يسوع ابن داود

في إنجيل لوقا (٣٥:١٨-٤٣)، يصرخ الأعمى نحو الربّ يسوع العابر من أمامه مسمّياً إيّاه “يسوع ابن داود”، وطالباً إليه أن يرحمه. لم يرفض يسوع أن يُدعى بهذا الاسم، مع العلم أنّ هذا الاسم لا يعبّر تعبيراً كاملاً عن شخصه ورسالته. فالمسيح الذي انتظره اليهود كان من المفترض أن يأتي من نسل داود، كي يعيد بناء مملكته. ذلك أنّ حكم داود الملك وشخصيّته اكتسبا بعداً مثاليّاً في التاريخ، حتّى صار داود مثال المسيح. فداود هو مختار الله (صموئيل الأوّل ١:١٦-١٣)، والمتّكل على الله والمستسلم له، إذ يقول “فليصنعْ بي الربّ ما يحسن في عينيه” (صموئيل الثاني ٢٦:١٥).

يتّفق اسم “يسوع ابن داود” مع تحقيق النبوءة التي وضعها الله على لسان ناتان النبيّ القائل لداود: “متى تمّت أيّامك واضّجعت مع آبائك، سأقيم مَن يليك من نسلك الذي يخرج من صلبك وأقرّ مُلكه. فهو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أقرّ عرش مُلكه إلى الأبد. أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً” (صموئيل الثاني ١٢:٧-١٤). هذا القول النبويّ الذي يُعتبر أولى النبوءات عن مجيء المسيح من نسل داود، يتجاوز شخص داود أو خليفته سليمان، لأنّ أبعاد النبوءة تشير إلى خلف مميّز يرضى الله عنه. المقصود، إذاً، في هذا النصّ “يسوع المسيح”، وإلاّ لن يستقيم معنى عبارة “إلى الأبد”، ونحن نعلم أنّ سليمان وخلفاءه انتهوا عن يد الأشوريّين، وانتهى كلّ شكل من أشكال الحكم مع الجلاء الثاني إلى بابل، وخراب أورشليم.

في السياق عينه، تأتي تتمّة النبوءة الناتانيّة المذكورة أعلاه، حيث يضيف النبيّ متوجّها إلى داود: “بل يكون بيتك ومُلكك ثابتَين إلى الدهر أمام وجهك، وعرشك يكون راسخاً إلى الأبد” (صموئيل الثاني ١٦:٧). لو كان الأمر يتعلّق فقط بأولاد داود كملوك لقلنا أنّ النبوءة لم تتحقّق، إذ اندثر مُلكهم وبادوا كافّة. لا يمكن النبوءة أن ترى تحقيقاً لها إلاّ إذا آمنّا بأنّها تعني الربّ يسوع الذي هو من نسل داود بحسب الجسد، والذي ثبت وسيثبت عرشه إلى الأبد في إسرائيل الجديد، أي الكنيسة.

وفي ختام النبوءة يقول ناتان النبيّ: “لأنّك أنت يا ربّ قد أعلنت على مسمع عبدك قائلاً إنّي أبني لك بيتاً” (صموئيل الثاني ٢٧:٧). وفعل “بنى” المستعمل في هذه الآية ينطبق بالسواء، من حيث اللغة العبريّة، على بيت من حجارة، وعلى بيت من أبناء. تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ فعل “بنى” في اللغة العربيّة يُستعمل أيضاً في سياق التوالد والتناسل، فيقال عن الرجل “بنى بامرأته” للدلالة على المعاشرة الزوجيّة. فإذ كان داود يخطّط لبناء الهيكل الحجريّ، أخبره الله بأنّه يريد أن يبني له ذرّيّة أبديّة، ذرّيّة مولودة من الكلمة والروح.

يسوع المسيح أتى وحقّق كلّ الوعود المذكورة عنه في العهد القديم، ومنها تلك المختصّة بداود. غير أنّ يسوع يعلن أنّه أعظم من داود، ويؤكّد أنّه ربّ داود (متّى ٤٣:٢٢). مجيء يسوع حقّق انتظار الشعب بشكل أكثر روعةً ممّا كانوا ينتظرونه، فيسوع لم يتّخذ فقط صورة “داود العبد” وراعي شعب الله كما ورد في نبوءة حزقيال النبيّ: “وأقيم عليها راعياً واحداً ليرعاها عبدي داود” (٢٣:٣٤). بل هو الله نفسه جاء ليرعى شعبه ويخلّصهم، كما ورد أيضاً في سفر حزقيال “أنا أرعى غنمي وأنا أربضها يقول السيّد الربّ” (٣٤ :١٥). والربّ يسوع نفسه سيعلن يوم مجيئه الثاني: “أنا أصل داود وذرّيّته وكوكب الصبح الساطع” (رؤيا يوحنّا ١٦:٢٢).

في العودة إلى إنجيل اليوم، كان يسوع عابراً في مدينة أريحا في طريقه إلى أورشليم. وكان يسوع قد تنبّأ مراراً عديدة أمام تلاميذه عن المصير الذي ينتظره في أورشليم: “إنّ ابن البشر سيُسلم إلى الأمم ويُهزأ به، ويُشتم ويُبصق عليه، وبعد أن يجلدوه يقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم” (لوقا ٣٢:١٨-٣٣). أمّا التلاميذ فلم يدركوا معنى هذا الكلام إلى ما بعد الصلب والقيامة، إذ إنّهم لم يفتحوا عيونهم على حقيقة هويّة يسوع الإله المخلّص. لقد أصبح “برطيماوس” (اسم أعمى أريحا بحسب إنجيل مرقس ٤٦:١٠) مثال المؤمن الحقيقيّ، فهو قد “أبصر”، لا بعينَي الجسد فقط، بل تبع يسوع في ذلك الطريق الصاعد نحو الصليب.

طلب الأعمى إلى يسوع أن يبصر، فأجابه يسوع “أبصرْ” بحسب إنجيل لوقا، أمّا في إنجيل مرقس فيجيبه: “اذهبْ”، “إيمانك قد خلّصك، وللوقت أبصر، وتبعه في الطريق” (٥٢:١٠). ليست غاية المعجزة أن يرى برطيماوس بعينَي الجسد وحسب، بل أن يتبع يسوع، لذلك استعمل فعل الحركة “اذهبْ”. أمّا الأمر الأهمّ في هذه الحادثة فهي أنّ يسوع في نظر الناس ليس إلاّ “الناصريّ”، أمّا في نظر الأعمى، فإنّه ابن داود، لا كما كان يحلم به التلاميذ ملكاً أرضيّاً سوف يعيد المُلك إليهم، بل كما عرّف يسوع عن نفسه: المسيح المتألّم.

بعد هذه المعجزة يدخل يسوع إلى أورشليم، حيث تهتف المدينة مرحّبةً به وصارخةً: “مبارك الملك الآتي باسم الربّ” (لوقا ٣٨:١٩). غير أنّ إنجيل مرقس يضيف إلى هذا الهتاف عبارة ذات معنًى كبير: “مباركة مملكة أبينا داود الآتية” (١٠:١٠). لقد سبق الأعمى الذي من أريحا الجموع، فتنبّأ بهويّة يسوع قبلهم، فآمن به وتبعه. فإذا ما سألَنا الربُّ اليوم: “ماذا تريدون أن أصنع لكم؟”، نجيبه: “أن نبصر”.

عن نشرة رعيتي 2006

arArabic
انتقل إلى أعلى