Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

مثل الكرامين القتلة:

“1 وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَال:«إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. 2 ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ فِي الْوَقْتِ عَبْدًا لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ، 3 فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا. 4 ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا عَبْدًا آخَرَ، فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَانًا. 5 ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا آخَرَ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ، فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا. 6 فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضًا ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ ،أَرْسَلَهُ أَيْضًا إِلَيْهِمْ أَخِيرًا، قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي! 7 وَلكِنَّ أُولئِكَ الْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ! 8 فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ. 9 فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ، وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. 10 أَمَا قَرَأْتُمْ هذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ 11 مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا!» 12 فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا.” (مرقس 12: 1-12، متى 21: 33-46، لوقا 20: 9-19).

نستنتج من الاستشهادات ومن الآية 12 أن المثل موجَّه إلى رؤساء اليهود الدينيين. يعتبر القديس كيرلس الإسكندري أن هذا المثل يشكل مختصراً لكل تاريخ الشعب الإسرائيلي. وقد ورد في الترتيب نفسه عند الإنجيليين الثلاثة ويرد أيضاً في (إنجيل) توما الغنوصي (المقالة 65). تأتي الرواية مستوحاة من نصّين قديمين من الكتاب المقدس: في البداية يتمّ وصف الكرامين على أساس أشعيا 5: 1… وفي النهاية يستشهد بالآية المزمورية 17: 22-23. حسب الوصف المعروف للكرم (الذي يمثل الشعب الإسرائيلي)، غرس السيّد كرماً وأحاطه “بسياج” لكي يحفظه وحفر “معصرة” من أجل عصر العنب وبنى برجاً منه يراقب الكرم، خصوصاً في أوان القطاف. بعد كل هذه الأعمال التي تشهد على اهتمام السيّد بكرمه يسلّم الكرم إلى كرّامين قبل أن يسافر. عندما أتى الوقت المناسب أرسل عبده لكي يأخذ الثمار، لكن الكرّامين ضربوه وطردوه (في روايات الإنجيليين الثلاثة توجد فروقات تختص بعدد العبيد والرسل وهذا يعود إلى تقليد كل من الإنجيليين الثلاثة). وقد لاقى العبد الثاني المرسل المصير نفسه، وقد شجّوه (ضربوه على رأسه) وأهانوه. والثالث قتلوه. وآخرون كثيرون، منهم من جلدوهم ومنهم من قتلوهم. وفي النهاية أرسل ابنه الحبيب الذي قتلوه حتى لا يبقى وارث ينتزع منهم الكرم. أما عن موقف صاحب الكرم فيجيب يسوع الذي يروي المثل: سيأتي ليعاقب أولئك الكرّامين ويسلّم الكرم إلى آخرين. وبواسطة الآية المزمورية في نهاية المقطع يركّز على شخص الابن المزدرى به الذي سوف بصبح الحجر رأس الزاوية للكرم.

نستخرج من هذا المثل ثلاث نقاط مهمّة: محبّة السيّد لكرمه التي تفوق كل منطق بشري، قتل العبيد المرسلين وبخاصّة قتل ابنه من قبل الكرامين، وأخيراً تسليم الكرم إلى عملة آخرين.

أ- يشير عمل السيّد بكل تأكيد إلى عمل الله المتواصل ومحبته لشعبه. إنّ تجاوز المنطق البشري هو في إرسال ابنه. فالإنسان الذي يفكر بمنطق هذا العالم لا يرسل ابنه، آخذاً بعين الاعتبار مصير المرسلين من قبله. لكن موقف الله، رب الكرم، أمام سلوك الكرامين الرديء الذين استلموا كرمه، هذا الموقف كلّه يشهد حسب القديس يوحنا الذهبي الفم على “شرّهم وعلى محبة الله المُرسِل إلى البشر”.

ب- يشكل إرسال الابن وموته القمّة المختصّة بالمسيح في هذا المثل كله، ويعود الإنجيلي إلى هذه القمة في الآية المأخوذة من المزمور (117: 22-23). إن حجر الزاوية المرذول حسب المزمور هو اسرائيل، وحسب العهد الجديد (أنظر أعمال 4: 11، رومية 9: 33، 1بطرس 2: 6)هو المسيح الذي أبعد رؤساء إسرائيل وكوّن أساس البناء الجديد الذي هو الكنيسة.

ج- يرد تسليم الكرم إلى عملة آخرين عند الإنجيليين كلّهم، لكن متّى يركز عليه أكثر من غيره بقوله: “إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمّة تعمل ثماره” (متى 21: 43). من هي الأمّة التي سوف تعطى الثمار؟ “فقراء” إسرائيل أم شعب الله الاسختولوجي أي الكنيسة؟ يميل الآباء إلى القسم الثاني. فيقول مثلاً القديس كيرلس الإسكندري حول الموضوع: “النص منسوب إلى عمّال العهد الجديد”، أما زيغافنوس فيعتبر “أساقفة المسيحيين” الكرامين الجدد.

إلى جانب الملاحظات الثلاث السابقة يختصر القديس يوحنا الذهبي الفم معاني المثل السابق كما يلي: “يشير المثل إلى نقاط كثيرة: عناية الله بشعبه، قتل الكرامين للعبيد منذ البداية، عدم أخذ ثمار من الكرامين، إرسال الابن رغم عدم عودة الأنبياء المقتولين، ظهور الله واحداً في العهد القديم والجديد، حدث الموت الإنجاز العظيم، الحكم النهائي بالصليب وتحمّل اليهود حتى النهاية، دعوة الأمم وسقوط اليهود”.

السؤال عن دفع الجزية لقيصر:

“13 ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. 14 فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟» 15 فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ.» 16 فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ:«لِقَيْصَرَ». 17 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.” (مرقس 12: 13-17، متى 22: 15-22، لوقا 20: 20-26).

كان دفع الجزية للرومان الواجب الأول الذي يقدّمه التابعون لسيّدهم. ولذلك كان اليهود يبغضون مثل هذه الضريبة. أما الغيّورون فكانوا يعتبرون أن من واجبهم الديني أن يمنعوا الشعب عن تأدية الجزية. في مثل هذا الجو كان يمكن لجواب غير محكم يقدّمه يسوع إلى الفريسيين وإلى الهيرودوسيين (الذين كانوا يحافظون على صداقتهم مع الرومان) السائلين إياه إن كان يجب أن تُعطى الجزية لقيصر، كان يمكن لمثل هذا الجواب أن يؤدي إلى صدام بينه وبين الشعب أو الرؤساء الرومانيين. لكن يسوع يجيب بطريقة قاطعة، ولهذا يتعجبون حسب ما جاء في الآية 17. يطلب يسوع أن يرى ديناراً، ويسأل لمن هي الصورة والكتابة. وبعد الإجابة بأنها لقيصر (أي تيباريوس)، يقول “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (الآية 17). كان الدينار الفضي الروماني في أيام المسيح يحمل صورة تيباريوس مع إكليل الغار وكتابة تقول (تيباريوس قيصر ابن اوغسطوس الإلهي، اوغسطوس)، وعلى الوجه الثاني كتابة [PON (tifex) MAX (imus)] وصورة لأم قيصر وهي جالسة على العرش وحاملة في يدها اليمنى صولجاناً وفي اليسرى غصن زيتون.

يناقض جواب يسوع الواضح موقف الغيورين. فهو لا يعارض دفع الجزية لقيصر طالما أن شكل العالم الحاضر هو السائد. لكن إلى جانب هذا الواجب العالمي هناك وصية الله للإنسان، وهي المعلنة كاملة في المسيح: وصية التوبة أمام ملكوت الله. فلتُدفع الجزية المختصّة بقيصر بدون تذمر أمّا ما يطلبه الله من توبة وطاعة لمشيئته المعلنة فليعطاه من كل القلب.

ويجب ألا نخلط بين الاثنين، أي ألا نلجأ إلى أقوال مستوحاة من الضمير الديني لكي نتهرّب من واجباتنا العالمية. لكي إلى جانب الجزية أو أي واجب آخر ألا يستطيع قيصر أن يفرض أموراً أخرى كمثل عبادته كإله من قبل أتباعه؟ “إن كانت العملة تحمل صورة قيصر فالإنسان يحمل صورة الله“. يمكن لقيصر أن يطالب بالضريبة، لكنه لا يمكنه أن يطالب بالعبادة التي تخصّ الله وحده (Grundmann).

أمّا ثيوفيلكتوس فيعمّم عبارة “ما هو لقيصر” ويشير إلى واجبات أخرى للإنسان، مثلاً اهتمامه بالجسد: “قيصر هو حاجة الجسد الضرورية لكل واحد منا، فيطلب الرب يسوع بأن يعطى الجسد ما يلزمه من القوت ومن المأوى الضروري”.

سؤال الصدوقيين عن القيامة:

“18 وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: 19 «يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَدًا، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. 20 فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. 21 فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضًا نَسْلاً. وَهكَذَا الثَّالِثُ. 22 فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا. 23 فَفِي الْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ». 24 فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُمْ:«أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ؟ 25 لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ. 26 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللهُ قَائِلاً: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ 27 لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذًا تَضِلُّونَ كَثِيرًا!»”. (مرقس 12: 18-27، متى 22: 23-33، لوقا 20: 27-40).

بين الآيتين 17 و18 يضع بعض المفسرين رواية الإمرأة الزانية (يوحنا 7: 35-8: 11) مدخلين إياها في مناقشات يسوع مع رؤساء اليهود الدينيين. لكن لا توجد شهادة عن ذلك في أية مخطوطة تابعة لتقليد النص الحاضر، ولذلك لن نبحث في مثل هذه الرواية الآن.

في الآية 18 يظهر الصدّوقيون أمام يسوع. هؤلاء ينكرون القيامة ويحاولون أن يهزأوا بالمؤمنين بها مستعينين برواية يأخذ فيها سبعة أخوة الإمرأة نفسها بعد موت الأخ الأكبر بالتدرّج (وفقاً لوصية الناموس في تثنية 25: 5-10 التي تقول إن مات الرجل دون أن يكون له ابن ينبغي للزوجة أن تقترن بأخيه). ويسألون يسوع إلى مَن مِن السبعة تكون الإمرأة عند قيامة الأموات؟

ينتهر يسوع محدّثيه على ضلالهم وجهلهم للكتب لأن لديهم مفاهيم غليظة عن الحياة الأبدية. فاستمرار الحياة لا يرتكز على شخصية هذا الإنسان أو ذاك بل على الإله الحي “إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب” (خروج 3: 2-6) الذي تراءى لموسى في “العليقة” والذي “ليس إله أموات بل إله أحياء”. ويقود جهل الكتاب إلى جهل قوّة الله الذي يوطّد الإنسان في عالم جديد حيث تزول العلاقة الزوجية السائدة في العالم الحاضر، أمّا الناس فيصبحون “ملائكة في السماء”. ويريد يسوع أن يقول في النهاية: لو آمن الصدوقيّون بقوّة الله لما دخلوا في مثل هذه المناقشة غير المجدية التي يرمون منها أن يستهزئوا بالقيامة التي لا يؤمنون بها. إلا أن القيامة بالنسبة للمسيحية هي خليقة جديدة لله تبيّن بشكل ظاهر قوته غير المحدودة.

سؤال أحد الكتبة ما هي أكبر وصية:

“28 فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ:«أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» 29 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ:«إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. 30 وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. 31 وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». 32 فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ:«جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. 33 وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ». 34 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ:«لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ!”. (مرقس 12: 28-34، متى 22: 34-40، لوقا 10: 25-28).

ورد هذا السؤال أيضاً عند الإنجيليين الآخرين مع الفرق أن السائل عند متى ولوقا أراد أن “يجرّب” يسوع (عند لوقا يُستخدم النقاش كتهيئة لمثل السامري الشفوق)، بينما عند مرقس طُرح السؤال عندما أدرك الكاتب أن يسوع قد “أجاب حسناً” الصدوقيّين. ويقول مرقس في آخر الرواية أن يسوع مدح حكمة محدّثه وقال له: “لستَ بعيداً عن ملكوت الله”. إن سؤال الكاتب مبرّر بسبب المناقشات اللامتناهية حول عدد وصايا الناموس وحول أهم وصية وكذلك حول إمكانية اختصارها. هكذا مثلاً تتحدث الروايات الربّانية عن واحد من الوثنيين الذي قَبْل أن يصبح من الدخلاء (المهتدين) توجّه إلى الربّان المعروف شمّاي وطلب أن يعلّمه الناموس وهو واقف على رجل واحدة، لكنه طُرد من عنده، فتوجّه إلى الربّان هِلاّل الذي اختصر له الناموس بالجملة التالية: “ما تبغضه أنت لا تفعله للغير، هذه هي التوراة وكل ما عدا ذلك تفسيراً لها”. وغيرهم من معلمي الناموس اليهود لا يميّزون بين وصايا مهمّة ووصايا غير مهمّة، بينما يعتقد آخرون أن 613 وصية تلخّص في بضع وصايا. هكذا حسب الربّان شملاي استلم موسى على جبل سيناء 613 وصية اختصرها داود في المزمور 14 إلى 11 وصية، وأشعيا 33: 15 إلى 6 وصايا، وميخا 6: 8 إلى 3 وصايا، وأشعيا 56: 1 إلى وصيتين، وأخيراً حبقوق 2: 4 إلى وصية واحدة: “أما البار فبالإيمان يحيا” (حسب تقليد آخر الاختصار الأخير إلى واحدة حصل عند عاموص 5: 4).

أجاب يسوع عن سؤال الكاتب بذكره الوصية الأولى والأهم من اللائحة الواردة في تثنية 6: 4-5 وهي محبّة الله الكليّة (هذه هي صلاة الـ Schema التي يتلوها الإسرائيليون صباحاً ومساءً). ثم يذكر محبة القريب كوصية مساوية للأولى (لاويين 19: 18). أنظر أيضاً رو 13: 8-10 “لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس لأن لا تزنِ لا تقتل…، وإن كانت وصية أخرى، هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك…، فالمحبة هي تكميل الناموس”.

كان الكاتب يعرف جيداً العهد القديم فوافق يسوع ذاكراً جملتين مأخوذتين من تثنية 4: 35 و1ملوك 15: 22، فاختبره بذلك المعلّم المتكلّم معه.

مناقشة حول المسيا كابن داود:

“35 ثُمَّ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ:«كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ 36 لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. 37 فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبًّا. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟» وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ.”. (مرقس 12: 35-37، متى 22: 41-46، لوقا 10: 41-44).

كل المناقشات مع رؤساء اليهود التي يقدّمها الإنجيلي تتكلم عن مواضيع أساسية بالنسبة ليهودية ذلك العصر. إن كان الإنجيليون الموقّرون قد سجّلوا هذه المناقشات فلأنهم يريدون أن يقدّموا جواب الكنيسة في تلك الأيام على هذه الأسئلة وعلى اتهامات اليهود.

يطرح يسوع نفسه المناقشة الأخيرة وهو يعلّم في الهيكل. يذكر وجهة نظر أحد الكتبة الذي يقول إن المسيا هو “ابن داود”. لن نجد فيما بعد أسئلة مطروحة من اليهود ليسوع بل انتقاداً قاسياً لليهودية من قبل المسيا المتوجّه إلى الآلام. يستشهد يسوع بالآية المزمورية 109: 1 ويسأل: “كيف يعتبر الكتبة أن المسيح هو ابن داود بينما في المزمور يدعوه النبي بوحي إلهي ربَّاً له؟”. وأمام عدم إجابة الحاضرين على السؤال (يذكر متى أن أحداً لم يستطع أن يجيب)، يتوجّه يسوع ضد التوقّعات المسيانية اليهودية. هو لا يدينهم لأنهم يعتبرون المسيا من نسل داود بل لأنهم لا ينظرون أبعد من أصله بحسب الجسد. لا يدركون أن المسيح هو الرب الذي يُخضع كل مناهضيه. لقد أوردت الكنيسة مثل هذه المناقشة ليسوع لكي تقول ليهود ذلك العصر أن المسيا ليس الملك السياسي المنتظر من قبلهم والمنحدر من نسل داود، إنه ربّ الجميع الذي ينبغي علينا كلّنا أن نخضع له.

انتقاد الكتبة:

“38 وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ:«تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، 39 وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. 40 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».” (مرقس 12: 38-40، متى 23: 1-36، لوقا 20: 45-47).

يعمد الإنجيلي إلى الإشارة في آخر الآية 37 إلى سرور الجمع من أجوبة يسوع عن أسئلة رؤساء اليهود الدينيين، تاركاً للقارئ أن يفهم بصورة غير مباشرة أن هؤلاء ما كانوا يحظون بالإكرام عند الشعب. أمّا في الآيات 38-40 فينتقد يسوع غرور الكتبة ورياءهم (هنا نصّ متّى 23: 1-36 أطول لأنه يذكر انتقادات أطوال ضد الفريسيين والكتبة. ومن هذا المقطع الآيات 23: 1، 6، 7أ، 14 وحدها تتطابق مع آيات مرقس 12: 38-40).

لقد انتقد يسوع بصورة خاصة عادة الكتبة في التجوّل “بالجبب”، في اجتذاب التحيّات في الأسواق، في تفضيل المجالس الأولى في المجامع والمتكآت الأولى في الولائم إلخ. ما هي تلك الثياب التي يشير إليها في الآية 38؟ حسب البعض هي “الطيالسة” أو المنتية التي يرتديها عادة المثقفون (عالمو الناموس)، وحسب البعض الآخر هي ثياب السبت الاحتفالية. عند متّى 23: 5 بدل “المشيء بالثياب” يذكر أنهم “يعرّضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم”. بواسطة كل هذه التصرفات يحاول الكتبة أن يتميّزوا عن بقية الناس متعالين عليهم دون أن يكونوا أفضل منهم في الواقع ولذلك يوصفون بالرياء.

في الآية 40 يُنتقد جشع معلّمي الناموس الذين يدعون الاهتمام بالأرامل المعزولات (وبالأيتام كما تضيف بعض المخطوطات) فيكونوا ظاهرياً حُماتهنّ الشرعيين بينما هم في الواقع يأكلون ثروتهنّ. يتظاهرون بالتقوى الخارجية فيطيلون الصلوات لكي يعتقد الآخرون أنهم أتقياء. بعض المخطوطات لا تتضمن حرف العطف “و” الذي يربط بين “لعلّة يطيلون الصلوات” و”يأكلون بيوت الأرامل”، ويكون عندئذ معنى الجملة بكاملها أنهم يتظاهرون بالصلاة من أجل الأرامل ليستولوا على ثروتهنّ. لا يدين المسيح هنا الصلوات الطويلة (وهو الذي كان يصلّي في بعض الأحيان “طوال الليل”) بل يدين رياءهم من أجل أن “ينظر إليهم الناس”.

في آخر الآية 40 يقول إنهم سينالون دينونة أعظم لأنهم يسترون خطيئتهم بلباس التقوى الكاذب. لا يكذب المرائي فقط تجاه الله وتجاه الناس بل يكذب أيضاً نفسه. يكشف المسيح عن أعماق قلب الناس ويطلب توافقاً كاملاً بين المواقف الداخلية والمظاهر الخارجية.

فلسا الأرملة:

“41 وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. 42 فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. 43 فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْجَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، 44 لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا».” (مرقس 12: 41-44، لوقا 21: 1-4).

بعكس تقوى الكتبة الكاذبة التي استحقت الإدانة، يمدح يسوع هنا التقدمة الصادقة لأرملة تدخل الهيكل. لا يصحّ قول المفسّرين هنا أن هذه الحادثة ترتبط بما يسبقها بكلمة “أرملة”. فالصلة أعمق بين المقطعين، لأن الإنجيلي يريد أن يشير إلى التناقض بين التقوى الكاذبة والتقوى الصادقة.

بعد ساحة الأمم يدخل اليهود عن طريق الباب “الجميل” إلى ساحة الهيكل الداخلية ساحة النساء. في هذه الساحة توجد “الخزانة” أي صندوق المال الذي يتكوّن من 13 صندوقاً لها من الجانب الأعلى شكل بوق وهي مخصصة للتقدمات إلى الهيكل. يراقب يسوع الذين يقدّمون أموالهم. وكان من المستطاع مراقبة هذه التقدمات لأنهم كانوا يعطونها أولاً للكاهن المعيّن. الذي بدوره يرميها في الصنادق. ومن بين المقدّمين لاحظ يسوع الأرملة التي قدّمت فلسين (يحوّلها مرقس إلى عملة رومانية في الآية 24 “قيمتها ربع” أو Kodrantis. أما الفلس فهو أصغر عملة نحاسية تساوي نصف كودرانت أو 1/8 أسارية أو 80/1 دينار). يعلّق يسوع على تقدمة الأرملة في الآيتين 43-44 ويقول إن تقدمتها تشكل ثروتها بكاملها لأنها تأتي من إعوازها. ولذلك هي أهم من تقدمة الآخرين الذين يقدّمون من فضلتهم. ليست التقدمة المفضلة عند الله تلك التي يقدمها الإنسان دون توجّع بسبب ضمانه ثروته المتبقّية بكاملها، بل هي التي تسبب عوزاً عند المعطي. المهم هو “المعطي وليس العطية، العنصر الداخلي الروحي وليس الحدث المادي، درجة التضحية وليس قيمة التقدمة” (Trembélas). (1)


(1) إنطلاقاً من حادثة “فلسا الأرملة” فهمت الكنيسة أن التبرع لها من قبل المؤمنين، يجب أن يكون من فيض القلب، ولذلك لا نجد في الكنيسة الأرثوذكسية ما يُسمى بـ “التعشير” أي العشور. لأن “العشور” تعكس اهتماماً بالمال وليس بالإنسان. فلا يتساوى إنساناً يُقدم من فائض ماله مع إنساناً يقدم من لقمة عيشه، لأن كليهما قدم العشور. دفع العشور هو تهوّد بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فاليهود لغلاظة قلوبهم فُرِضت عليهم “العشور”، وأما في كنيسة المسيح لا يوجد أي فرض. بل كل إنسان يُقدم من قلبه. وهنا نقدم مثلاً عملياً على أن دفع العشور إنما هو تهوداً، وإن استخدامها إلى الآن من قبل البعض لا يعني إلا حباً بالمال:

لنفرض أننا نعيش في دولة متوسط المعيشة فيها 500$. وكان هناك رجلين، أحدهما راتبه الشهري 1000$ والآخر 400$. فلو دفع الأول العشور سيدفع مبلغاً قيمته 100$ في حين أن الثاني سيدفع مبلغاً قيمته 40$. فبحسب الظاهر نرى أن الأول قد عشّر بمبلغ أكبر. ولكن حسب الجوهر مع أن الثاني قد عشّر بمبلغ أقل، إلا أنه اقتتطع من لقمة عيشه وعشّر، في حين أن الثاني عشّر من الفائض عنده… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى