ملك الملوك

مُلْكُ المسيح أمر إيمانيٌّ بحت، يَقبله بطهرٍ وعدم انفعال من ارتضى ابنَ الله الوحيد سيّداً على حياته، وتجنَّبَ الخلط بين المواقف المؤسّسة على الحق وبين مفاهيم هذا العالم الساقط.

وواقع الحال أن اليهود أنفسهم أرادوا يسوع ملكا عليهم، وهم لهم كتبهم وسِيَرُ ملوكهم، وينتظرون، وفق وعدٍ إلهي، من هو “ملك الملوك ورب الأرباب”. غير انهم سقطوا في ما يجهلون، لأنهم لم يريدوا المسيحَ ملكا على قلوبهم ليتوبو ويخْلُصوا، وإنما أن يتزعمهم ليتخلصوا من احتلال جيش غريب، ورجوا أنهم به يتمكنون من أن يفرضوا سلطتهم ويحكموا ما طالت ايديهم بلادا وعِبادا. ولأجل هذا فإن يسوع هرب منهم، واعتبر أن هذه الإرادة من الشيطان.

طَرَح الإنجيليّ متّى -وقد كتب اولاً لليهود- فكرة “المسيح الملك” منذ بدء سفره، لما كتب نَسَبَ يسوع وأثبت انه ينحدر من نسل داود الملك (راجع الاصحاح الاول). وداود هو صاحب الوعد “مِن نسلِكَ أُجلِسُ على كرسيك”، وهو الملك الأبرز في اسرائيل وبآن صورة الملك الآتي (انظر، ايضا في انجيل لوقا، ما قاله الملاك لمريم: “ويعطيه الرب الإله كرسيَّ داود ابيه، ويملك على بيت يعقوب الى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” 1: 32 و33). ونرى أن متى، في ما يروي قصة ميلاد يسوع، يخبر عن مجوس -وهم، على العموم، ملوك -أتوا من المشرق ليسجدوا لمن هو “ملك اليهود”، الذين لما سمع “هيرودس الملك” بأمرهم -وقد كان يخشى من وجودِ منافسٍ له على العرش- “اضطرب وجميع اورشليم معه” (راجع: الاصحاح الثاني)، وهذا، لا شك، مطلّ على احداث صلب المسيح، ولدلالة قاطعة على أن المسيح هو الملك الحقيقي. غير أن الإنجيلي متى لا يوضح تماما، في إصحاحاته الاولى، ولأسباب لاهوتية، الجواب على السؤال الأساس الذي طرحه المجوس: “أين هو المولود ملك اليهود؟”، ويحفظه الى آخر انجيله. على الرغم من كل شيء استطاع المجوس أن يَصِلوا الى مكان الطفل، ويسجدوا له ويقدموا له الهدايا، وكل هذه الأمور تحدُث، عادة، في أعراف زيارات الملوك والرؤساء بعضهم لبعض، وهي هنا علامات اعتراف من “ملوك المشرق” (الوثنيين) بأن هذا الطفل هو حقا “ملك الملوك”.

ونقرأ في انجيل متى ايضا (21: 1-11. انظر ايضا: مرقس 11: 1-10؛ لوقا 19: 28 -40) أن اليهود، قبل صلب يسوع بأيام قليلة، هتفوا له كملك في دخوله الى اورشليم. ومع أنهم رأوه جالسا على جحش ابن أتان فرشوا له ثيابهم، وقطع بعضهم “أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق”، ورافقه الأطفال وهم يرتلون له: “هوشعنا لابنِ داود”، اي للملك المنتظَر، “مبارك الآتي باسم الرب”. وهذا، من جهة، يدلنا على أن النبوءات القديمة تحققت فيه، فقد قال زكريا النبي: “هوذا مَلِكُكِ يأتيكِ صِدّيقا مخلِّصا وديعا راكبا على حمار وجحش ابن أتان” (9: 9؛ انظر ايضا مزمور 8: 2)، ويكشف، من جهة ثانية، أن دخوله المتواضع المسالم لا يخفي جبروته او يحجب ملكوته، لأن الذي “السماء كرسيه والارض موطئ لقدميه” إنما أتى ليكمل خلاصنا ويحررنا من “بهيمية الخطيئة” ووطأتها.

ماذا في آخر انجيل متى؟ لقد قرر اليهود قتل المسيح، وهو قرار اتُّخذ منذ ظهور السيد في البَشَرة -الامر الذي يؤكده ايضا الرسول يوحنا في إنجيله- واختاروا الصلب لمن لا لعنة عليه ولا ذنب. وبعد أن استهزأوا كثيرا به أخذوه الى موضع “يقال له جلجثة”… وصلبوه وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة: “هذا هو يسوع ملك اليهود” (انظر: متى، الاصحاح 27). ونفهم أن متى لم يُجِب صراحة عن السؤال الذي طُرح في بدء انجيله، لأنه انطلاقا من صلب يسوع وموته فقط يمكن الكلام عن مُلْكه.

ما بين مُلكٍ أرضيّ هرب منه السيد، وبين ملكه الحقيقي كما هو بارز من خلال تواضعه وصلبه وموته، فرق كبير ودرس أكبر، وذلك لأن يسوع المسيح يملك على الودعاء والمتواضعي القلب، وهؤلاء فقط “يجدون الراحة” ولا يقلقهم شيء. لا شك أن المسيح مات حبا بالناس، هذا هو سر ملكه، ليس المهم عنده أن يحتل “جميعَ ممالك العالم ومجدها” -وهذا عَرَضَه عليه بآن اليهودُ والشيطان- وإنما أن يسود القلوب التي تمجده، اي التي “تقبل كلماته دون فحص”، كما يعلّم القديس يوحنا الذهبي الفم. ولذلك أحباؤه لا يهتكون السر او يشوّهونه.

ما يسيء بشكل مباشر الى هذه الحقيقة ويشوّه معالمها هو ما شاع كثيرا في هذه الايام الاخيرة، اذ نرى صورة للممثل الإنكليزي روبرت باول الذي لعب دور البطولة في فيلم “يسوع الناصري”، ملصقة في أعلى زجاج السيارات، ومكتوبا فوقها عبارة “ملك الملوك”. وفي ما نتساءل عن حكمةٍ من وراء هذه الصورة وهاتين الكلمتين، نبدي أن المسيح -ولو أن الصورة ليست صورته- ليس سلعة تُزيَّن بها السيارات، وإنما القلوب الممتلئة بمحبته تشهد له وتُظهر انها تطيعه ويسودها. المسيحيون الحقيقيون -من دون أن ندين احدا- لا يهملون فرادة طرائقهم اذا أرادوا أن يدلّوا على التزامهم بإيمانهم، وهم لا يتاجرون بشعائر دينية، او يُغلبون امام حساسيات وانفعالات، وهم تالياً لا يروّجونها. علما بأن يسوع دان التمظهر عندما وبخ الفريسيين، وهم الملتزمون حروفَ الشريعة وخارجَها ومهمِلون الروح.

المسيح ملك الملوك، هذا صحيح إن فهمنا أن “الملوك” هم البشر جميعا، وأردناه ملكا علينا اولاً، على حياتنا ومواقفنا وما اليهما. غير هذا هراء وانفعال.

عن نشرة رعيتي 1997

arArabic
انتقل إلى أعلى