الدين والدولة

عصر الروم الذهبي
843-1025

المسيح هو الملك: وتنصرت الحكومة وفاخرت بمسيحيتها واعتزت. وأصبح السيد المخلص في نظر الحكومة والشعب هو الملك. وأصبح الإنجيل دستور الدولة. فكنت إذا قصدت القصر الملكي تقرأ على جدران بعض البنايات العبارة “المسيح الفسيلفس” أو “المسيح الإمبراطور”. وقد تسمع وأنت في طريقك إلى القصر جماعات يرتلون. فإذا ما اقتربوا منك وجدتهم جنوداً حاملين الصليب عالياً هاتفين: “المسيح المنتصر”. وإذا ما وصلت إلى مداخل القصر وجدت فوق العتبات أيقونات مقدسة تمثل المسيح مرتدياً لباس الملك متوجاً. وإذا دخلت ظننت أنك في كنيسة لا في قصر ملكي. فمن أيقونة العذراء والدة الإله حامية العاصمة إلى ذخيرة تضم عود الصليب إلى أيقونة عجائبية تمثل السيد مصلوباً كان قد ظفر بها ابن شمشيق (يوحنا جيمسكي) في أثناء مروره في بيروت إلى زاوية مكرمة تحفظ حذاء السيد الذي وجده ابن شمشيق في جبيل إلى المنديل الذي كان لا يزال يحمل رسم وجه السيد وقد احتفظت به الرها أكثر من تسعة قرون. وقد تقف قليلاً متأملاً مصلياً فيدخل القاعة رئيس أساقفة تتبعه حاشيته وقد جاء خصيصاً لتكريم هذه الآثار وتجديد التكريس.

وقد تكون أحد أعضاء الوفود الإسلامية المفاوضة فيتاح لك الدخول إلى قاعة العرش. فتجد العرش عرشين أحدهما عليه الإنجيل الطاهر وهو عرش المسيح الملك والثاني لنائبه على الأرض الفسيلفس. فإذا قابلت العرش الأول أو مررت من أمامه رسمت شارة الصليب بالأصابع الثلاثة وانحنيت إكراماً وإجلالاً. وقد تكون أحد القضاة الزائرين فيدفعك اهتمامك بالقضاء إلى الوقوف في دار العدل لاستماع المرافعة وصدور الأحكام فتذكر هناك أيضاً بأن الملك للسيد له المجد. فالقوانين والأحكام تستهل “باسم سيدنا يسوع المسيح” وقد تكون تاجراً تضطرك الظروف إلى زيارة أحد المصارف لتقبض تحويلاً مالياً معيناً فنتقد الدراهم والدنانير فتجد رسم السيد المسيح على أحد الوجهين.

وقد تكون عدواً محارباً في الجزيرة أو في سورية فتعد جيش الروم بعدد معين من الصلبان. وقد تمتنع في قلعة سيزر كما فعل بن كراديس في السنة 999 ثم تلتمس الأمان من ملك الروم وتشترط شروطاً فيجيبك إلى ذلك وينفذ إليك صليبه. وقد تقع الهدن بين الروم والمسلمين فينفذ ملك الروم صليباً من ذهب مرصعاً “أماناً لعدوه ووفاء بالشرط”.

الفسيلفس نائب المسيح: ولما كان الملك الحقيقي روحاً غير منظور أصبح الملك الملموس رمز الملك السيد ونائبه على الأرض: ثوبه ثوب الأيقونات وتاجه وصولجانه مشرفان بالصليب المقدس. ولما كانت ثيابه هذه هبة ربانية حملها الملائكة إلى قسطنطين الكبير أصبح المحل الوحيد اللائق بحفظها هو الكنيسة. وأمسى قصر الفسيلفس من حيث التخطيط وهندسة البناء وتزيين الزوايا والقبب والجدران أشبه بالكنيسة من أي بناء آخر. وأمست أبواب قاعة العرش تفتح وتغلق في أوقات معينة كأبواب الأيقونسطاس في الكنيسة. وقام العرش في حنيّه كعرش الأسقف في الكنيسة. وقضت هذه الصلة بين الفسيلفس وبين السيد الروح غير المنظور أن يظهر الفسيلفس ظهوراً على عرشه في الاستقبالات الرسمية دون أي كلام أو تبادل أفكار. وتغرد الطيور الذهبية وتزأر الأسود المصطنعة ويسجد الحاضرون ثلاث سجدات. وما هي إلا لحظة حتى يرتفع الفسيلفس نحو السماء فيختفي. وإذا قضت الظروف أن يستقبل الفسيلفس في باسيليقة المنيورة جلس على عرشه الذهبي صامتاً مسبل الجفنين. فإذا ما رغب في شيء رفع جفنيه ونظر إلى رئيس الخصيان. فتصدر إشارة عن هذا فيتم تنفيذ الأمر الصادر دون كلام. وتنتهي المقابلة عندما يرسم الفسيلفس شارة الصليب فيخرج الزائرون متراجعين خاشعين. وقضت نيابة المسيح على الفسيلفس بأن يشترك مع البطريرك في ممارسة بعض الطقوس الدينية فيخرج الاثنان إلى الشوارع بسحابة من البخور وموكب كبيرو. ويركب البطريرك حماراً أبيض ويمتطي الفسيلفس جواداً عربياً فيزوران في كل يوم جمعة كنيسة السيدة حامية العاصمة. وفي يوم الخميس الكبير يتفقدان العجزة في المآوي فيغسل الفسيلفس أرجل هؤلاء ويقبلها مذكراً بما فعل السيد له المجد.

وجاء في كتاب الاعلاق النفيس لابن رسته (903) أنه إذا خرج الفسيلفس إلى كنيسة الحكمة الإلهية مشى أمامه اثنا عشر بطريقاً وحمل هو بيده حقاً من ذهب فيه تراب. فإذا مشى خطوتين وقف ونظر إلى التراب وقبله وبكى. وما يزال يسير كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة. فيقدم رجل شيخ طشتاً وابريقاً من ذهب، فيغسل الفسيلفس يده ويقول لوزيره: إني بريء من دماء الناس كلهم. ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره ويأخذ دواة بيلاطس ويجعلها في رقبة الوزير ويقول له: دن بالحق كما دان بيلاطس.

وإذا دخل الفسيلفس الكنيسة ليصلي استوى على عرش خاص واعتبر ممسوحاً من الله لينوب عن المسيح في الأرض. واستحق التناول بيده من المائدة المقدسة. ولكنه لم يرئس الكنيسة كما توهم البعض.

وكان على الفسيلفس أن يراعي هذا التقليد في حياته الخصوصية. فكان كلما انتهى من الطعام كسر الخبز وشرب الخمر. وإذا ما جلس على المائدة جلس حواليه اثنا عشر شخصاً. وعند كثرة الضيوف كانت تقام اثنتا عشر مائدة. وفي ليلة عيد الميلاد كان عليه أن يدعو أفقر الفقراء لتناول الطعام معه. فالكل اخوان في المسيح. وكان يضيء غرفة نومه صليب وعدد من الكواكب. وكان يطل عليه من فسيفساء الجدران باسيليوس الأول المقدوني وعائلته وفي أيديهم الأناجيل!

ولما كان الفسيلفس نائب المسيح على الأرض كانت إرادته مطلقة وكان هو مصدر السلطة. فكان هو يسن الشرائع ويلغيها ويعين القضاة والوزراء ويعزلهم ويوافق على انتخاب البطريرك. وكانت سلطته مسكونية تشمل العالم بأسره فلا تقف عند حد جغرافي أو سياسي ولا يحق لمعترض أن يعترض عليها. وأصبح البطريرك الجالس إلى يمينه بطريركاً مسكونياً أيضاً له حق التقدم على سائر البطاركة بعد بطريرك رومة.

وضاقت لا بل تضاءلت صلاحيات مجلس الشيوخ مصدر السلطة في رومة القديمة فأضحى في هذين القرنين متفرجاً يشاهد الحوادث الجسام دون أن يكون له رأي فيها. وبات الزرق والخضر في جملة المتفرجين لا مجالس لهم ولا صلاحيات. واستبدلوا أهازيج القتال بتراتيل الصلاة يأتمرون بإشارة البروتوبسالطي بدلاً من سيف القائد المغوار.

الفسيلفس والكنيسة: والدولة والكنيسة عند الروم شخص واحد فالفسيلفس يتسلط على الجسم والبطريرك على الروح. ولا دولة بدون كنيسة ولا كنيسة بدون دولة. فالآباء رأوا في شخص قسطنطين الكبير حامياً داعياً فمنحوه لقب “المساوي للرسل” Isapostolos. ولم يتنازل أحد من خلفائه عن هذه المنحة. ونادى أعضاء المجامع المسكونية مراراً بالفسيلفس حبراً أعظم Pontifex Maximus ومن هنا نشأت في الأرجح هذه الامتيازات الروحية التي تمتع بها ملوك الروم في داخل الكنيسة كمنح ولي العهد اكليل الاكليروس والسماح للفسيلفس بالدفاع في أثناء مسحه فسيلفساً كأنه شماس ودخوله إلى الهيكل من الباب الملوكي وتناوله الذبيحة بيده على المائدة المقدسة. واضطر الفسيلفس في بعض الأحيان أن يتخذ موقفاً معيناً من بعض المشاكل العقائدية والإدارية الكنسية. فكان يلجأ في مثل هذه الظروف إلى دعوة المجامع المحلية أو المسكونية فيرعاها بعنايته وينفذ قراراتها. وتطرف بعضهم ففرض الحل فرضاً كما فعل هرقل عندما تبنى القول بالمشيئة الواحدة والفسالسة محاربي الأيقونات.

وتدخل بعض الفسالفسة للمحافظة على النظام وتنفيذ قرارات المجامع. فقضى أحد قوانين يوستنيانوس الكبير (535) بأن يحافظ هو على شرف الكهنوت فيقول كلمته في انتقاء الكهنة والأساقفة. وتدخل بعضهم أيضاً فقرر بعض الأعياد الكنسية. فيوستينوس الأول (518-527) هو الذي عمم الاحتفال بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الأول. ويوستنيانوس الكبير الذي ثبّت عيد دخول المسيح إلى الهيكل في الثاني من شباط. وموريقيوس هو الذي حدد الخامس عشر من آب عيداً لانتقال السيدة العذراء. ويعود الفضل في الاحتفال بعيد النبي الياس في العشرين من تموز الأول إلى باسيليوس الأول (867-886) فإنه كان شديد التعلق به والتوسل إليه. وفي السنة 1166 جعل عمانوئيل كومنينوس الأعياد نوعين منها ما تجب البطالة فيه طوال النهار ومنها ما تنتهي البطالة فيه عند الانتهاء من خدمة القداس.

ولم تنفرد كنائسنا بهذا التدخل في شؤونها. فقد تعرضت كنيسة روما أيضاً إلى مثل هذا التدخل في فسالسة الشرق وأباطرة الغرب. وهو أمر معروف يجمع عليه جميع المؤرخين. وكما ناضلت كنيسة روما في سبيل استقلالها كذلك فعلت كنائسنا. أو لم ينصح البطريرك نيقولاووس الفسيلفس لاوون السادس ألا يكون عثرة في سبيل الكنيسة وأن يتصرف بما يشرف مركزه العالي. ثم لما أصر الفسيلفس على موقفه ألم يمنعه البطريرك من الدخول إلى الكنيسة. والبطريرك بوليفكتوس ألم يعترض نيقيفوروس فوقاس عندما حاول الدخول من الباب الملكوكي لأنه تزوج من الثانية في حياة الأولى خلافاً للناموس. ثم ألم يمنع هذا البطريرك نفسه يوحنا جيمسكي من الدخول إلى الكنيسة إلا بعد أن يقوم بشروط معينة. وباسيليوس البطريرك ألم يرفض المثول أما مجلس القضاء الأعلى مصرّاً على المحاكمة أما مجمع مسكوني. وهل ننسى ما جاء في الابناغوغة بفضل فوتيوس العظيم. فالفسيلفس بموجب هذه المجموعة مسؤول عن الجسم أم الروح فإنها برعاية البطريرك صورة المسيح على الأرض. وهذا البطريرك لا تمس كرامته ولا يعتدى عليه. ولا يغيب عن البال أن كان على الفسيلفس أن يتسلم تاجه من يد هذا البطريرك وأن يعلن موقفه من بعض الشؤون الهامة إلى البطريرك قبل التتويج. وكان لهذا البطريرك سلطة روحية على الفسيلفس لأنه راعي النفوس ومنها نفس الفسيلفس ولأنه كان عراب الأمراء. وكان هو الذي يعلن شرعية ولادتهم.

وليس من العلم بشيء أن نماشي الأب مرتينوس جوجي فنلوم الكنيسة الأرثوذكسية لخضوعها إلى الفسيلفس جاعلين من هذا الخضوع نظاماً قضى بأن يكون الفسيلفس هو البطريرك Cesaropapisme وأن نضرب في الوقت نفسه عرض الحائط برأي كبار رجال الاختصاص أمثال اوستروغورسكي وفزيلييف وغريغوار وديل وغيرهم.

الإنجيل دستور الدولة: وقضت هذه الفلسفة الدينية السياسية بأن يُعترف عند الروم بقدسية الإنجيل الطاهر ووجوب تطبيق أحكامه. فأصبحت دولتهم ديموقراطية في تساوي أبنائها مطلقة مستبدة في تنفيذ مبادئ الإنجيل الشريف. ولم يبقَ فيها أي تفوق نظري لطبقة على سواها. وأصبح بإمكان أوضع الرجال أن يتسنَّم أعلى المراتب. أو لم يكن لاوون الأول لحاماً ويوستينوس الأول راعياً للخنازير وفوقاس قائد مئة ولاوون الثالث شحاذاً متسولاً وباسيليوس الأول فلاحاًَ ورومانوس ليكابينوس أفاقاً. أو لم يُنعت قسطنطين الخامس بالزبلي وميخائيل الثالث بالسكير وميخائيل الخامس بالقلفاط أي نقَّال البضائع؟ والفسيلفسات ألم تكن إحداهن خزرية وأخرى مغنية وغيرها مروضة للدببة. أو لم يكن عدد كبير منهن بنات موظفين عاديين؟!

وعملاً بتعاليم الإنجيل المقدس ترفع الفسيلفس عن الشموخ والتكبر فدعا إلى مائدته البؤساء والمتشردين. وفتح بابه لجميع الرعايا من عباد الله يلجونه أنى شاؤوا. واشتدت عنايتنه وعناية البطريرك أيضاً بالمرضى والمصابين والعجز. فكثرت المآوى والمياتم ولا سيما المستشفيات. وأشهر هذه المؤسسات دير الإله القوي Pantocrator الذي أنشأه يوحنا كومنينوس (1118-1143) في عاصمة ملكه وفيه مستشفى للرجال وآخر للنساء وثالث للأمراض المعدية. وكان يؤمه طبيب أستاذ وعقاقيري ورهط من الطلبة. وكان يفاخر الأستاذ الطبيب بطريقته الخصوصية في تنظيف أدوات الجراحة وتطهيرها.

وساوى الروم بين الرجل والمرأة. فكان للنساء شأن كبير في الحياة الاجتماعية. وشاطرن أزواجهن السلطة في كثير من الأحيان. وشاركت الفسيلسة زوجها حق السيادة وسبقته إلى تقبل طاعة الشعب وولائه. وكان الشعب لدى خروجها من الكنيسة يهتف لها: “أهلاً بالاوغسطة المحمية من الله، أهلاً بلابسة الأرجوان، أهلاً بمحبوبة الكل”.

ولم تكن هذه الديمقراطية وليدة نضج سياسي أو فلسفي ولكنها تأتت بطبيعة الحال عن تقبل الإنجيل وتقبيله واتخاذه دستوراً للدولة. فالدافع نفسه الذي جعل من الفسيلفس نائباً للمسيح على الأرض أدى إلى السعي لجعل المجتمع الأرضي مماثلاً قد المستطاع للمجتمع الرباني. ومن هنا هذه القسوة في العقوبات عند الروم: في قطع يدي المزور وحرق المرتشي. فالقانون إلهي والخروج عليه خطيئة تستوجب نار جهنم!

arArabic
انتقل إلى أعلى