جاءت إقامة اول ملك في العهد القديم مثابة تمرُّد على ولاية الله على شعبه. ذلك انه عندما اجتمع شيوخ اسرائيل وطلبوا الى صموئيل النبي إقامة ملك عليهم كجميع الأمم، ساء هذا الكلام في نظره، فصلّى الى الرب الذي أوحى اليه قائلا: “اسمع لكلام الشعب في جميع ما يقولون لك فإنهم لم يسأموك انت وإنما سئموني انا في تولّيّ عليهم” (1صموئيل 8: 7). فنقل النبي قول الله الى الشعب، وحذّرهم من تصرفات الملوك، من حيث تسلّطهم على أبنائهم وبناتهم ومواشيهم ومزروعاتهم، وبأنهم سيصيرون عبيداً لهم “فتصرخون في ذلك اليوم من ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم فلا يجيبكم الرب في ذلك اليوم” (1صموئيل 8: 18)… الا أن الشعب أصرّ على طلبه وأبى أن يسمع للرب.
وصار المُلك في اسرائيل، فكان شاول اول ملوكهم. وقد رذل الرب شاول من المُلك لأنه رذل كلام الربّ (1صموئيل 15: 23). ثم تولّى داود الحكم، وابنه سليمان من بعده وكان معروفا بحكمته وهو الذي بنى هيكل اورشليم. ولكن بعد سليمان انقسمت المملكة الى اثنتين: مملكة اسرائيل ومملكة يهوذا، وقامت الحروب بينهما والتحالفات مع الاجانب، وهذا جرّ الكثير من الويلات على الشعب كلّه.
ذكّرت سفر المزامير وكتب الانبياء بأن الله وحده هو الرب والملك والراعي، وبه وحده تليق الخدمة والطاعة. فها مرنّم المزامير يقول: “أُعظّمكَ يا إلهي الملك، وأبارك اسمك مدى الدهر والى الأبد” (44: 1)، ويتابع منشداً: “إن ملكوتك ملكوت جميع الدهور، وسلطانك في كل جيل فجيل” (144: 13). الا أن الأنبياء يشيرون الى انه سيأتي زمان يملك فيه الله على شعبه الى الأبد، وذلك بمجيء المسيح الملك المخلّص من بيت داود، ويكون شعبه مؤلَّفا من كل شعوب الارض. فإرميا النبي يقول: “ها انها ستأتي ايام يقول الرب أُقيمُ فيها لداود نبتا صدّيقا، ويملك ملك يكون حكيما ويُجري الحُكْم والعدل في الارض” (23: 5). اما زخريا النبي فيقول: “إبتهجي جدا يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت اورشليم، هوذا ملككِ يأتيك صدّيقا وديعا راكبا على أتان وجحش ابن أتان… ويتكلم بالسلام للأمم، ويكون سلطانه من البحر الى البحر ومن النهر الى أقاصي الارض” (9 :9-10) .
هذا الملك الذي تحدث عنه الأقدمون ليس سوى يسوع بن مريم الناصري الذي قال فيه الملاك جبرائيل يوم البشارة: “وهذا سيكون عظيما وابن العلي يدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على آل يعقوب الى الأبد، ولا يكون لملكه انقضاء” (لوقا 1: 32-33). وكل بشارة السيد المسيح تتلخّص في إعلانه الدائم باقتراب ملكوت السموات وبالإعداد له، وكثيرة هي الأقوال الواردة على لسان السيد والتي تشير الى أن ملكوت السموات قريب. إن الملكوت حاضر في هذا العالم منذ تجسُّد ابن الله وسكناه بين البشر، فعندما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله أجابهم: “لا يقال انه هنا او هناك لأن ملكوت الله في داخلكم” (لوقا 17: 21). وهذا الملكوت يدخل اليه من يثبت مع المسيح، لذلك يقول الرب يسوع: “فأنا أُعدّ لكم الملكوت الذي أَعدَّه أبي لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي” (لوقا 22: 29-30).
والجدير ذكره أن كل الأمثال الإنجيلية المتعلّقة بملكوت الله تتحدث عن المسيح مَلِكا. والذين يؤمنون به ويطيعون كلامه يملكون معه الى الأبد، “ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا من باركهم أبي، فرِثوا الملكوت المعَدّ لكم منذ إنشاء العالم” (متى 25: 34). والإشارات الى مُلك المسيح في حادثة الصلب كثيرة. فالجنود الذين جلدوه عيّروه بأنه “ملك اليهود”، وهذا اللقب كان احد الأسباب التي ساهمت في الحكم عليه بالموت، اما علّة الحكم عليه فكانت موضوعة فوق رأسه على الصليب: “هذا يسوع ملك اليهود” (متى 27: 37). لقد قتل اليهود المسيح لانه لم يكن ذاك الملك الذي يوافق مخيّلاتهم وأحلامهم الارضية، كان هو يُعدّ لملكوتٍ سماوي، بينما شغلتهم هموم هذه الدنيا وسلطانها. انهم لم يريدوا ملكا وديعا يملكون معه الى حياة أبدية، بل أرادوه ملكا يردّ لهم مُلكا أرضيا تَكون لهم فيه بعض الامتيازات الفانية. لهذا قتلوه.
المسيح الملك هو ذاك الذي سوف يأتي في ملكوته مع الملائكة ليملك الى الأبد مع أحبائه بعد أن يقضي على كل شر، “هؤلاء سيحاربون الحَمَل، والحمل يغلبهم لأنه ربّ الأرباب وملك الملوك، ويغلب الذين معه، المدعوّون المختارون الأمناء” (رؤيا 17: 14). وفي الرؤيا ذاتها يقول الكاتب: “ولن يكون ليل بعد الآن، فلن يحتاجوا الى نور سراجٍ ولا ضياء الشمس، لأن الرب الإله سيضيء لهم، وسيملكون الى ابد الدهور” (22 :5). اذا كان المسيح هو المَلِك الحقيقي وكل مَلِكٍ آخر فانيا بلا شك، فلماذا لا نكون كذاك التاجر “الذي وجد لؤلؤة ثمينة، فمضى وباع جميع ما يملك واشتراها”؟ (متى 13 :45-46). اللؤلؤة هي الملكوت، وشراؤها يعني (بالإضافة الى المعنى الأساسي اي توزيع الأموال على الفقراء) تبديل الحياة من الخطيئة الى التوبة، من عمل الشر الى الوداعة والسعي الى السلام، من البغض الى المحبة…
عن نشرة رعيتي 1998