عودة إلى الكلام عن المشيئتين والاستطاعتين والعقلين والمعرفتين والحكمتين

إن طبيعة البشرية -وقد اتخذها المسيح- قد أضحت هي المنتصرة على الشيطان: لمّا كنّا نقول بأنّ المسيح إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ، فيتحتم علينا أن نُسلِّم تسليماً تاماً بأنّ له من القوى الطبيعية كلّ ما هو للآب ولأمّه. فإنّ المسيح قد صار إنساناً لكي ينتصر ما كان مقهوراً. والذي هو قادرٌ على كل شيء لم يكن عاجزاً -نظراً إلى مطلق حريّته وقدرته- أن ينتصر بذاته للإنسان من الطاغية. ولكنّ ذلك يكون عرضة لاحتجاج الطاغية على أنه -وقد كان المنتصر على الإنسان- قد أصبحت الغلبة لله. إذاً فلكي يُظهر الله المغلوب منتصراً، فقد شاء برأفته ومحبته للبشر أن يصير إنساناً ليصلح المثل بالمثل.

إن للمسيح نفساً وعقلاً، خلافاً لقول الأبوليناريين: وليس ثمّة من يعترض على أن الإنسان حيوان ناطق وعاقل إذاً كيف يكون المسيح إنساناً، إذا كان قد اتخذ جسداً بلا نفس أو نفساً غير عاقلة؟…- إن من كان هكذا فليس هو إنساناً!- وماذا نربح من تأنس المسيح إذا كان أول المتألّمين لم يخلص ولم يتجدد ويتقوَّ بارتباطه باللاهوت؟ فإنه ليس من شفاء لمن لم يتخذه المسيح! وعليه، فقد اتخذ المسيح الإنسان كلّه مع أجمل ما فيه، ولو ساقطاً تحت الضعف- لكي يهبه الخلاص كله. وإنه لم يكن قط عقلٌ بلا حكمة وخالٍ من المعرفة. فإذا كان العقل بلا نشاط ولا حركة فهو غير موجود البتة.

العقل في الإنسان المخلوق على صورة الله وسط بين كلمة الله والجسد: إذاً لمّا أراد الله الكلمة أن يجدّد فينا صورة الله، صار إنساناً. -وما هي يا ترى صورة الله سوى العقل؟… إذاً أيكون الكلمة قد أعرض عن الأفضل واتخذ الأدنى؟… فإنّ العقل في وسط بين الله والجسد. ونسبته إلى الجسد أنه ساكنٌ فيه. أما نسبته إلى الله فهو على صورته. إذاً فإنّ العقل يختلط بالعقل ويقف في الوسط بين صفاء الله وكثافة الجسد. فلو كان الربّ قد اتخذ نفساً غير عاقلة، لكان اتخذ نفس حيوان بلا نطق!

جواب من الكتاب المقدس على اعتراض الأبوليناريين: إذا كان الإنجيلي قد قال بأنّ “الكلمة صار جسداً”، فليكن معلوماً أنه يُقال في الكتاب المقدس عن الإنسان تارةً نفساً-كما ورد في سفر التكوين، وكرّره كتاب الأعمال: “وأرسل يوسف فاستدعى يعقوب أباه وجميع عشيرته وخمسةً وسبعين نفساً” (أعمال7: 14)، وتارةً جسداً -كما جاء في أشعيا (40: 5) ولوقا: “ويعاين كل جسد خلاص الله” (لوقا3: 6). فلم يصر الرب إذاً جسداً بلا نفس وبلا عقل، بل صار إنساناً. وهو نفسه يقول: “تطلبون قتلي وأنا إنسان قد كلمتكم بالحق” (يوحنا8: 40) إذاً فإن المسيح قد اتخذ جسداً حيّاً بنفس ناطقة وعاقلة، وهي تقود الجسد ويقودها لاهوت الكلمة.

إرادة المسيح البشرية خاضعة لإرادته الإلهية: كانت إذاً للمسيح الإرادة الطبيعية، إن بصفته إلهاً وإن بصفته إنساناً. وكانت البشريات فيه تسير بقيادة إرادته الإلهية، غير مدفوعة بنزعة خاصة، بل مريدة ما كانت تشاؤه إرادته الإلهية. فلمّا أطلقت لها المشيئة الإلهية السبيل، تألمت هي تألماً طبيعياً في حدود ما يختص بها. ولما استعفى إذاً من الموت كان ذلك استعفاءً طبيعياً، بإرادةٍ وسماح من مشيئته الإلهية، فاستعفى إذاً من الموت ونازع وجزع. ولما أرادت مشيئته الإلهية أن تقبل الموت مشيئته البشرية، كانت الآلام برضىً منها. فإن المسيح لم يسلّم ذاته للموت طوعاً، على أنه إله فحسب، بل كان ذلك على أنه إنسان أيضاً. وقد منحنا أن نتشجّع نحن أيضاً تجاه الموت وهو القائل قبل آلامه الخلاصية هكذا: “يا أبتِ، إن كان يُستطاع فلتعبر عني هذه الكأس” (متى26: 39). فمن الواضح إذاً أنه كان سيشرب الكأس بصفته إنساناً وليس بصفته إلهاً. فهو إذاً، بصفته إنساناً، قد أراد أن تبتعد عنه الكأس. وكانت هذه الكلمات عن فزع طبيعي. و”لكن لا تكن مشيئتي”-أي مشيئتي البشرية المغايرة لمشيئتك في الجوهر-، “بل مشيئتك”- أي الإلهية المساوية طبيعياً في الجوهر لمشيئتي (لوقا22: 42). في الحقيقة إنها لكلمات صادرة عن شجاعة فضلى، فإن نفس المسيح قد امتحنت أولاً في ضعفها الطبيعي، في شعورها بالخروج من الجسد، مع تعلّقها الطبيعي به، وقد كان الرب قد صار إنساناً بالحقيقة عن رضىً منه، ثم تقوّى تجاه الموت معتصماً بالإرادة الإلهية. لذلك فقد كان هو إلهاً كاملاً مع تأنّسه، وإنساناً كاملاً مع لاهوته. وهو نفسه -كإنسان- قد أخضع فيه وبه الإرادة البشرية لله الآب، باذلاً ذاته مثالاً أسمى، وصار خاضعاً للآب.

لا قيمة لعقل الإنسان إذا خلا من الإرادة: وإنّ الرب قد شاء مشيئةً حرّة بإرادتيه الإلهية والبشريّة، لأنّ الإرادة الحرّة قد زُرعت عموماً في كل طبيعة ناطقة. وما الفائدة يا تُرى من النطق إذا لم تكن الطبيعة الناطقة حرّة؟… فمن حيث أنّ الخالق قد بذر في الحيوانات العجم نزعة طبيعية تقودها حتماً إلى قيام طبيعتها الخاصة، وهي، لخلوّها من النطق، لا تستطيع القيادة، لكن النزعة الطبيعية تقودها. لذلك، فمع وجود النزعة، يحصل الاندفاع فوراً نحو الإنجاز. وهو يتم بدون نطقٍ ما أو مشورة أو تبصّر أو حكم. ومن ثم فهي لا تُمتدح ولا تُطّوّب لفضيلة سعت إليها، ولا تعاقب لشرّ اقترفته. أمّا الطبيعة الناطقة فهي أيضاً لها نزعتها الطبيعية تحركها ولكنّ المنطق يقودها وينظمها على ما يحفظ ما هو بموجب الطبيعة، لأن ميزة النطق هي هذه: المشيئة الحرّة التي نسمّيها في المنطق الحركة الطبيعية. لذلك فهي تُمتدح وتُطوّب في سعيها إلى الفضيلة وتُذمّ في سعيها إلى الشرّ.

التمييز في المسيح بين الإرادتين الإلهية والبشرية: فمن ثم لقد كانت نفس المسيح تشاء مسيّرة تسيراً حراً، أي كانت تشاء لأنّ مشيئتها الإلهية قد كانت تشاؤها أن تشاء، لأنّ جسد المسيح لم يكن يتحرك بإشارة من الكلمة. وموسى وسائر القديسين كانوا يتحركون بالإشارة الإلهية. لكن المسيح وحده -لكونه إلهاً وإنساناً- كان يُصدر مشيئته بموجب طبيعته الإلهية والإنسانية. لذلك، فإن مشيئتي الربّ لا تختلفان الواحدة عن الأخرى في رأيهما، بل في قوتهما الطبيعيتين. فقد كانت مشيئته البشريّة فقد ابتدأت في الزمن وهي نفسها قد قاست الآلام الطبيعية البريئة. ولم تكن بطبيعتها قادرة على كل شيء. ولكن – أصحبت بالطبيعة والحقيقة إرادة كلمة الله- فقد صارت قادرة على كل شيء.

arArabic
انتقل إلى أعلى