الذي حملك على دفع غير مدفوع وإنكار غير منكر والاحتجاج بما لا يسلغ وفعل ما لا يليق. وقد كان ينبغي إذ عرفت موضوع ابتدائي وايثاري للتبارك بمشاركتك وانفاذي رسولي إليك في وقت كان يكاد أن يتعذر فيه عبور الطيور من جهتنا إلى جهتكم فضلاً عن الرسل والكتب ألا كنت تكتب بما كتبت به دون أن تتحقق أنك فيه على حق لا ينحل وحجة لا تبطل وصواب لا ينكر وقاعدة لا ينسب أهلها إلى هوى ولا غي ولا قصد ولا حال من الأحوال التي قدسك متبرئ منها ومرتفع عنها.
- وأما أن تذكر أيها الأب الروحاني غمك بما صار إليه حالي وقلقك بما جرى عليه أمري وإيثارك الموت دون السماع بمثله فهذا ما كان يليق إذ كان لم يجرِ بحمد الله ها هنا ارايسيس ولا فساد مقالة ولا نقص سنة ولا حالة غير معروفة. والذي جرى هو أمر أصغر حالي عنه وبعد موضعي منه لارتفاعه عني وقلة قيامي به وتفاوت نقص استحقاقي له. إلا أنه لم يكن مني ولا أتى بسمعي إلا ومنها يقتبس. وكيف يجوز أن ينكر واحد ما تجتمع عليه هذه الطبقة وترضى به هذه الأمة. وهو أمر مشهور عندنا مستعمل بيننا على قديم الزمان إلى حيث انتهيتا.
- والذي ذكرته أيها الأب الروحاني في هذا الباب أنا أعلم أنك لم تذكره إلا لبعد العهد بهذا الحال ببلدك ولعدم الكتب التي تنبئ بمثله في ناحيتك ولقلة من يستعملها ويقتبسها في موضعك للأحوال التي دفع إليها أهل تلك الديار مما نسأل الله المعونة عليه. وإذا أنت رجعت إلى الفحص عن ذلك وجدته أمراً لم يبدأ منا ولا يتناهى فينا. وذلك أنك تجد القديس افسطاثيوس بطريرك مدينتي هذه وقد نقله السينودس المقدس بنيقية من حلب إلى أنطاكية ووجدت القديس ملاتيوس منقولاً من لايصة إلى حلب ومن حلب إلى أنطاكية وقد حضر السينودس الثانية في القسطنطينية ونقل القديس غريغوريوس الثالوغس من نازينز وكرسه على كرسيها ووجدت اوذوكسيوس قد نقل من مرعش إلى أنطاكية ومنها إلى القسطنطينية ووجدت اوسابيوس قد نقل من بيروت إلى نيقوميذية ومنها إلى القسطنطينية ووجدت جماعة آخرين منقولين إلى مواضع عدة.
- هذا بعد مار بطرس السليح الذي هو أساس البيعة ورأس الشريعة ومقامه اثنتي عشر سنة بانطاكية وانتقاله بعد ذلك إلى رومية. وكفاك به من شاهد وتناهى بمن ذكرناه قليلاً من كثير قدوة يقتدى بها وأصلاً يرجع إليه. وإذا كان ذلك كذلك فقد عرفت منا أيها الأب الروحاني ما طلبته ووجدت ما ابتغيته إذ كان التماسك في كتابك أن يوجد في هذا الباب أصل يرجع إليه وطريق تفسح لك في قبول الكسس ورفع الاسم لا سيما مع علمك بأن هذا ليس هو ما تدعو إليه حاجة ضرورية وإنما يراد به اتحاد البيعة المقدسة بالروحانية. ومن طلب أن يتحد مع قدسك ويشارك خدمتك فليس يجوز أن تنفرد عنه بالحجج التي احتججت بها ويتضح حلها ويقوم البرهان بصحة غيرها.
- من ذلك تشبيه هذا الأمر بمن تزوج ابنة ثم تركها وأخذ والدتها. وقد ارتفع الكهنوت الإلهي عن التشبيه بالتزويج البشري. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان إذا توفي أسقف وكان له أخ يستحق رئاسة لا يجوز له أن يرجع موضعه كما لا يجوز للأخ أن يأخذ زوجة أخيه بعد وفاته. والتشبيه بمن طلق امرأة وأخذ غيرها يبعد أيضاً عما نحن فيه ولا يليق أن يشبه به وإلا لم يكن بالجائز للمدينة أن يصير غليها غير أسقفين كما لا يجوز للإمرأة أن تتزوج أكثر من زوجين. فأما قول السيد المسيح بأنه من طللق امرأته فقد جعلها أن تفجر ومن تزوج مطلقة فإنه يفجر فلم يكن مقولاً عن الكهنوت وإنما كان كلامه على اليهود لما حضروه مجربين له فأراهم بعد طباعهم عما يوجبه ناموس الطبع اللطيف والعقل والحصيف من المحافظة على الزوجة البشرية والتمسك بحبها لأجل أن الاثنين قد صارا جسداً واحداً كما قال الكتاب حتى أظهر عيوبهم وأحوجهم إلى أن قالوا لقد كان أخيراً للرجال أن لا يتزوج بالكلية. وإن كان كذلك فأية مناسبة بين هذا المعنى وبين الكهنوت الإلهي التي هي درجات تتراقى من الدون إلى التي فوقها. فأما تبشبيه هذه الدرجات بطغمات الملائكة التي تحفظ كل طغمة منها موضعها ولا تتعداه إلى غيرها فهذا أيضاً مما لا يشبه في حال النقلة وإلا لم يكن بالجائز للانغنسط أن يصير ابيوذياكون ولا للابيوذياكون أن يصير تاماً ولا للتام أن يصير قسيساً ولا للقسيس أن ينتقل إلى ما فوق. فأما تشبيهها بالنجوم فإن الكواكب لازمة نظامها ومواضعها لا ينتقل أحدها إلى موضوع غيره فهذا أيضاً لا يليق لأن الكواكب أجرام غير ناطقة رتب الباري كل واحد منها في موضوعه وجعل طبيعته لا تتغير عن حالته. فأما الإنسان فإنه جعله حيواناً ناطقاً متحركاً من حال إلى حال ومن أمر إلى أمر. والخليق به أن يكون انتقاله إلى ما هو أشرف وحركته إلى ما هو أعلى. فمن هذا جاز أن ينتقل من ذكرنا نقله. وقد قامت الشواهد بهذا الحال.
- فأما ما التمسته أيها الأب الروحاني من إحضار محضر المدينة الشريفة يذكر فيه كيف جرت هذه الحالة والرضى به فلك يجر بذلك رسم ولا فعل هذا من تقدمني فأفعله أنا بعده. ولولا تعذر الطريق في هذا الوقت إلى ما هناك لقد كان ذلك سهلاً. فأما إنقاذ خطوط كهنة الكرسي وشيوخه بالرضى فهذا نريد أن يكون لو لم يتم الأمر وحينئذ تكون الشبهة لاحقة في مثل هذا. فأما بعد تمامه ومضي سنة عليه فأنت تعلم أنه لو لم يحصل في الأول خطوط ويقع إجماع ورضي قبل التوجه إلى المدينة المتملكة لما كان تم.
- وكان بعد تمامه اضطراب ولم يقع بعده سكون. ونحن كنيستنا بحمد الله واحدة والمشاركة فيها من كل جهة واقعة والمحبة بين أولادها تامة وكاملة وليس هاهنا خلف ولا انفراد ولا انشقاق ولا حال فيها شبهة تحتاج إلى إنقاذ ما التمسته. وطلبة مثل هذه في غير موضعها تجري مجرى المعاياة والإجابة إلى مثل ذلك نقص وإيقاع شبهة. فإما الحق بالمودة الإلهية والأليق بالأحوال الروحانية أن تدع التماس ما لم تجر العادة بالتماسه والاحتجاج بما قد بطل وبمثله الرجوع إلى الواجب في توكيد المودة وإتمام اتحاد الخدمة والمشاركة حتى يزول الشك ويرتفع سبب الفساد ولا يقع في البيعة انشقاق.
- وأنت أيها الأب الروحاني تأتي في ذلك الواجب. وقد أردت إنقاذ البركة على ما جرى به الرسم والعادة ولم تتأخر إلا لبعد الطريق وصعوبة الوقت. وأنا أرصد الفرصة لإنفاذها وأراقب نفوذ من يصلح لحملها وأنقذها وأتبارك بإصدارها وإني في ذلك على الرسم الذي أنا قلق لتأخره.
- وأنت أيها الأب الروحاني تأتي في قبولها عند وصولها ما جرت فيه العادة التي تتبع الروحانيات ولا ينقصها تأخرها ولا يزيد فيها تقدمها. مع إبهاجي بكتابك عاجلاً متضمناً من أخبارك واستقامة أحوال من قبلك ما أسر به ومن حاجاتك ومهماتك ما أقوم فيه بواجب المودة والأخوة الروحانية والمشاركة إن شاء الله.
- سلام ربنا وإلهنا يسوع المسيح يكون معك وعندك حافظاً ومواقياً وكافياً ومشدداً من الآن وإلى كل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.”}
ووصل هذا الكتاب إلى إيليا البطريرك الإسكندري ووافق على مضمونه وقبل اغابيوس في الشركة واعترف ببطركيته. ويلاحظ هنا أن البطريرك الأنطاكي رأى في اعتراف زميله واجباً روحياً “لتوكيد المودة واتمام اتحاد الخدمة والمشاركة حتى يرتفع سبب الفساد ولكي لا يقع في الكنيسة انشقاق”. ورأى هذا البطريرك أيضاً أن إرسال المحاضر بخطوط الكهنة والشيوخ أمر لم يفعله من تقدمه من البطاركة. واكتفى بأن يكون إيمانه إيمان أصحاب المجامع المقدسة السبعة وأن يكون شعبه راضياً وأن يكون رؤساء الدولة قد وافقوا على اختياره. ويلاحظ أيضاً أن لا إشارة البتة في هذا الجدل حول الاعتراف بالبطريركية إلى موافقة روما وحبرها وأن البطريرك الأنطاكي الجديد اعتز بموافقة رؤساء الدولة في القسطنطينية “المدينة العظمى” وبعلم “علماء الملة” فيها.
حروب باسيليوس الثاني: وقدر لباسيليوس أن يصبح أعظم قوة وأطول باعاً في الحرب من أسلافه. فإنه تمكن بجده وسعيه ومقدرته في الإدارة والحرب من تجييش عدد من الرجال أكبر بكثير من أي عدد جند أسلافه. وحارب في وقت واحد في جبهات أربع في بلغاريا وإيطاليا وسورية والقوقاس.
وكان سعد الدولة الحمداني قد دخل حلب واستولى عليها. فحاول مراراً أن يتلمص من الأتاوة التي كان بفجور قد قبل بدفعها إلى الروم. فأدى هذا إلى إنفاذ حملات ثلاثة على حلب في السنوات 981 و983 و986. واضطر سعد الدولة أن يستنجد العزيز الفاطمي فشب خصام بين الروم والفاطميين. ولما كان باسيليوس منهمكاً في القضاء على ثورة البرداسين اضطر بدوره في أواخر السنة 987 إلى أن يصالح العزيز الفاطمي بمعاهدة كان من شروطها أن يذكر اسم العزيز في خطبة الجامع في القسطنطينية. وكان قد قام في القسطنطينية مسجد منذ القرن الثامن.
وتوفي سعد الدولة الحمداني في السنة 991 فطمع العزيز بحلب وحاصرها في السنة 922. فاستجار لؤلؤ الوصي على ابن سعد الدولة باسيليوس الثاني. فأمر باسيليوس دوق أنطاكية مخيائيل بورجس أن يقدم المعونة اللازمة. فظفر الفاطميون بجيشه في موقعة العاصي في الخامس عشر من أيلول سنة 944. فرأى الفسيلفس أن يشرف بنفسه. فجمع جيشاً خاصاً وجعل لكل مقاتل بغلين وهب بسرعة فائقة فقطع آسية الصغرى في ستة عشر يوماً وفاجأ الفاطميين عند حلب فتراجعوا عنها حتى أبواب دمشق.
يوحنا الخامس بطريرك أنطاكية: (996-1022) وسخط باسيليوس على ميخائيل بورجس وألزمه بيته وولّى على أنطاكية الدوق دميانوس دلاسانوس وطلب إلى اغابيوس البطريرك أن “يكتب خطه بالزهد في رئاسة أنطاكية واعتزاله عنها” فامتنع البطريرك. فجعل الفسيلفس للبطريرك ديراً في القسطنطينية يعرف بالافرنذيو وأمر أن يحمل إليه في كل سنة من دخل كنيسة أنطاكية أربعة رطلاً من الدنانير “برسم نفقة مائدته” فقبل البطريرك واستقال. وتوفي بعد ذلك بسنة.
“وصيّر” باسيليوس عوضاً عن اغابيوس بطريركاً من أهل القسطنطينية اسمه يوحنا. وهو الخامس في المراجع الأرثوذكسية والثالث في المراجع الغربية وكان خرتوفيلاكساً في كنيسة الحكمة الإلهية. وأمر الفسيلفس أن “ترتب” كنيسة القسيان في أنطاكية على مثال كنيسة الحكمة الإلهية.
باسيليوس والحاكم: وتوفي العزيز الفاطمي وتولى الحكم بعد الحاكم “بأمره” (996-1021) فأنزل بدوق أنطاكية داميانوس دلاسانوس في تموز السنة 998 هزيمة كبيرة وخر دميانوس مقاتلاً. فاضطر باسيليوس أن يعود إلى سورية لينقذ الموقف. فدخل أنطاكية في العشرين من أيلول سنة 999 واستولى على حمص في تشرين الأول من السنة نفسها. ثم قام إلى طرابلس وحاصرها وسير سرية إلى بيروت وجبيل فظفرت بالأسرى والغنائم. وعاد الفسيلفس إلى طرطوس لتمضية فصل الشتاء. وبينما هو يعد العدة في طرسوس لمتابعة الحرب ضد الفاطميين علم بوفاة داود ملك الكرج. وكان داود هذا قد أوصى بملكه إلى الفسيلفس. فقام الفسيلفس بجيشه إلى ملاطية. ثم عبر الفرات ودجلة فقدم أمراء الكرج خضوعهم وضم الفسيلفس دولة داود إلى الإمبراطورية وعاد إلى القسطنطينية. وترك هذا كله أثراً في نفس الحاكم الفاطمي فأسرع يفاوض في السلم وخصَّ اورستيوس بطريرك أورشليم بالمفاوضة. فقام هذا البطريرك إلى أنطاكية. ومنها إلى القسطنطينية. فكان صلح بين الدولتين لعشر سنوات.
ومما يروى أن يوحنا البطريرك الأنطاكي فاوض زميله اورستيوس في أثناء مروره في أنطاكية في أمر كنيسة الكرج فتنازل له عن المال السنوي الذي كان يتناوله من كنيسة الكرج لصنع الميرون واحتفظ بحقه في أن يذكر هو وحده في الذبتيخة وفي أن يوفد إلى الكرج اكسرخوساً يتفقد أحوال الكنيسة فيها ويجمع دخل أوقاف الكرسي الأنطاكي منها.