Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

هذا هو إيمان الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية.

وقد جاء تحديد المجمعين الرابع والسادس سلبياً (1) لأن العقل البشري قاصر عن فهم سر اتحاد اللاهوت والناسوت.

استعملا ألفاظ نفي لا ألفاظ إيجاب. نفيا عن الاتحاد أن يكون اتحاد امتزاج أو انقسام أو… أما ماهية هذا الاتحاد فهي سر التقوى. اللاهوت الآبائي والمجمعي يقوم على الإيمان لا على العيان البصري أو العقلي. لذلك يلعب اللاهوت السلبي الذي ينفي الصفات عن الله دوراً رئيسياً لدى الأرثوذكس. فكلما دنونا من الله اقتنعنا وازددنا إيماناً بأنه غير معلوم، غير مدرك، غير منظور، غير ملموس، غير محدود، غير مقترب إليه، غير قابل للوصف وو… (2)

وهذا الموقف اللاهوتي واضح في تحديد المجمعين الرابع والسادس. فنفى عن اتحاد اللاهوت والناسوت الاختلاط و و… ولم يقل ما هو نوع هذا الاتحاد العجيب. وهكذا نعلم أن اللاهوت السلبي أصيل لدينا قبل ظهور كتب ديونيسيوس المنحول في مطلع القرن السادس.

ولكن المجمع الرابع كان نقطة انطلاقة لمشادات لاهوتية وما زالت قائمة حتى اليوم. وكان الجدل الرائع في الثلث الأول من القرن السادس مجدياً وإيجابياً فانتهى إلى عرض لاهوتي بارع على يدي لاونديوس الأورشليمي تبناه المجمع الخامس ومكسيموس المعترف واللاهوت الأرثوذكسي-الكاثوليكي حتى يومنا هذا.

وقبل أن نبدأ التحليل نؤثر أن نستشهد ببعض نصوص آباء الكنيسة القدامى ذات المدلول الكبير.

لدينا من القرن الثاني نصوص باليونانية من ميليتون مدينة سرديس الواقعة إلى الشمال الشرقي من أفسس وأبوليناريوس مدينة بيرابوليس القريبة من كولوسي ولاذقية آسيا الصغرى.

لقد جمعتها وعلقت عليها مطولاً في مجلد واحد مجموعة الآباء الفرنسية الحديثة (المجلد 123). ماذا نقرأ فيها؟

إنها شهادة ناطقة بوضوح ما بعده من وضوح بأن يسوع المسيح الواحد هو الله والإنسان، هو خالق كل شيء الذي صار إنساناً وقاسى الآلام والموت وقام من القبر. وأي استشهاد لا يغني عن مطالعة كامل النص. علمنا أن نحت المعنى الغني للفظة أقنوم تأخر حتى القرنين الرابع والخامس. لا نعثر هنا على تعريف فني. ولكن النص برمته يدور حول واحد أحد هو الله المتأنس المتألم المائت القائم من القبر. وقد أكثر ميلتون من استعمال يوحنا الإنجيلي عبارة “والكلمة صار جسداً” (1: 14). وهكذا يستغرب مطالع هذا الكتاب نشوب الصراع النسطوري حول وحدة شخص الرب يسوع، وكذلك تردد ثيوذوريتوس أسقف قورش (ولو فلسفياً بحسب رأي مايندورف) في استعمال عبارات مثل “الله تألم”. وعبارات ميليتون تنافي زعم مايندورف أن لفظة “جسد” لم تكن تعني الإنسان برمته. وتنافي أيضاً نظرية غريلماير القائمة على “الكلمة-الجسد”. فميليتون أفاض في استعمال لفظة التأنس فغلب لديه مفهوم “الكلمة-الإنسان”.

لقد أطلق ميليتون لفظة “طبيعة” على لاهوت المسيح في كلمة له عن الصليب بقي لنا منها الترجمة السريانية المترجمة في الكتاب المذكور إلى اللاتينية والفرنسية (الصفحتان 240 و241).

وأطلق لفظة “طبيعة” أيضاً على ناسوت المسيح. قال: “… حقيقة نفسه وجسمه وواقعيتهما، وطبيعته الإنسانية physis المشابهة لطبيعتنا… ألوهته المختفية في الجسد… إذ كان إلهاً وإنساناً تاماً معاً هو نفسه الذي عرفنا بجوهريه ousiai: ألوهته… إنسانيته… ألوهته.. مع الله منذ الأزل” (ص 226).

ففي الصفحتين 240 و226 المذكورتين نرى ميليتون يقول:

  1. ليسوع طبيعة physis إلهية وطبيعة بشرية.
  2. ليسوع جوهران ousiai إلهي وبشري.
  3. يسوع إله وإنسان تام. هو الله منذ الأزل (أيضاً ص 63 و65 و228 و245).
  4. ناسوت يسوع ذو نفس وجسم.
  5. هو نفسه o autos (باليونانية المتسعملة 8 مرات في تحديد المجمع الرابع) عرفناه بجوهريه ousiai.

ونضيف نتفاً أخرى من أقواله واسعة الدلالة، قال:

“قام من بين الأموات كإله، إذ إنه بالطبيعة إله وإنسان. الذي هو الكل: الكلمة Logos… الابن… الخروف، كمتألم، الإنسان كمدفون، الله كقائم. هذا هو يسوع، المسيح” (ص: 64)، “دم الرب” (ص: 76)، “الرب… إذ ارتدى المتألم يرفعه إلى أعالي السموات” (84)، “اتخذ على ذاته آلام من كان يتألم، بالجسم القابل للتألم أباد آلام الجسد، وقتل بروحه الذي لا يموت الموت القاتل…” (ص: 96 وكل الصفحة 89 أيضاً)، “لماذا يا إسرائيل ألقيت بربك في الآلام…” (ص: 106)، “الذي علّق الأرض هو معلق، الذي ثبت السموات هو مثبت، الذي وطد الكل هو ممسك على الخشبة، الذي هو السيد يهان” (ص: 116)، “إذ هو الرب، إذ ارتدى الإنسان، وإذ تألم من أجل الذي كان يتألم…” (ص: 121)، “هذا هو الذي صنع السماء والأرض… الذي تجسد في عذراء، الذي علّق على خشبة… هو الألف والياء… هو الرب…” (ص: 124).

أما أبوليناريوس ييرابوليس فقال: “الضحية الكبرى هي ابن الله بدلاً من الحمل، الذي تم تقييده هو الذي قيّد القوي، والذي دين هو ديان الأحياء والأموات” (ص: 245).

فإلى جانب هذا الوضوح اللاهوتي نرى في النص أساساً متيناً للترانيم الدينية الأرثوذكسية. وربما كان ميليتون نفسه واقعاً تحت تأثير الترانيم الدينية. فنفحات عظته نفحات إنشاد وترنيم فصحي.

أما أثناسيوس الكبير فقال:

“مساوٍ في الجوهر للجسد الذي هو من طبيعة أرضية ومساوٍ في الجوهر للآب… فمن الأرض طبيعة كل الجسد… المولود من مريم كان بشراً بالطبيعة… وصار إنساناً” (3).

وأيضاً “تم الاتحاد بين الطبيعة الحقيقية للاهوت والطبيعة الحقيقية للناسوت، بصورة يتأمن معها الخلاص والتأله” (4).

وقال غريغوريوس اللاهوتي: “المسيح إنسان تام وإله تام، لأجل الإنسان الذي سقط برمته، لكي يعطيك أنت بكليتك الخلاص… وذلك إذ صار إنساناً مثلك بمقدار ما عليك أن تصير إلهاً بواسطته” (5). “توجد طبيعتان (في المسيح) الله والإنسان” (6). ويستعمل هنا “طبيعة physis للناسوت”. وأيضاً “شخص واحد في طبيعتين” (7). وأيضاً “لقد تنازل إلى أن يكون واحداً مصنوعاً من اثنين. طبيعتان تلتقيان في ابن واحد لا اثنين” (8). “اتحاد الطبيعتين” (9).

وقال أمبروسيوس: “الإرادة التي سمّاها إرادته هي لي لأنه كإنسان حمل كآبتي وقال ليس كما أشاء أنا بل كما تشاء أنت… وإذ يملك الطبيعتين الإنسانية واللاهوتية فقد تحمل الآلام في ناسوته بصورة أنه بدون تمييز يسمى الذي تألم رب المجد وابن الإنسان معاً” (10). وأيضاً: “أخذ (يسوع) إرادتي أخذ كآبتي” (11).

وقال امفيلوشيوس: “ميزوا لي الطبيعتين physis، طبيعة الله وطبيعة الإنسان! لأن يسوع لم يستحل من إله إلى إنسان بعملية سقوط”. وأيضاً: “يسوع المسيح احتفظ (بعد القيامة) بخاصية الطبيعتين المختلفتي الجنس (hétèrogènes) وذلك بدون امتزاج” (12).

وقال كيرللس الإسكندري:

“نرى أن الطبعتين اتحدتا فيما بينهما باتحاد لا ينفصم بدون امتزاج أو استحالة، لأن الجسد هو جسد وليس الألوهة، وإن كان قد صار جسد الله” (13). “في المسيح، ارتفعت طبيعة المسيح إلى جدّة الحياة. إن كلمة الله ضم حقاً إليه تمام طبيعة البشر، لكي ينقذ الإنسان برمته. فما لم يؤخذ لم يخلص… طبيعة الإنسان في المسيح لكي يباركها الله الآب فيه ولكي تعلن به منتصرة على الموت” (14).

“صار الكلمة إنساناً بصورة لا توصف ولا تدرك وأخذ لقب ابن الإنسان… وبالرغم من اختلاف الطبيعتين المجتمعتين في وحدة حقيقية فلا يوجد إلا مسيح وابن وحيد. فلا تلغي الوحدة فرق الطبيعتين ولكن بالعكس اللاهوت والناسوت يؤلفان الرب يسوع المسيح الوحيد بالتقاء سري لا يوصف” (15).

“المسيح الوحيد الواحد ليس مضاعفاً بالغرم من أننا ندركه مؤلفاً من جوهرين متميزين متحدين بلا افتراق. كما أننا لا نتصور رجلاً مؤلفاً من جسم ونفس كأنه مضاعف بل وحيد بالرغم من أنه مؤلف من هذين العنصرين” (16).

“إن الكلمة المتحد على موجب الاتحاد بحسب الطبيعة (الطبيعة هنا بمعنى أقنوم في مفهوم كيرللس) enosis kata physin وغير المتحول إلى جسد، قد حقق سكنى مشابهة لسكنى النفس مع الجسد” (17).

وقال في ميمره الفصحي: “الطبيعة الإلهية المحيية والطبيعة البشرية التي هي أرضية، من الطبيعتين ظهر عمانوئيل واحد”. ويتابع شرح عدم استحالة الطبيعتين (18). ويستشهد بأثناسيوس الكبير: “في كائن واحد ذاته يتم اتحاد عنصرين مختلفين في جوهرهما، أعني الألوهة والإنسانية. من هذين العنصرين لا يوجد إلا مسيح واحد” (19).

وبيوليوس أسقف روما: “إن ابن الله لم يأخذ إنساناً بصورة أنه يوجد آخر إلى جانبه، ولكن مع كونه إلهاً كاملاً صار بالوقت ذاته إنساناً كاملاً” (20).

وقال داماسوس بابا روما (366-384): “إذا كان الله لم يتخذ إلا إنسانية غير كاملة فتصير عطية الله غير كاملة وكذلك خلاصنا لأنه لا يتخلص آنذاك الإنسان برمته… فكيف يمكن أن نتصور أن لا يكون العقل sensus بحاجة إلى الخلاص في ملء الأزمنة، هذا الذي خطئ قبل أي شيء آخر؟… الله بتمامه اتخذ الإنسان بتمامه” (21).


(1) أي غير منفصلتين، غير منقسمتين، غير ممتزجتين…. إلخ.. (الشبكة)

(2) هنا لا بدّ لنا أن نذكر قول الملحدين، بأن هذه الصفات غير.. غير.. غير… تعني بأنه غير موجود. هذا التفسير يوحي بمدى ضيق أفق وفهم هؤلاء المُلحدين. فنحن لا نصف الله عندما نقول بأنه غير… غير… غير.. ولكننا نعترف بهذا بأن لغتنا البشرية لا يمكنها أن تحدّ الله أي تصفه. كأن نقول في اللغة العلمية عن عنصر ما أن متناهي في الصغر. أو أن نقول بأن الكون غير محدود او غير متناهي في الكبر. هل هذا يعني أن الكون لا وجود له مع أننا نعيش فيه ونحن جزءاً منه؟ بالطبع لا! ولكن هذا يعني بأننا حتى الآن، علمياً، لم نستطيع أن نكتشف هذا الكبر وبالتالي لا نستطيع أن نُعبر عنه. ومثالاً ابسط من ذلك، وهو أن نسأل: “كم مرة يتكرر العدد 3 في حاصل تقسيم 10 على 3″؟ الجواب هو لا نهائي. وغير نهائي، أو غير محدود. وهنا “غير” لا تعني أنه غير موجود، ولكنها تعني عدم مقدرتنا على اعطاء الوصف الحقيقي لاستحالة ادراكنا لهذا التكرار. وهكذا هو لاهوتنا الأرثوذكسي، فهو ينطلق من حقيقة أن الله لا يمكن أبداً ان نكتشف كنهه وماهيته وبالتالي نعبر عن إيماننا به باللاهوت السلبي، إلا فيما كشف لنا عن نفسه…. (الشبكة)

(3) الرسالة إلى أبيكتوس: 4-8

(4) مين 26: 293-296 و93.

(5) 36: 424

(6) الرسالة إلى كليدونيوس، وهي أروع ما كتبه في الموضوع.

(7) الخطبتان 38: 13 و 45: 9.

(8) الميرم 37: 2.

(9) الميمر 30: 8.

(10) في الإيمان المسيحي 2، 7: 53-58.

(11) مين اللاتيني 16: 570.

(12) المقطعان 11 و12 في مين 39.

(13) مين 77: 232.

(14) مين 74: 89 استعمل عبارة غريغوريوس.

(15) مين 77: 45.

(16) مين 77: 121.

(17) مين 77: 112.

(18) مين 77

(19) مين 76: 544.

(20) مين 77: 572.

(21) مين اللاتيني 13: 352-353.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى